صحيفة المثقف

حوار مع الأديبة المغربية سعيدة تاقي / عزيزة رحموني

لوحات تسافر في الوجدان وتسامر الوعي بلغة شفيفة  شاعرية عذبة. "سعيدة تاقي"  مبدعة عربية تجيد العزف باللغة، أحببت الحوار معها ولم تكن أسئلتي لها كالمعتاد. قلت لها: سنلاعب الحروف ونجعل الحوار متعة للقارئ . فجاءت ردودها مفعمة بالضوء ورائحة الحروف الندية. لنتابع

 

ـ على ركح منفرد كيف ترقص ريشتك؟ 

ـ على ركح منفرد، وبعيداً عن الاشتباه بالنص السردي الأصل "على رُكحٍ مُنْفرِد"، تُـتْـقن الريشةُ بالفطرة الرقصَ دون موسيقى؛ فالصّفاء الداخلي يعزف ـ في لحظات السكينة ـ على أوتار التأمل وصلاتٍ نابضة بالحياة والتسامي، ترقص لها الريشةُ طرباً وخفّةً.

لكن حين تغازلها الأضواءُ، ويعلو صوت المؤثِّرات الخارجية.. تخبو قليلا جذوة الفطرة، فالمدى يتردّد صداه بألوان الواقع.. والواقع كثير الوُقوع والصخب والفوضى، يُلزِم الريشة بالإنصات لضجيجه، قبل الالتحام بالذات لاستعادة التوازن المفتَـقد..

تعيد الريشة، بين فطرة الطبيعة واحتدام الواقع، اكتشافَ رؤاها بشكل متواصل لتُراقصَ الكلماتِ على إيقاع جديد يعانق الذاتَ وهو يدرك أسرار الكينونة التي يجلِّيها الوجود الحقيقي.

 

ـ إذا انتحلتِ الكاتِبةُ الغيابَ هل سيَذكُرها أم سيغيبُها؟

ـ الغيابُ قدرُنا جميعاً في زمنِ أردنا أن نحضُرَه.. فَـ "احْـتَضَرَنَـا ".

لكن هل سيذكرني الغياب إن انتحلته؟

لا مفر من الإشارة إلى أن نص "لم يذْكُرني الغيابُ حين انتحَلْـتُه.." حين كتبتُه كان السياق حميمياً، وكان الحرف المنسابُ ذاكرةً للحضور الفِعلي، وليس للغياب بأي صنف من الأصناف. لعل ذلك هو السبب الذي، يجعل الغياب شكلاً آخر للحضور، فتُخوم الشوق حين تُغلِق على الحب منافذ الحبور يغدو الغائب الأكثرَ حضوراً، ويصبح الغيابُ أشدَّ تجلِّياً من أي حضور آخر..

 

هل تذكُر الكِتابةُ الكاتِبَةَ إن تَقمصتْـها؟

لاشك أن الغياب ينتفي وفِعْـل الكتابة... فأنْ تَكتُبي يعني أن تُحْكمي الوثاقَ لاشتراطات وجودية عديدة تمارِس، عفواً أو عُنوةً، ضروب التنغيص المختلفة.. أنْ تكْتُبي يعني أن تُعلِني الحضور بأكثر من صوتٍ ولونٍ وصيغة..

أنْ تَكتُبي يعني أن تكُوني أولاً، وأن تَعِي الكتابة مفصولةً عنكِ ثانياً، وأنْ تُدركي كيف تصِليِن بينك وبين ذلك التَّوق لأن تكوني أنتِ الكاتبة..

فـ"أنْ تكوني" ليس فعلاً وجودياً سهلاً.. وأنْ تكوني أنتِ روائيةً أو شاعرة أو مبدعةً عموماً، ليس فِعْلاً نحويّاً فارَق صيغة الفعل اللازم للفاعل في الفعل الوجودي "أنْ تكُوني" إلى صيغة الفعل المُتعدّي إلى المفعول في الفعل الإبداعي "أنْ تكُوني مبدِعة".

إنّ تفعيلَ الكتابة بضمير إبداعٍ متكلِّمٍ مؤنَّثٍ إبداعٌ مركَّب، يستَبِق فيه إبداعُ الحضور الوجودي لِلذَّات المُفكِّرة ضد نزوات المواضعات الاجتماعية، فِعلَ الكتابة وتحيينَ طقوسها الإبداعية..

لأجل كل ذلك لا يُمكن تحيـينُ لحظة الكتابة إلّا وحضور الكاتبة في أشدِّ لحظات الوعي بالحضور وجوداً وكتابةً ومُمانعةً...

 

ـ ريشتك فاتنة إذا صادفت صلابة كيف تكسرُها؟

ـ نص "صَلابَة مُنْكسِرة" ومضاتٌ ترسم حاضِر الربيع الدّامي لمّا تساقطتْ أوراقُ الخريف، وقد تجولت الومضات على امتداد الخريطة الجريحة مستشرِفةً جرحاً في كلّ لوحة..

كانت الصلابة قد انكسرت، لكن توابع الشظايا، أو شظايا التوابع مازالت تُنازِع موازين القوى عن سيطرة منفلتة..

ريشتي قد بلغت من النضج ما يجعلها تُدرك أنّ الغواية ليست بالمَطلب المُرتجى فالحكمة قد تكون أيضا فاتنة، فحين ينكسر الضوء على مشارف الماء يشعّ قوس قزح ولا يدوم الفرح إلا دقائق هي زمن اللقاء بين الشمس والمطر..

كما تُدرِكُ أنّ الصلابة ليست بالحلم المشتهى فقد تكُون أحياناً وَهْمَ هشاشةٍ مفرطة في الادعاء؛ فنقرة صوصٍ هشّ تكفي لتطلّ الحياة وتنكسر صلابة البيضة..

 

ـ لو تسربلتْ حروفُكِ مرثية، هل تُحِبكِ ريشَتُكِ اكثر؟

ـ حروفي وأنا أرسمها ترسُمني، والريشة وأنا أطوِّعُ حركاتها بين أناملي، تغترفني، فمن سيحبُّ الآخر!!

"أحبِـبْــنـي أكـثر بعد المَرْثِـية " نص شعري لا يقتحِم الرثاء بل يُعلِن لعُمْر الحب، سنةً شمسيةً جديدة.

 

ـ كل كتابة ومضة قلب. كل حلم اشراقة نفس. فهل يتحقق التسامي بين الكتابة والحلم؟

ـ أجيبك سيدتي بعيدا عن ومضات "كلُّ عثرةٍ ونحن بالحُلمِ مُـتَسامُـون" التي أزهر على متنها سؤالكِ، بومضةٍ أخرى وَسَمْتُها بـ "الجَـميل أمِ الرِّهان؟" تقول: "الرِّهان هو أن نُواصل بإصرار.

الجَميل أن نختلِف بِسُموّ، كي تتَّسعَ رؤانا بالمرايا المُتقابلة."

ألا نردِّد جميعاً مع الرائع محمود درويش: «سأصنع أحلامي من كفاف يومي لأتجنَّب الخيبة»، ألا نمشي على خطى سؤاله: «هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقّق.. »؟؟

لكن رغم ذلك فالكتابة تسامٍ يستلُّ مدادَهُ من سواد الواقِع. أما الحُلم فهو صنو الحياة، يسمو بنا نحو الغد المنتظر والأمل غير المُدرك، برفعةِ الشمس التي تُشرِقُ كلَّ يومٍ سبقـتْها إلى احتضان السّماءِ الغيومُ، أم صَفتْ لها وحدها الزُّرقة.

 

ـ النوايا لا يطلع عليها غير الريشة التي تكتب صاحبها. هل تكفي النوايا الطيبة للكتابة؟

ـ النوايا طيبة أم خبيثة، هي شأن السَّرائر وما تطويه الأفئدة من أسرار، في حين تُعلن الكتابة صوتها بالجهر والعلن. الريشة وهي تخط الحروفَ على الورق لا تحمر خجلا ولا تستشيط غضباً بناءً على نوايا الذات الكاتبة.. بل ترسم للمعاني أشكالا وأحرفاً فحسب..

الكتابة ليس لها نوايا، بل لها مَقاصد، قد تدركها القراءةُ، وقد لا تُدركها.. وفي الحالتين لا يضرُّ النصّ حُسن الفهم أو سوؤه، لأن النص الذي لا يعيدُ كتابة نفسه مع كلّ قارئ حصيف لن يصمدَ أمام عمليات الفهم والتأويل المتطاولة على رموزه.

لأجل ذلك فالمقصدُ للكاتب الغائبِ عن القراءة، والمعنى بوابةٌ تفْـتَحُ مصراعيها أدواتُ النص، والدلالةُ يبلُغُها القارئ عند فهم النص وتأويله..

 

ـ للفجر أسراره. هل تجيدين زراعته؟

ـ لم أتوقع مطلقاً حين وقّعتُ نصي الشعري عن حفدة المختار، بسؤال "مَـنْ يَـزرعُ الـفـجـرَ ثـانـيـةً؟" أنّه سيستدرجني إلى منعطف سؤالكِ هذا سيدتي..

كان النص مصدَّراً بمفتتح استفهامي آخر أقول فيه: ".. وهل يَتْـعَـب الدَّمُ مِنَ الدَّمِ إلا إذا انصرَف عن أحدِهما فائضُ الحياةِ بخالِص النزيف!؟."

فالفجر انتظار حرية طال احتضار ليلها، في مستنقع موبوء.. وقد قال أدونيس: ما أكثر الأوطان التي يبدأ فيها سجن المواطنين بالنشيد الوطني.

فهل أجيد زراعة الفجر؟.. وهل نملك فرادى القدرة على زراعته؟

الأمل زادنا والعمل عِمادنا، والحصاد ليس لنا بل عطاء غدنا..

 

ـ للمطر نكهة سحرية لكن إذا أمطر بياضا ما الذي يحصل؟

ـ لا أذكر المتصوف الذي قال فيما معناه: المغزى بالمعنى وليس بالصوت، فما يجعل الزهر ينبت ويتفتح المطر وليس الرعد.

فمهما ضجّ الرعد بالعويل والنذير.. لن تتفتّح الورود إلا على ملمس المطر، ذاك سحر رحم الحياة الأكبر..

إذا أمطر بياضاً ستنفتح على وسع المدى قماشة بيضاء تنسج للأشياء والأشكال والألوان معالمَ جديدة، سندُها البصري بياضٌ ناصِع له من النّقاء والطّهر ما يغسل كل الأدران، لكنه بقدر ما يُرخي ستارَهُ يُخفي الماهية ويموِّه التمايزات... وفي البال طَلُّ ياسمينٍ فوّاح بشذى الرقّة المرتعشة وحُنو الوريقات الغافية.. وطفلةٌ تلهو بعلبة ألوان زيتية وفرشاة على ورق ملَوّن.

 

ـ كلمة أخيرة؟

ـ جميل ما يستطيعه الحرف وما ترسمه الريشة. الإبداع طاقة تَحرُّرٍ تسمو برؤى الإنسان، مبدِعاً ومتلقِّياً، وترقى بنوازعه، في تربة لم يرتو ظمؤها بما يكفي إلى القيم، التي تبدو في واقعنا وكأنها صبوةً متعاليةً عن التَّخْليق والتحيين.. لكن كيف للأمل أن يُنصِف يومَ البسطاء من غدهم المثـقَل بحُمول الانتظار؟!!

لكِ في الختام عزيزتي، خالص الشكر على الاستضافة في هذه الفسحة الجميلة وعلى درب التجوال الممتع الذي رسمتِه بين نصوصي.. وعلى انتقاءاتك البهية للحرف وللريشة.

       

        عزيزة رحموني

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2255 الخميس 25 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم