صحيفة المثقف

مدينة النحيب / حسن يارتي

وعلى وشك أن يلتحم جسده الصغير ببدنها، قلبها يخفق عشرة أضعاف المعدل الطبيعي آملة أن لا يلمحها أحد.

ترى يوسي المتوحش حاملا سيفه، ينسف كل من أبى الخضوع أوجرب المقاومة. لا تريد الأم سوى بلوغها المسكن آمنة سالمة.

فسرعته، قوة عضلاته وضخامة بنيته تمكنه وجيشه من حرمان قوم المدينة من مفهوم الهناء.

هذا حال مدينة النحيب، مدينة لا تعرف النوم على أنغام الهدوء وآمال الغد المشرق بشمس الحرية، مدينة لا يغمض لها جفن أوتمر لها هنيهة دون اشتداد رقبه أحدهم.

 

تتحرك أم صهيب بخطوات سريعة، خفيفة من جذع شجرة إلى صخرة دون أن تصدر صوتا، وهي تبصر نور قنديل بيتها من بعيد لكن العراقيل المشؤومة تحول بينها وبين بلوغ مسكنها.

 

عند الصخرة الكبيرة وجدت إسماعيل، شاب في مقتبل العمر يحتمي خلفها مرتعشا من الخوف هوالآخر. آملت أن تجد فيه خصال الشهم الصنديد ليقاتل ذلك البربري عديم الرحمة، لكن هيهات.. بدل أن تسعى لحمايته سبقها لذلك، فلم تجد خيارا سوى أن تبرح مكانها.

 

انتقلت أم صهيب وغلامها الهادئ إلى صخرة أخرى، تلتفت يمينا وشمالا، وبين الفينة والأخرى ترفع رأسها لتستسقي أخبار موضع يوسي الجديد وعدد ضحاياه الذي يرتفع بالعشرات دون تراجع، فقبل أن تعيد رأسها إلى أقرب كتفيها ترى جثتا تتقطع إربا، وهذا ما يزيد من فجعها. رباه !! أبلغني مسكني رفقه فلذة كبدي، هكذا كان دعاء أم صهيب راجية أن يبزغ الفجر وهي على قيد الحياة.

 

تزحزح يوسي من مكانه الذي استعمره لساعات متيحا للأم فرصة التحرك لجذع شجرة يستقر قرابة مسكنها، رغم أنه يبعد ببضع أقدام قليلة عن الصخرة، لكن بدت رحلة انتقالها كأنها ستعبر المحيطات الخمس أوأن الجذع في مشارق الأرض والصخرة في مغاربها.

استوطنت الجذع وإيقاع أنفاسها يرتفع شهيقا بعد شهيق، أما صهيب يتألم من شدة إحكامها إياه بين يديها.

ما إن يظهر كائن في محيط يوسي إلا ولقي مصرعه لحظة وقوفه أمام المتوحش، كأنه يتلذذ بإزهاق الأرواح ويستطعم ملوحة الدم الأحمر الغامق.

 

أدار ظهره لأم صهيب حتى انتهزت فرصة العمر لتدخل مسكنها بعد أن تعدولمسافة تبدوأطول من سابقتها، ركضت متحملة ثقل ابنها بكل ما أوتي لها من سرعة وقوة. فلمحها المتوحش بعين شريرة توقف نبض كل قلب يترنح.

في لمحة بصر وارتداد طرف، وجدت الأم نفسها أمام ذلك الضخم، بشع المنظر وقبيح الصورة رافعا سيفه ليقطعها وابنها إلى نصفين.

 

قبل أن تدرك ما الذي يجري أوسيجري، حتى ألقت صهيب إلى داخل المسكن، جاهلة مصيره.. هل سيعيش أم سيلقى مصرعه بسبب صلابة الأرض التي ستستقبل بدنه الهشيش، كل ما أدركته قبل أن يتطاير دمها الطاهر ليمطر الأرض شهادة هوأن غلامها لم يجزر على يد يوسي المتوحش.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2262   الخميس   1/ 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم