صحيفة المثقف

امراة كالوقت المناسب / عادل سعد يوسف

على عيون البنايات، أقدام المارة تمسِّد الإسفلت بطرقات منتظمة وتدحرج عليه همومها. عيوني المعلقة بآهات طويلة  تسيل على زجاج النافذة وتتابعها إلى أن تصطدم بالإفريز السفلي وتتلاشي ، تحاول بعبث أن تنفض عنها  لون الفستان الفوشي  الذي شاهدته قبل قليل أمام البناية .

أسندت رأسي لشحنات متوقدة من الذكريات التي أثارها ذلك الفستان الفوشي.. غادرت فضاء المكتب ونكرت الهمسات الصادرة من المكيف الذي طالته اختراعات الأعطال التي تركت دروبها وجلست قبالتي .

كنت ألتقط لوثات باردة من صورة وجهها المتدفقة بروعة تعابير متعددة ومتضاربة، ومتوافقة مع هذا اللون الفوشي  في هذا النهار الأبريلي الشحيح، الأنف الذي ينحدر عليه ظل ضائعٍ خفيف ينساب بحالة خشوع نوبي، فيضج بجمالية متأهبة لانقضاض وشيك.

انسجام النهار واللون الفوشي زاد من شدة خوفي، كيف لنهار منفلت من روزنامة عام كامل  أن يكون بهذا الانسجام، بل كأنه أُستل  من مناخات الكرة الأرضية تحديداً ليتجانس مع هذا الفستان الفوشي؟

أحسست بأني أنفقت ثقلاً من الكلام على الأريكة التي أنت من شدة تململي، أحسست أنني أتأبط ذراعها وأمشي بها متثاقلاً ذلك التثاقل الرائع الذي تتركه أقدام حبيبة صفت شعرها عنوة لتلتقيك دون خلق الله ودون نظام عام .

يا لهذه المرأة تبدو كالوقت المناسب..

ساخنة كحالة سرية..

تلتصق بي فتقيد كل أوجاعي من المؤسسات والصحف وإعلانات  العدس التي تسوِّق البخل أكثر من تسويقها للمنتج المغلف بلقط الجدوى وعقيرة ذلك الريفي يحمل أرزاً تركياً على جمل بائس وأجرب، يزعج الألفية الثالثة برغاء ذي تعاريج مذعورة من أضراس أطفال صفراء.

كم هي مجدية الرغبة في البكاء!، البكاء المحض، ليس خوفاً من مصير يترقب قرب الباب وهو آتٍ لا محالة في ذلك، بل من طعم الخيبات التي لا حصر لها.

أنتَ الآن تسقط في رقعة الفستان الفوشي متناسياً كل الأزمات المتتالية، متناسياً صراعك الدهري مع الفقر والقمع ومخالب التشرد، بعد سنوات رحلت معها مقدرتك على التمييز بين الحزن والفرح، بين الخير والشر، بينك وبينك في حالات تحولك عاجز الخطوات.

دون انتظار منفرط يغمرك اللون حتى انتشار ذبذبات التوجس الخائف، تدغدغك توهجاته المتلاشية في هيولى النهار، تتداخل بفكرتك وتطوف حولك، تقذف بك في حدود التجديف بين بحيرات المظنة المتسعة لآلاف التموجات المتلاحقة والتي لا حدود لها كحيرة تفجرك لسعاتها.

كانت تقف وبنعليها الصغيرين تدق الأرض، تلسعها شمس أبريل قليلاً، فتبرز من مساماتها ندوات عرق عشوائية، تتناولها بأطراف أصابعها وترمي بها في أشداق الشارع العام ، يتذوق الشارع العام طعمها الأهيف، ويتلصص للون الذي يعشي عينيه فيتركهما لهذه الوقفة المتثنية وهي تقلق ستارة الصباح المبكر بنهار  يخرِّب انشغاله  بحركة الازدحام التي خلفتها إشارة مرور ضوئية.

يقترب هذا العبير المحمول على طعم الفستان، للفساتين طعم تميزه مركبات الحواس حين تتلمظ وتمد لسانها في "لحسةٍ" بالغة النشوى، قلت:

 - لا بأس بطعم يملأ خلايا لساني الناشطة ويزيد من نظرتي التائهة على بساط رخي من اللون الفوشي، وبها يسيل لعاب أصابعي .

على الرصيف المقابل تنزلق سيارة بيضاء تماماً، بيضاء كحليب يخطي أفواه أطفال العشوائيات النازفة في اكتظاظها الهامشي، وببرود يخشى هذا النهار الأبريلي ينفتح الباب الأمامي، فيصعد الفستان الفوشي تاركاً وحشة الرصيف تصرخ ملء "ترتوارها" المأكول بكهولة سعت نحو رزقها بحتف "كاربٍ" وسطه.

أيتها البعيدة كطيف لا ينتهي، أنت الآن تتماهين تماماً مع ذكريات وأحلام بعيدة كنستها أيدي أزمنة عقوق وتسقطين أحجارك في بركتها، تحفرين جداول تنزف ليلةً من اللون القمحي ينز عسلاً في مرافئ خصرها الأخاذ، كانت تلتف بفستانها الفوشي كما تلتفين أنت أيتها البعيدة كطيف لا ينتهي.

آهٍ ما أطعمك!.

 

السودان

2010

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2264   السبت  3/ 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم