صحيفة المثقف

تأثير الثقافة الإسلامية على اليهود القرائين*(1-3) / جعفر هادي حسن

وكان حالهم مختلفا عن حال يهود أوربا،الذين كانوا معزولين عن مجتمعهم وغير مسموح لهم بالمشاركة فيه،فقد كان يهود الدولة الإسلامية مشاركين في كثير من جوانب الحياة في المجتمع وناشطين فيها،،وكان أحد أوجه تفاعلهم مع الحياة الإجتماعية، أنهم تعلموا اللغة العربية وكتبوا مئات الكتب فيها.ويتبين لنا من خلال النتاج العلمي والأدبي الذي وصلنا منهم، مدى تاثرهم بالثقافة الإسلامية بصورة عامة. ولم يكن هذا التأثير على جانب معين من جوانب المعرفة، وإنما شمل الكثير منها، كالأدب والفلسفة والنحو وعلم العروض واللغة وعلم الكلام وغيرها، وكان الباحثون اليهود قد شخصوا هذا التاثير وميزوه  وتحدثوا عنه،، وسأقتصر هنا على بعض الإقتباسات من أقوالهم دون غيرهم.

 يقول ليو بك، وهو أحد زعماء الحركة اليهودية الإصلاحية المعاصرة

"إن اليهود مدانون وممتنون بعمق للحضارة العربية، ويجب أن يعتبروا هذا الإمتنان فريضة من فرائض الله لايجوز أن ينسوها" أما س. وسرستروم فهو يرى  " أن المسلمين قدموا للجماعة اليهودية الوسائل الثقافية والإجتماعية، التي حافظوا (بها) على استمرارهم. "[1] وهذا الكلام على إيجازه له دلالة مهمة. وأرى من المناسب أن أضيف إلى هذين الباحثين، رأي أحد المستشرقين المعاصرين –– وهو المستشرق المعروف برنارد لويس، لأنه ذكر رأيه بشيئ من التفصيل عن هذا الموضوع، ولأن شهادته من جانب آخر تكتسب أهمية في هذا المجال، ليس فقط  لكونه مستشرقا يهودياً معروفا على نطاق واسع، بل أيضا لأن موقفه من الإسلام والمسلمين، منذ فترة طويلة وما زال موقفا ناقدا وغير ودي، بل شديد النقد، لذلك يصبح رأيه في تأثير الثقافة الإسلامية على اليهود واليهودية ذا مغزى وأهمية خاصة .

 فهو يقول :

"ففي موضوع الفلسفة وحتى علم الكلام، يمكننا أن نقول بدون تردّد، بأن التأثير كان من الإسلام على اليهودية، وليس العكس وكذلك صياغة المعتقد الديني على شكل مبادئ، والذي هو شيء غريب على اليهود في عصر التوراة، وكذلك في عصر التلمود. إن ظهور علم الكلام اليهودي، كان قد بدأ متكاملاً في البلاد الإسلامية، وكان ظهوره على أيدي الذين استعملوا مفاهيم علم الكلام الإسلامي ومفرداته، وهذا أيضاً يقود إلى تأثير مهم آخر، وهو تأثير المفردات العربية على اللغة العبرية . ومعروف أن اللغة العربية والعبرية،هما لغتان من أصل مشترك واحد، ولما كانتا كذلك فإن تقليد إحداهما للأخرى، واستعارة مفردات الواحدة من الأخرى، هو شيء سهل. وكان اليهود المتعلمون في البلاد الإسلامية، يجيدون اللغتين العربية والعبرية بشكل جيد، وإن قسماً من المفردات الفلسفية والعلمية في عبرية القرون الوسطى، والذي دخل الكثير منها في العبرية الحديثة، كان قد جاء من خلال الترجمات العربية.

وهذا يقود إلى شيء أكبر، وهو موضوع تأثير العربية على "فيلولوجي" العبرية،( كعلم الصرف وغيره). فاليهود الذين كانوا يهتمون بدراسة اللغة العبرية من أجل فهم أفضل للتوراة، اتبعوا طرقاً كثيرة استخدمها وابتدعها العلماء المسلمون من أجل دراسة النص المقدّس. فأصل القواعد وتطورها ونموّها وعمل المعجم، والرغبة والجهود من أجل إثبات أصالة النص (المقدس)، هي متشابهة بشكل واضح في الديانتين. وهنا لابد أن يبرز سؤال، فيما إذا كان هناك علاقة بين الماسورانيين[2] الذين قاموا على تحقيق وتثبيت النص التوراتي، وما قام به المسلمون نحو القرآن من عمل شبيه، والذي هو من المحتمل أن يكون أسبق زمناً. كما أن تأثير المسلمين على اليهودية، كان أبعد من عالم الفكر، ومجال العلوم، لأنه قد أثر حتى على الطقوس.

وفي الأدب والفن فإن تأثير المسلمين على اليهود كبير جداً، وهو من هذه الناحية تأثير من جانب واحد تقريباً، وليس تأثيرا متبادلاً. وإن الشعر العبري في العصور الوسطى، قد قلّد الطريقة والتقنية العربيتين بشكل واضح جداً، بل الواقع (نجد هذا) في كل نظام الشعر من مصطلحات ورموز. وعلى الرغم من أن كل هذا مكتوب بلغة هي ليست من اللغات الإسلامية المستعملة، ولكن الشعر العبري في العصور الوسطى، وكذلك النثر يعتبران جزءاً من الثقافة نفسها، مثلهما مثل الأدب العربي وغيره من الآداب الإسلامية. وفي الحقيقة فإن التأثير الإسلامي على الشعر العبري، لم يقتصر على يهود العالم الإسلامي، بل شمل هذا التأثير يهود فرنسا من خلال إسبانيا.

كما أن هناك شبها بين الفن الإسلامي والأعمال الفنية اليهودية، ليس فقط في العالم الإسلامي، ولكنه كان أيضاً في أوروبا المسيحية، مثل رسومات الكتب، وكذلك ( ماهو موجود) في  الكنس اليهودية، التي يظهر فيها التأثير الإسلامي بشكل واضح. وبالمقارنة مع يهود العالم الإسلامي ويهود أوروبا المسيحية، يتّضح تأثير الإسلام."[3].

وما ذكر أعلاه عن التأثير، يشمل اليهود القرائين وغيرهم،ولكننا سنقتصر في هذه الدراسة على اليهود القرائين كما جاء في عنوان الدراسة، لأننا إذا ماأردنا أن نتحدث عن تأثر العلماء اليهود من غير القرائين  بالثقافة الإسلامية، فإن الحديث سيطول وسيخرجنا عن موضوعنا، الذي نريد الإقتصار عليه  هنا، ولكن  يكفي لمن يهتم بالموضوع أن يطلع على مؤلفات العالم الحاخام المعروف،سعديا بن يوسف الفيومي (من القرن العاشر الميلادي)، والفيلسوف الحاخام موسى بن ميمون(من القرن الثاني عشرالميلادي)، ليرى التاثير الواضح في كتاباتهم، ومدى تأثرهم بالفكر الإسلامي، بخاصة تلك الكتابات التي تتعلق بعلم الكلام، مثل كتاب "الأمانات والإعتقادات" للأول وكتاب "دلالة الحائرين" للثاني.

أما بالنسبة إلى تأثر اليهود القرائين بالثقافة الإسلامية، فهي مسألة لا يجادل فيها أحد ، ولا تحتاج إلى كثير من الأدلة والبراهين لإثباتها .فقد كان التأثير عليهم أكثر من  غيرهم، من أتباع الفرق اليهودية الأخرى . وقد أصبح هذا التأثر تهمة يوجهها لهم أعداؤهم من اليهود الآخرين، ويكررون ذكرها كمنقصة عليهم ومثلبة لهم. ويقول التلمودي طوبيا بن أليعازر (من القرن الثاني عشر) "إن هؤلاء الناس قد أفسدوا كثيراً طريقة الحياة اليهودية الحقيقية، لأنهم تلامذة المسلمين، وهم متأثرون بروح مجنونة ضربت عقولهم."[4] وقد وصل هذا التأثر في مرحلة من المراحل حدّاً أثّر على عقيدة بعض هؤلاء، فتحولوا إلى الإسلام، كما يذكر صموئيل (السموأل) بن يحيى المغربي (من القرن الثاني عشر)[5] وهو قد قال "إن أكثر القرائين خرج إلى دين الإسلام أولاً فأول، إلى أن لم يبق منهم إلا نفر يسير، لأنهم أقرب إلى الاستعداد لقبول الإسلام، لسلامتهم من محاولات فقهاء الربانيين (التلموديين)، أصحاب الافتراء الزائد، الذين شددوا على جماعتهم الإصر"[6].

وقد يكون أحد أسباب تأثر القرائين بالفكر الإسلامي، أنهم عند ظهورهم وانفصالهم عن اليهود الآخرين (في القرن الثامن الميلادي)، كانوا بحاجة إلى قاعدة كلامية وفلسفية، يعتمدون عليها ويركنون إليها في رد هجوم التلموديين ونقدهم لهم، فكان أن وجدوا مبتغاهم في الفكر الإسلامي ومدارسه. وقد استوعب القراؤون هذه البحوث وفهموها، خاصة وأنهم كانوا يجيدون اللغة العربية، وقد مكّنهم هذا ليس في الدفاع عن فرقتهم، بل أصبح ذلك سلاحاً قوياً لهم في نقض آراء التلموديين، وتفنيد حججهم ورد اتهاماتهم. ومن أجل التوسع في الأحكام الشرعية، فقد وجدوا ضالتهم في أصول فقه المذاهب الإسلامية بصورة عامة، بعد أن كانوا يعتمدون كلياً على العهد القديم(التوراة) في استنباط الأحكام الشرعية، إذ لم يكن الإعتماد على التوراة كافيا،لاستيعاب المسائل المتشعبة في الفقه، لذلك لجأوا إلى أصول الفقه الإسلامي، فاستعانوا بها واستفادوا منها كما سنذكر ذلك فيما بعد.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2236 السبت 06 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم