صحيفة المثقف

الرثاء في الشعر العراقي المعاصر: قصيدة "طشّار الرعد" للشاعر فائز الحداد

  واختبأت

  كان يبحث عني

  وأنا كنت وراءه

  قحب بشع

  يبحث دائما عن مأوى .......)

                                    الشاعر الإيطالي

                                    (فرانكو لوي)

(هل بالعنق المقطوع، ترتفع، حقاً، رأس العدالة ؟؟)

                                       (أدونيس) 

 

 الشاعرفائز الحداد صاحب أول مجموعة شعرية مقاومة تناهض الاحتلال الأمريكي لوطنه العراق، وهي مجموعة "لا هوية لباب" والتي صدرت عام 2004 على حسابه الشخصي، وقد تحمل بسببها - مما ستكون لنا معه وقفة مقبلة – مضايقات كثيرة  من قبل الاحتلال. وخلال هذه السنوات كان الحدّاد يطرق بمطرقته الشعرية الثقيلة على مفاصل كل المحن والمعضلات التي حاصرت بلاده . ومن بين تلك النائبات الفاجعات هو استشهاد صديقه الشاعر "رعد مطشر"، والذي يرثيه بهذه القصيدة والذي – رعد - ما كان ممكنا أن يستشهد ويُمثل به لولا الخراب وشبح الفوضى الذي جاء به الاحتلال البغيض .

 وحين نراجع عنوان القصيدة "طشّار الرعد" ببنائه التعبيري العامي فسنجد أنه محوّر في لعبة دلالية من اسم الشهيد نفسه، يوقف الإيحاءات الرمزية على قدميها ليمنح الاسم سمة مقاومة للفناء يحاول الإلتفاف بها على قدرة الحي الذي لا يموت: الموت، فيوغل في تجسيد القدرة الخارقة للهوية الإسمية الجديدة التي يشكلها الشاعر من المادة الأولية لاسم الراحل نفسه . ورغم أن الحدّاد قد عُرف كشاعر قصيدة نثر أصلا إلا أنه شاعر مجيد في العمود الشعري ولهذا نجده يصوغ تقديما لقصيدته من بيتين عموديين: (هي هكذا غدرا نموت .. وبلا قبور أو بيوت / أشعارنا أقدارنا

 لشباك كف العنكبوت) ليعكسا مهانة الإنسان ورخص ثمنه حينما يُقطّع ويُرمى في العراء . ومن سمات نص الحدّاد هو أنه من أصحاب الصور الذهنية المركبة التي تتطلب جهدا عقليا شعريا لتفكيكها وإعادة تركيبها من ناحية، وأن استهلال القصيدة يحمل نوى المهيمنات الرمزية والدلالية والجمالية التي ستسيطر على ساحة القصيدة حتى ختامها من الناحية الثانية، وهو أمر ناجم عن قدرته الإحترافية العالية . يستهل الشاعر مرثيته بالقول: (زن الماء بـ " هيبة " المساقط / لتعي العبور / رهبة الإعتذار / لا تبرأ جنابة الشعر / فلا تُطلق جرعتك المثلى / لحظة الّلظى / أيها المبحر

 في الحشرجة) . ويدشّن الشاعر استهلاله بخطاب يستخدم فيه ضمير الشخص الثاني، وبالفعل الآمر "زن"، وهذه سمة أسلوبية أخرى من سمات نص الحدّاد الشعري، حيث نجد أن أغلب قصائده قائمة على صيغة الخطاب هذه . وفي مطلق الحالات يكون الشخص الثاني / المخاطب هو ضمير الشاعر نفسه، حالة من الإنفصال عن الذات تكثّرها كفعل دفاعي ضد الموت . وعن هذه الطريق " يحيي " الشاعر صديقه الراحل من خلال الحوار والنصح الآمر الحيي الذي يُلطّف من حدّته الطلبية الرجاء الشعري الآسي من جانب وقداسة الهدف المخاطب بركائز مهابته الدينية والاجتماعية التي فتح مساراتها الإهداء

 من جانب آخر . كما أن سطوة المفردات " المائية " إذا جاز التعبير قد قامت بموازنة مفردات الثكل الحادة . ففي أي لحظة فقدان جسيمة يميل الأنا المفجوع إلى استخدام " آلياته " الدفاعية أولا وسلوكاته الخلودية ثانيا . وفي مجال الأولى يأتي " الإنكار " الذي تلتف صيغه الشعرية على الصيغ التحليلنفسية المعتادة، فتكون مخاطبة الغائب شكلا من أشكال إنكار غيابه، وفعلا يستحضره، مثلما يأتي اللجوء إلى الماء – الرحم الأمومي الحاني – وسيلة خلودية تكفل الديمومة والانبعاث والتجدد ممثلة بممارسة شموع الخضر الطقوسية لدى العراقيين وهي الموروثة من أيام سومر

 المجيدة: (وكي تتبرأ من لوثة التمر / حج في " شموع الخضر " / مسبحا للشمال / فقد ازداد شوكا بلحى الشيوخ) . وحين يستذكر الشاعر مناقب فقيده فإنه يستعيدها في ظل احتمالية (ربّ) تعطّل - شعريا – حقيقة الرحيل النهائي والأبدي والتي أصبحت من صخور ذاكرة الماضي: (فأنت " غجري " وصوتك شارخ / وربّ حجارة من سجيل / تبحث عن رأسك أيها الحبشي) . والحدّاد من الشعراء القلائل الذين يعمدون على توفير أواصر رابطة بين أبيات أو مقاطع قصيدته وصورها اعتمادا على "التصرّف" بمرادفات المفردة الواحدة من جانب، وعلى التوليد الصوري المعتمد على إيحاءات تلك المفردة أو

 مرادفها في موضعها الجديد من جانب آخر وهي سمة أسلوبية مضافة . فبعد الأبيات السابقة التي وصف فيها خلّه الراحل بالغجري صاحب الصوت الشارخ والحبشي الذي تبحث حجارة السجيل عن رأسه يخاطب الفقيد مباشرة بالقول: (ومالك في ارتداد الصخور / غير سعاة عميان، وربابة فانية !!) . فتزداد حدّة الإحباط بسبب تهالك الربابة التي من المفترض أن يصدح بها صوت الغجري، وبفعل مفارقة عمى السعاة الصادمة وسط ارتداد الصخور وليس الـ " حجارة " التي تبحث عن رأس الحبشي المارق . وفائز يزاوج دائما بين ما هو وجودي ثابت وأصيل كمعضلة الموت مثلا، وبين تحولات الحياة اليومية

 في شأنها السياسي الذي تسبب في ضياع دم الفقيد العزيز، منطلقا – أي الشاعر – من إدراك حاد لدوره الاجتماعي تجاه وطنه، ليس بمعنى الداعية السياسي الكريه كما يستفز ذلك التصور الخاطيء الكثيرين، ولكن بمعنى الدور الإنساني الكوني للشاعر الذي يعد نفسه مسؤولا عن أية شاة تنفق على ضفاف الفرات رغم أنه لا يمتلك صلاحية سلطان . ولهذا فهو لا يترددد في الإعلان عن أن لعنة " النفط " وفساد الذمم والقيم وطوفان رموز الطغيان هي المخاطر التي كان على الفقيد – وهو ابن قلعة كركوك – أن يحاذر منها وينأى بذاته العزلاء عن شرورها: (إمسك الليل ونم خارج " القلعة " /

 الطرق غرقى بالمفارز / وأمامك ريح / تسرج الخيول بعتاد النفط / ولا قهوة في الخيام لدمك المذر) . وهنا ؛ في الخيام الخاوية جناس دلالي يضاعف من خيبة الأشواك الطاعنة في لحى الشيوخ، الشيوخ الذين يتعالق اسمهم بدورهم بالنفط فتتشكل صورة كلية للخراب الشامل الذي سوف يكون من تحصيل حاصل شروره ضياع الإنسان وهدر دمّه ممثلا برعد " (قد أهدروك في القبائل / نخلة " غازية " ولا من ملاذ) . وهنا، وبعد شوط غير قصير من مسار القصيدة، يعود الشاعر ليخلق مقابلة بين الراحل الذي حج مع شموع " خضر الياس " شمالا، وبين تمني المثكول بملاذ آمن لنعش خلّه جنوبا، فهناك في

 الشمال حيث الـ " ترك ستان " .. حيث لا سطوة إلا للموت والخراب والدمار .. وحيث الأرض التي " يترك " فيها الشهداء في العراء: (لعل نحلة ملكية / تحمل نعشك إلى الجنوب / فالشعر نبيذ مج / في رضاب " الترك ستان ") .. وعلى ذروة الخيبة هذه يطلق الشاعر تساؤله المرير والمعاتب لرعد .. بعد سلسلة تحذيرات وطلبات لن تفي بشيء لكنها موجهة للأحياء منا .. والأهم لذات الشاعر نفسه المتماهي مع فقيده .. مستغلا ما يمكن أن نسميه بالتوليد الإيحائي الذي تستنهضه مفردة الأرض / المقاطعة الموحية " الترك ستان " التي ستختلط حتما بما مخزون في ذاكرتنا التاريخية الغائرة عن الذيول

 اللزجة لذلك الوجود الذي يلعب على جناسه اللغوي الماكر فائز الحدّاد ليقابل بين جملة " أتى بك " العربية ومفردة " أتابك " التركية التي تعني " السيّد " لتضاعف من وقع الفجيعة وانكسار تلويحة الوداع الأخيرة وسط " طشّار رعد " الأرواح المدوّي: (فمن أتى بك / يا " أتابك " بفرمان مزوّر / لتغزو القشلة يا " رعد " ؟؟؟! / ... وداعاً ..) .    

 

حسين سرمك حسن – دمشق

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1205 الخميس 22/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم