صحيفة المثقف

تأثير الثقافة الإسلامية على اليهود القرائين*(3-3) / جعفر هادي حسن

هي شبيهة كثيراً بما اعتمده علماء أصول الفقه المسلمون  إذ هي عندهم: الكتاب (التوراة)، والنقل (الرواية)، والاجتهاد، والقياس، والإجماع.

والتالي هو عرض لهذه الأصول باختصار

 

الكتاب (التوراة)

يقصد بالكتاب عند القرائين ليس التوراة بالمعنى الخاص (الكتب الخمسة الأولى) كما عند التلموديين، بل التوراة بمعناها العام أي العهد القديم كله. وهم يسمونه أحيانا النص . والكتاب بالنسبة إليهم هو المصدر الأول والأهم، الذي يرجعون إليه لمعرفة الأحكام الشرعية، ولأهمية الكتاب وقدسيته عندهم أوجب علماؤهم على أتباعهم، أن يعرفوا لغة الكتاب ويفهموها، وكذلك عليهم أن يفهموا تفسيره ويجتهدوا في معرفته. وبسبب أهميته عندهم، فقد أولوا نصه عناية خاصة، تمثّلت أكثر ما تمثلت في ضبط رسمه وتنبيره، وتقسيمه إلى فصول وعبارات ومقاطع، ولذلك كان للقرائين يد طولى في ضبط نص  العهد القديم، كما ذكرت سابقا.

ونص الكتاب عندهم يشمل الحروف والحركات، فكلاهما مقدس عندهم، وقد قال يهودا هداسي،أحد علمائهم الكبار عن ذلك "إن الكتاب المقدس يجب أن يشكل وينبّر، لأن الإله لم ينزله بدون هذين". وهذا الرأي يختلف مما يراه التلموديون، فهم لا يعتبرون التشكيل مقدساً،وقد قال الحاخام التلمودي نطروناي "إن الحركات لم تنزل في سيناء، وإنما العلماء هم الذين وضعوها".وهناك مسألة مهمة تتعلق بمعنى النص التوراتي،وهي أن القرائين يأخذون بالمعنى الحرفي للنص، وهو المعنى الظاهر،وهو أحد الأسس العامة التي وضعها علماؤهم لتفسير الكتاب، ولكنهم في حالات معينة لا يلتزمون بذلك، كما إذا كان التفسير الحرفي مثلاً يقود إلى شيء غير مقبول، في ضوء معتقدهم، أو أنه يقود إلى تناقض في معاني الكتاب، أو أن التفسير يقتضي القول بتجسيم الإله، وهو شيئ يرفضونه كما رأينا، وحينئذٍ لا يؤخذ بالتفسير الحرفي. يقول يافث بن إيلي،وهو من علمائهم الكبارعن هذا "ليس هناك مبرر لرفض معنى ظاهر النص لكلام الله وكلام الأنبياء، إلا إذا كان ظاهر النص غامضا، أو مستحيلا في ظاهره،لأنه يناقض العقل أو النص المحكم".[1] والنص المحكم- وهو مصطلح إسلامي- هو الواضح البين والغامض هو المتشابه..وقال القرقساني"إن الفرائض في نصوص التوراة يجب أن تفسر على معناها الظاهري،إلا إذا كان ذلك يقود إلى معنى غير صحيح أو إلى تناقض،وهذا لاينطبق على التشريعات فقط، بل حتى على الأخبار أيضا، لأننا إذا أوَلنا النص لمعنى باطني، دون أن تكون هناك ضرورة فسيُتوسع بهذا إلى الشرائع، وحينئذ ستفقد معناها الحقيقي المقصود، لأن التأويل يمكن أن يطبق على أي نص أو عبارة وطبقا لرغبة أي شخص".[2]

بينما يرى سعديا الفيومي-التلمودي المعروف- أن المعنى الظاهري البسيط (لنص التوراة) إذا كان يخالف الروايات التلمودية فإنه لايؤخذ به[3].ومعروف أن هناك الكثير من روايات الحاخامين، وأحكامهم تخالف ظاهر نص التوراة.وكان الفيلسوف اليهودي باروخ(بندكت) سبينوزا ( ت1677م) قد انتقد رأي التلموديين هذا ورفضه وقال" أما مايقوله الفريسيون( التلموديون لاحقا) من أن اليهودي، يجب أن يعتمد على تفسيراتهم للتوراة، فإنه مرفوض، إذ كما كان بين البابوات فاسقين ومنحرفين، فقد كان بين الكهنة (اليهود ) الكبار في السابق، من هو فاسق ومنحرف عن العقيدة، وهم تبوؤا مناصبهم بطريقة غير أخلاقية".[4]

الرواية (شلشلة هاعتقاه)

اعتبر النقل أو الرواية، أصل من أصول الفقه عند القرائين، (وهي تقابل السنة عند المسلمين) وأطلق بعضهم عليها "شلشلة هاعتقاه" (سند النقل/الرواية). وقد أعتمدوا عليها في استنباط أحكامهم، مثل الأصول الأخرى. ويسمونها أحيانا " سفل هايروشا" [5]( نقل التقليد/الموروث). والرواية عند القرائين لا تعني الرواية الشفوية، كما هي عند التلموديين، بل أخذت تعني النقل المكتوب، وهذا يجب أن يكون منقولا ًعن الأنبياء بعد موسى عن طريق الكهنة، الذين ضمهم العهد القديم. أما الرواية عند التلموديين، فهي تعني ما تناقله رواتهم المعتمدين عندهم شفوياً من حاخاميهم وعلمائهم، الذين عاشوا أيام وجود المعبد اليهودي في أورشليم وبعد تهديمه، وهم يوصلونها صعودا إلى موسى النبي.

ويعرف القراؤون الرواية الصحيحة ، بأنها تلك التي كانت بيد الأمة بأسرها أو بيد أكثرها، وليس بيد قوم يسير، لأنها إذا كانت كذلك فهي – كما يقولون – رأي وليس برواية.

ويقول القرقساني "إن النقل يحتاج أن يكون في يد جميع الأمة، أو في يد أكثرها، مثل يوم السبت أو ما يشبه ذلك، الذي هو في يد الخلق أجمع، وهذا النقل، الذي يدعيه من قال بقول الربانيين (التلموديين)، إنما هو في يد قوم يسير منسوباً إليهم، دون غيرهم ،إذ كنا نراهم يقولون فيمن يخالفهم في العيد وفي غيره، هذا مخالف للربانيين (التلموديين)،ولا يقولون هذا مخالف لله أو لتوارته"[6].

ثم إن القرائين اشترطوا أيضاً في الرواية المقبولة، ألا تخالف حكماً من أحكام التوراة، أو نصا من نصوصها. وقد قال سهل بن مصلياح في ذلك "إن من واجبنا أن نفحص ما فعل الآباء، ونختبر أعمالهم ونعرض أعمالهم على التوراة." ومن الملاحظ أن هذا الرأي يتصادى ورأي العلماء المسلمين بالنسبة إلى السنة النبوية. إذ الأحاديث المخالفة للكتاب لا يؤخذ بها، ولا يعتمد عليها. وقد ذهب بعض القرائين إلى ابعد من ذلك، فاشترطوا أن يكون للرواية دعم من الكتاب (التوراة) وتأكيد لها. يقول الياهو بشياجي(من القرن السادس عشر) "إن الرواية التي ليس لها نص يدعمها من الكتاب، هي رواية باطلة، وقد قال الشيخ الرئيس طوبيا عن الذين يقولون، بأن بعض النقل ليس له سند من الكتاب، أنهم ذوو عقول قاصرة عن العثور على الأصل في التوراة"[7].

وقال أيضا: "لقد قال علماؤنا إن كل رواية لا تخالف الكتاب، ولا تضيف شيئاً زائداً على حكمه، وتكون مقبولة لدى اليهود، ولها دعم غير مباشر من التوراة ، فهي رواية أصيلة(صحيحة) ويجب قبولها"[8].

وقد أخضع موسى بشياجي الروايات إلى الدراسة والفحص،  وذكر السلسلة الصحيحة للرواة الثقاة من اليهود، الذين يجب أن يؤخذ برواياتهم ويعتمد عليها. وقد وضع هذه السلسلة بدءاً من النبي موسى(عليه السلام) وانتهاء بالأمير بوعز حفيد عنان بن داوود[9]. أي أن الروايات أخضعت لما يسمى في علم الحديث بالجُرح والتعديل، الذي وضع اسسه العلماء المسلمون، لتمييز الضعاف والمتروكين والمجهولين والمدخولين، والكذابين عن غيرهم. وهذه السلسلة للرواة عند القرائين تختلف عن تلك التي يأخذ بها التلموديون، كما ذكرت سابقاً، وهذا الإختلاف يشبه تماما الإختلاف الموجود بين بعض الفرق الإسلامية، الذي مازال يشغل المسلمين عن قضايا أخرى تمس وجودهم ومستقبلهم.

وقد أعطى القرقساني مثالا على النقل وقال " ومن سأل عن كتابة كتاب التزويج، الذي هو الكتوباه[10]، من أين وجب وليس نرى لذلك في الكتاب أثر، كان الجواب في ذلك النقل والوراثة، الذي هو موجود في يد جميع الأمة  لم يخالف في ذلك أحد منهم ولاأفسده نص آخر ولاقياس ولاخبر ..."[11] وأعطى الياهو بشياجي أمثلة من الأحكام، التي أخذت عن طريق الرواية، مثل الأحكام التي تتعلق بالذبح الشرعي للحيوان كطريقة الذبح، وأداة الذبح إلى غير ذلك. وكذلك موضوع بداية الشهر وثبوته عن طريق رؤية الهلال، وغيرها من المسائل[12].

ويعتبر القراؤون روايات التلموديين  متعارضة في كثير من الأحيان مع أحكام التوراة ومخالفة لها . وقالوا كذلك إن التلموديين قد أزادوا وأنقصوا وأنهم يقولون – أي التلموديون – إن الرواية يؤخذ بها حتى لو خالفت التوراة[13]، واتهموهم كذلك بأنهم وضعوا أشياء من أجل التكسب بها عند الناس[14].

 

الاجتهاد (الحفوس)

 رفض القراؤون منذ بداية ظهورهم فكرة التقليد، التي أقرّها التلموديون فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، واعتمدوا الإجتهاد منذ البداية (واسموه حفوس من الجذر العبري "حفس" بمعنى بحث واستنبط). وكان أول من دعا إلى ذلك ونادى به عنان بن داوود الذي ينسب له القول المشهور "ابحثوا في التوراة باجتهاد، ولا تعتمدوا على رأيي"[15]. وربما كان دانيال القومسي أحد رواد حركتهم، أول الداعين إلى رفض التقليد، فهو قال يجب رفضه في كل وقت، ويجب الإلتزام بالفحص والبحث، لأن التقليد إنما هو اتباع رأي شخص واحد.[16] ولكن التلموديين، يرون أن اليهود يجب أن يتبعوا ما سار عليه آباؤهم، ويأخذوا بما أقرّه أحبارهم الأوائل. وقد رد القراؤون على التلموديون آراءهم هذه. وكان ممن ردّ ذلك أبو الحسن يافث بن إيلي، إذ قال "فهذه الأقاويل ونظائرها تدل على بطلان قول اصحاب التقليد،الذين أهلكوا إسرائيل  بما دوّنوه، وقالوا لايجوز أن تعرف فرائض الله تعالى من البحث، (وأنه) يجب التقليد لخلفاء الأنبياء، وهم أصحاب المشناة والتلمود"[17].

ومن جملة ما يستدل به القراؤون على رفض التقليد ما جاء في سفر زكريا 1/4 "لا تكونوا مثل آبائكم" وكذلك بما جاء في المزمور 78/7 "إن الجيل القادم، سوف لا يكون مثل آبائه جيلاً معانداً وغير مطيع" [18] وهم اعتبروا مثل هذه النصوص دالة على رفض التقليد،وأصبح الاجتهاد أصلاً من أصول فقههم فأخذوا به وحثّوا عليه ومارسوه. وقال دانيال النهاوندي أحد فقهائهم الكبار "إن من يجتهد يثيبه الله، حتى لو أخطأ في اجتهاده عن نية حسنة"،وهذا يذكرنا بما هو معروف عند المسلمين في هذا الشأن. وكان يقول عن نفسه بأنه ليس نبياً أو ابن نبي، ومن حق من يقرأ كتبه أن يختلف معه في الرأي بقصد حسن.[19]  وقد قال الكلام نفسه القومسي، وسلومون بن يروحام وسهل بن مصلياح، الذي  قال "إن القرائين يقولون لإخوتهم ادرسوا وابحثوا وجدوا في الطلب، وتحققوا وخذوا بما يؤكده الدليل القوي، الذي يقبله العقل."[20]

.ومن أقوال علمائهم أيضا "إن من مسؤولية القرائين أن يدرسوا التوراة ويبحثوا فيها ويفهموها، وأن من لا يدرسها يكون ذنبه أعظم من ذلك الذي يدرسها ويخطئ"[21]. وهم يعتبرون البحث عن معاني التوراة والاجتهاد فيها والغوص في أعماقها، كالبحث عن كنز دفين في باطن الأرض، ويدعمون رأيهم هذا بما جاء في سفر الأمثال 2/4 – 5، إن طلبتها كالفضة وبحثت عنها كالكنوز، حينئذٍ تفهم مخالفة الرب وتجد معرفة الإله[22]. وبسبب فتح باب الاجتهاد هذا فقد تعددت الآراء الفقهية بين القرائين، وكثرت حتى قيل إنه لم يوجد (في القرن العاشر الميلادي) عالمان اثنان منهم اتفقا على مسألة واحدة من المسائل. وقد اعتبر أبو أسحق يعقوب القرقساني ذلك نتيجة طبيعية للاجتهاد، وقال عن ذلك "ونحن إنما نستخرج العلم استخراجاً بعقولنا، وما كان هذا سبيله لم ينكر وقوع الخلف فيه".[23] ولقد قلّت هذه الاختلافات كثيراً،  بعد أن اشترط العلماء القراؤون على من يريد أن يستنبط حكماً، أن تكون له القدرة العلمية على ذلك، وإلا فيجب عليه أن يستشير من هو أهل لذلك"[24].

ولم أعثر على شروط خاصة بالمجتهد اشترطها القراؤون، كما اشترط المسلمون شروطاً للشخص كي يكون مجتهداً. ولكنني وجدت شرطاً واحداً اعتبروه مهماً في عملية استنباط الأحكام، وذلك الشرط هو شرط التقوى والصلاح. وهم يقولون أنه من لم يكن كذلك، لم تفتح له أبواب الحكمة والصواب. وقال القومسي "إن الذين يجدون الحكمة هم الأتقياء فقط، وأما الفاسقون فلا يصلون إلى شيء". وقال يهودا هداسي "إن معاني التوراة الخفية لا تكشف إلا لمن كان صالحاً وتقياً" وقال موسى بن آشر "إن غير الصالحين والأتقياء لا تكشف لهم معاني التوراة"[25].فأقوالهم هذه تؤكد على شرط الصلاح والتقوى في الشخص المجتهد.

 

القياس (هاقش)

أصبح القياس لدى القرائين الذي يسمى بالعبرية "هاقش" أصلاً من أصول الفقه عندهم، منذ السنين الأولى لنشأة الفرقة وظهورها ، فقد استعمله عنان بن داوود وطبقه، كذلك استعمله النهاوندي، ولكن طبيعة القياس عند القرائين قد تطورت بمرور الزمن، فهم لم يقتصروا على نوع واحد من أنواع القياس، بل أصبح عندهم ما يسمى بقياس القياس ولم تقتصر أنواع القياس عندهم على مثل ما في مدارس الفقه الإسلامي ومذاهبه، بل تعدّدت أنواعه ووصلت إلى ما يقرب من ثمانين نوعاً.

وكان القياس باستعماله على هذا النطاق الواسع عند القرائين، قد أصبح موضوعاً للجدل والنقاش بين القرائين والتلموديين، وكان الحاخام سعديا بن يوسف الفيومي أبرز من حاججهم في ذلك، وكان من جملة ما ذكر في هذا الخصوص، أن القرائين لم يكونوا يضطرون لاستعمال القياس بهذه الكثرة لولا رفضهم للتلمود[26].

وقد دافع القراؤون عن أخذهم بالقياس واعتمادهم عليه كأحد أصول الفقه لديهم

يقول الياهو بشياجي إن هناك أحكاماً لم تذكر بشكل صريح، ولكنها تتضح من خلال أحكام شرعية أخرى أو من أقوال الأنبياء... وهذه الأحكام إنما تستنبط بطريقة القياس، ثم يقول والقياس أنواع مختلفة كما هو واضح من أقوال علمائنا[27]. ولا بأس أن نعطي بعض الأمثلة مما قاسه القراؤون من أحكام على غيرها.

فمن أمثلة القياس عند عنان تحريمه إبقاء النار أو الضياء عند دخول السبت، قياساً على توقف العمل فيه. وقد ورد تحريم العمل في يوم السبت في سفر الخروج 20/10 "وأما السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك" وجاء النهي عن إشعار الضياء والنار في يوم السبت في سفر الخروج أيضاً 35/3 ونصه "لا تشعلوا ناراً في جميع مساكنكم يوم السبت" ففي العبارتين يبدأ النهي بالتاء (لا تصنع / لا تشعلوا) وحينئذٍ فكما يجب التوقف عن العمل عند دخول السبت، فكذلك يجب الإطفاء عند دخول السبت للنار أو الضياء، الذي أشعل قبل دخول السبت[28] والتلموديون لا يوجبون إطفاء ما كان مشعولاً قبل دخول السبت، ويرون حرمة الإشعال بعد دخول السبت فقط لأنه يعتبر عملاً.

ومن مسائل القياس مسألة الثور النطّاح، الذي يقتل إنساناً. فقد ذكروا "أن الكتاب قد أوجب في الثور النطاح إذا أشهد على صاحبه (أن ثوره نطّاح) ولم يحفظه وقتل إنساناً بعد الشهادة، أنَّ صاحبه يقتل فالقياس يوجب مثل ذلك في جميع الحيوان المؤذي مثل الكلب وغيره"[29].

 وقد جاء في التوراة عن الثور النطاح ما هذا نصه (في سفر الخروج 21/29 ) "ولكن إن كان ثوراً نطّاحاً من قبل وقد أشهد على صاحبه، ولم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضاً يُقتل". وهذا القياس كما هو واضح من المثال إنما هو قياس العام على الخاص، إذ لم يقصر القراؤون هذا الحكم على الثور النطّاح، وإنما قاسوا عليه عموم الحيوان المؤذي كما هو واضح من النص أعلاه.ومن قياس العام على الخاص  ماورد في 22-10 من سفر التثنية "لا تحرث على ثور وحمار معا" فهنا حرمت التوراة الحراثة بالجمع بين حيوان طاهر،وآخر غير طاهر، وقاس القراؤون على هذا وعمموه على كل عمل آخر،وحرموا فيه الجمع بين حيوان طاهر وآخر غير طاهر في اي عمل آخر.[30]

ومن الأقيسة عندهم ما يسمى بقياس الأهم على المهم، أو قياس الأعلى على الأدنى. ومن الأمثلة التي يضربونها على ذلك ما جاء في سفر اللاويين 18/10 "لا تكشف عورة ابنة ابنك أو ابنة ابنتك"، وهذا ينص على حرمة الزواج بالحفيدة، ولم تنص التوراة صراحة على حرمة الزواج بالبنت، وهذا التحريم (أي تحريم الزواج من البنت) قد قيس بطريق الأولوية على حرمة الزواج بالحفيدة، أي إذا كان الزواج بالحفيدة حرام فالزواج بالبنت تكون حرمته بطريق أولى[31].

ومثل هذا القياس هو ما يسميه علماء أصول الفقه الإسلامي بقياس الأولوية، وقد مثلوا له بما ورد في القرآن الكريم من النهي عن التأفّف من الوالدين "ولا تقل لهما أف ولاتنهرهما"، الذي يقضي بطريق أولى تحريم ضربهما وإهانتهما[32].

 

الإجماع (قبوص)

من الأصول التي اعتمد عليها القراؤون في استنباط أحكامهم الفقهية أصل "الإجماع" الذي أطلقوا عليه باللغة العبرية "قبوص" (من الجذر العبري قبص بمعنى جمع).[33]واطلقوا عليه كذلك "عده" التي تعني جماعة.

وقد اختلف القراؤون – كما اختلف أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية – في تعريف الإجماع وطبيعته.

فبعض القرائين يرى في الروايات المتفق عليها إجماعاً، وقال بعضهم إن الإجماع الصحيح هو ما اجتمعت عليه أفاريق اليهود بأسرها، وأما ما لم تجتمع عليه بأسرها فإنه ليس بإجماع صحيح[34].

ويأخذ القرقساني بالرأي الذي يقول "إن الإجماع هو الذي يوجد في يد الأمة تلقياً من جهة الإجماع، ولا يكون منسوباً إلى قوم بأعيانهم، وليس عليه دليل من النص ولا القياس. وهو يعطي أمثلة على ذلك فيقول هو مثل إجماعهم على أن هذا اليوم، هو يوم سبت من بين سائر الأيام، وليس ذلك منسوباً إلى قوم بأعيانهم، وإنما أخذ نقلاً ووراثة، وهو عند جميع الأمة من الشرق والغرب، لم يخالف في ذلك أحد على غالب الدهور[35].

ويضرب أمثلة على ما لم يقع الإجماع عليه، فيقول إن ذلك مثل أسماء كثير من الطير والجواهر وما شاكل ذلك في التوراة، فلأنه لم يقع عليه الإجماع، وقع فيه الخلاف[36]. ولكن القرائين قالوا كذلك إن الإجماع ينعقد ويؤخذ به، إذا ضمَّ بين المجمعين إماماً معترفاً به، أو معتمداً عليه من علماء الكتاب (التوراة) [37].وهذا التشابه الكبير، في أصول الفقه،(عند المسلمين والقرائين) يعني أن القرائين قد تأثروا بما عند المسلمين بل أنهم اقتبسوها منهم. حتى أن بعض الباحثين اليهود قال "إن هذا التشابه في أصول الفقه، يعني أن القرائين اقتبسوا هذه الأصول، بل قال إن التأثر بالإسلام يجب أن يقر به الربانيون (التلموديون) والقراؤون".[38]

وهناك بعض القضايا الأخرى التي تأثروا بها،مثل تحريم الزواج من بنت الأخ وبنت الأخت التي هي شديدة التحريم عندهم، بينما هي عند اليهود التلموديين يجوز الزواج منهما بل وهم يشجعون على هذا الزواج ويمدحونه ويعتبرونه عملا من عمل الأولياء وشيئا يفرح الإله ويسره.

وهم يستعملون في مهر الزواج المقدم والمؤخر ويسمونهما "موهر مقدم وموهر مؤخر"، وهذا الإستعمال مازال معمولا به حتى الوقت الحاضر.وهم استعملوا عبارات إسلامية  يفتتحون بها كتب عقد الزواج مثل باسم الله وباسم الله الباقي أو باسم الله الرحمن.وكانت الطائفة التلمودية قد تأثرت بذلك ن إذ كلن الحاخام التلمودي الحاخام شمعون بن سمحا قذ انتقد اليهود لإستعمالهم هذه العبارات ومايشبهها " في بعض الأماكن يبدأون (اليهود) ( الكتوباه=عقد الزواج) بعبارة باسم الله الباقي، وهذه هي عادة بني اسماعيل (المسلمين) وهي ليست عادة العلماء (اليهود) رحمهم الله".[39]

وهم كذلك استعملوا عبارات مثل قبلة وإمام وغيرهما.

 



[1] S.Wasserstrom, Search Scripture Well, p.225

[2] Ibid., pp.9-10

[3] Ibid., p. 255

[4] انظر كتابنا، قضايا وشخصيات يهودية، ص277

[5] من الجذر العبري "يرش" الذي يعني بالعربية "ورث"

[6] الأنوار والمراقب، ج1ص134.

[7] Z.Ankory, Karaites in Byzantium, p. 233 and S.D. Baron,op. cit., vol.,5 pp.252-253

[8] L. Nemoy, Karaite Anthology,p.250,

[9] Waxmann, A History of Jewish Literature, vol. 2, p.445

[10] كتاب عقد الزواج

[11] الأنوار والمراقب، ج3 ص730

[12] . Z. Ankory,Karaites in Byzantium pp. 249 - 250

[13] Ibid.,. P. 249

[14] القرقساني، الأنوار والمراقب،ج1 ص149.

[15] Z. Ankory, Karaites in Byzantium, p. 210

[16] D. Frank, Search Scripture Well,p.30

[17] مصدر سابق. S. Poznanski, op. cit., p.22

[18] S. Baron, Social and Religions History of the Jews, vol. 5, p. 225

[19] مصدر سابق. S. Baron, op. cit, vol. 5, p. 225

[20] L. Nemoy, Karaite Anthology, 0.119

[21] مصدر سابق. Z. Ankory, op.cit, p. 249

N. Wieder,op. cit.p 62 [22]

[23] الأنوار والمراقب، 1/14.

[24]  S. Baron, op. cit, vol. 5, p. 233

[25]  N. Wieder, op. cit., p. 61

[26] الأنوار والمراقب، ج1، ص79.

[27] L. Nemoy, Karaite Anthology, p. 246

[28]  L. Nemoy, op. cti, p. 9

[29] القرقساني، الأنوار والمراقب، ج1، ص103.

[30] L. Nemoy, Karaite Anthology, p.247

[31] Ibid., p.241

[32] محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص317.

[33] ومن هذا الجذر  أخذت الكلمة العبرية "قبوص والتي تجمع على قبوصيم (المجمعات الزراعية) والجذر العبري هو صنو العربي " قبض"

[34] القرقساني، الأنوار والمراقب، ج1، ص141.

[35] المصدر نفسه، 1/143.

[36] المصدر نفسه، 1/145.

[37] Z. Ankory, Karaite in Byzantium, p. 223

[38] D.J. Lasker ,Islamic Influences on Karaite Origin, in Studies in Islamic and Judaic Traditions II, p.25 and 35

[39] خطط المقريزي ج1 ص92

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2240 الاربعاء 10 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم