صحيفة المثقف

الإعلام العراقي .. واقع التحول والإستلاب (2)

ساهمت في عودة البشرية الى عصر المنطوق والمشافهة بديلا  للمحفوظ والمدون ، لكن ذلك المشهد العام، لايجد تمظهراته في العالم المتحضر كما هوعندنا، اذ مازالت القراءة حاضرة بقوة هناك رغم التطور الهائل في وسائل الاتصال الاخرى، بدليل ملايين النسخ التي تباع من كتاب فكري او رواية ادبية أو ماشابه، اما الصحافة، فليس هناك من صحيفة معروفة لا تبلغ عدد مبيعاتها اليومية ملايين النسخ، اذا ان صحيفتان يابانيتان تبيعان فقط، ما مجموعه  24 مليون نسخة يوميا، فيما تبيع صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست الامريكيتان ، مايزيد عن ذلك الرقم  يوميا، وقس على ذلك .

أما في البلاد العربية، ففي بلد مثل لبنان لايزيد عدد سكانه عن 3ملايين نسمة، تباع فيه  من صحيفتان يوميتان (النهار والسفيرمثلا) مايزيد عن 50،000 نسخة /يوم وبسعر يبلغ 4/8 اضعاف ثمن النسخة لايما صحيفة عراقية .

المشكلة ان ثمن  التكاليف النهائية للنسخة من صحيفة عراقية، قد يصل الى ما يقرب من دولار واحد، أي ما يعادل  خمسة اضعاف ثمن مبيعها، انها باختصار توزع مجانا، ومع ذلك لا تجد قراء كثيرين يتابعونها بانتظام .

هناك مجموعة من الحيثيات التي يمكن ان تفسر ظاهرة كهذه، اولها ان المواطن العراقي لايميل لما ينشر في الصحف لانه لايثق بها، ورغم شغف العراقي بالقراءة كما عرف عنه، الا انه بالاجمال اكثر ميلا لقراءة الكتب والمجلات المتخصصة الجادة – خاصة تلك الواردة من الخارج – كذلك قدلا يميل معظم القراء الى تلك اللغة المفبركة او المنقمة او المهاجمة او المجاملة، التي تكتب بها المواضيع والتحليلات، حيث لم تغادر بعد اغراض الشعر العربي القديم - المدح  والفخر والرثاء والهجاء -، انها لغة انفعالية بامتياز وبالتالي لايجد فيها تميزا واختلافا جاذبين،اما الاخبار، فتصاغ  في الغالب بطريقة مبالغ فيها، وبالتالي قلما تعكس الحقيقة بموضوعية ودراية .

الحيثية الابرز، تتمثل بتلك اللاجدية التي تظهر على بعض الصحف، وذلك من خلال  عدم تقديم جهد واضح  للاشتغال على ما ينشر، فمعظم موضوعاتها الصقت او نقلت من صحف اخرى، وبالتالي فليس هناك خصوصية مجلية للكثير منها، حيث تبدو صحفنا متشابهة في معظم محتوياتها، أما كثرة الصحف، فتساهم في تشتت القاريء وبعثرته، ليصل بالنتيجة الى تركها جميعا.

وعليه يجد العراقي نفسها منشّدا الى مواجة اموره اليومية بالغة الصعوبة، وبالتالي العزوف عن قراءة صحف لا تشفي غليلا .

اليس من الممكن ان تندمج اكثر من صحيفة في مؤوسسة واحدة، لتصدر من ثم صحيفة معتبرة؟؟ سؤال برسم جميع المشتغلين بالحقل الصحفي .

 

هوامش على وقع الاعلام العراقي 

لاشك ان ثلاثة عقود ونيف، هي زمن طويل في عمر الافراد كما في في عمر الشعوب، اذ ان هناك الكثير من الامم قد حققت قفزات هائلة نحو الارتقاء في سلم الحضارة خلال فترة تقل عن ذلك، اما الافراد، فبإمكان الانسان الذي ولد إبان تلك العقود، ان يصل اليوم الى ذروة العمر مسلحا بشهادات عليا أومحققا نجاحات في نطاق عمله، بل وقد يتمكن من تجاوز بعض الاخفاقات التي ربما اعاقت تطلعاته نحو الافضل .

المعنى في القول ان عقود ا ثلاثة، هي مساحة زمنية يخلق فيها ايجاب وتتراكم منجزات، لكنها قد تشكل امراضا موروثة عند الشعوب كما الافراد.

يظهر تأثير تلك العقود المظلمة، بشكل جلي غالبا، في بعض سلوكياتنا كعراقيين، خاصة في موضوعات معيارية تعترض حياتنا اليومية .

ان ما تجاوزه العالم باكمله تقريبا، في مختلف المجالات، مازلنا نقيم له اعتبارا، فيؤثر في تشكل اذواقنا وبعض قيمنا الجمالية، بل وينتقل الى افكارنا وممارساتنا، فنحول الاستثناء الى قاعدة، و الخطأ نجعله صوابا، من دون ان نعترف باننا عشنا كل هذه العقود خارج مسار التطور، وان تجاربنا مازالت تحبو، وبالتالي فهي بحاجة الى الكثير من الجرعات الحضارية كي تنمو وترتقي .

لقد انتقلت العدوى بشكل أو بآخر، الى بعض من لامس تجربة  اعلامية من نوع ما،خارج العراق، اذ وجد نفسه محاصرا بكتلة من (الاراء) التي نخرتها العقود الثلاثة من عمر الاستبداد، وكل يحاول اثبات صوابية معاييره  وكان العراق مازال يعيش في عهود الظلام   .

عندها يصاب من يحاول تقديم بعض جديد،بانتكاسة احباطية، تكون نتيجتها، اما ان يعود الى تليده ليغرف منه اسوة بالاخرين، أو ينزوي في ركن ضيق، او يعود من حيث اتى، ليبقى الحال على ماهو عليه .

من طبيعة الاشياء، اننا بحاجة الى اعادة نظر في الكثير من استخداماتنا،سواء في المصطلح أو في المعنى او المضمون،او  في كل ما نقيس اعمالنا بواسطته  ويشكل منظورنا الادبي .

كمثل أسلوب صحافتنا المكتوبة في الشكل والمضامين ، فالمعروف ان الاشكال المزخرفة بألوانها الصارخة والمتنافرة ، كان تقليدا في التصميم  اتبعته صحافة الستينات من القرن الماضي، وقد ترك هذا الشكل منذ زمن طويل في كافة الصحف العربية والعالمية،اذا تميل كبريات الصحف، الى بساطة التصميم الخالي من التعقيد والافتعال ، أما في بعض صحافتنا، فما زال ذلك النوع يشاهد بل وتسمع من يدافع عنه وكأن القاريء  العراقي مازال متخلفا حتى في الذوق .

في جانب اعلامي آخر، فأن  ارقى معاهد التمثيل والاعداد التلفزيوني، تعلم تلاميذها الا يفتعلوا او يمثلوا أمام الكاميرا، بل ان يتقمصوا ادوارهم ليتصرفوا على سجيتهم كما في حياتهم الخاصة، هذا ما نشاهده في كافة الفضائيات ذات الاساليب الحديثة والمتطورة، حيث نرى المقدم يتصرف وكانه في جلسة خاصة بعد ان يستعد لموضوعه ويدرسه في جميع معطياته،

أما عندنا، فالامور معكوسة تماما، اذ ان من يفتعل في جلسته وسلوكيته امام الكاميرا، محاولا الايهام انه لا يقل شأنا عن مقدمي البرامج في الفضائيات الكبرى  وذلك من خلال تقليد اسلوب هذا المقدم او ذاك، فانه يقبل بل ويعتبر ناجحا، بدل ان يطلب منه الابتعاد عن الافتعال وبالتالي  التصرف بتلقائية، المشكلة ان بعض مخرجينا يعتبر الكاميرا صنما مقدسا أو ملكا متوجا ينبغي اتخاذ كافة الاجراءات للوقوف امامه بنمطية محسوبة لا يجوز مخالفتها أو الخروج عنها بإعتبار ان تلك الاجراءات الجامدة،انما هي من الاصول الثابتة التي تدل على مهارة المخرج وقدراته، وهكذا نرى  بعض المقدمين في حالة يرثى لها، فهم  أما اشبه بالتماثيل في متاحف الشمع، يتحركون بآلات مخفية ليس الا، او مهرجين يتقافزون ويتصارخون بهدف الاضحاك الذي يستثير فيك البكاء رثاء على ما يفعلونه بانفسهم وبنا، أما لفظهم للغة العربية، فأنهم (يمشون) معها كثمل على جليد ما ان يقوم حتى يقع، فما ان يلفظوا كلمة صحيحة،حتى يردفوها  بإثنين او ثلاث خاطئة، مما يسبب تغييرا جذريا بالمعنى ليصبح الخبر او الموضوع  المقروء، اشبه بالطرفة  .

كذلك وقع البث الفضائي العراقي في مشكلة التقليد خاصة فيما يتعلق بالبرامج الحوارية وضيوفها الدائمون التي استهوت (النجومية) البعض منهم الى درجة التكرار .

لقد شهدالعقد الأخير من القرن الماضي، طفرة هائلة في وسائل النقل والبث جعلت الاعلام يتجاوز الحدود والكيانات، لينتشر في مختلف انحاء العالم تحت مسمى

(البث الفضائي) متزامناً مع ثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية واحدة.

ولما تحول البث التلفزيوني  من بضع ساعات في المحطات المحلية،الى عرض متواصل على امتداد اليوم بليله ونهاره، فقد ابتكرت الفضائيات البرامج الحوارية بعد نقلها من التجربة الاذاعية، لكنها هذه المرة بالصوت والصورة وحركات المقدم والضيوف مع محسنات الديكور والاضاءة وماشابه، الأمر الذي جعل من تلك البرامج تساهم في صنع الرأي ونشر المعرفة بطريقة تفوقت على الكتاب حيث لايبذل المشاهد جهداً كبيرا وهو يستمع الى ضيوف متخصصين يتناقشون بعمق حول قضية معينة فيشبعونها بحثاً وتحليلاً.

لكن ذلك لم يستمر، فمع تكاثر الفضائيات بشكل مطرد، واعتمادها الرئيس على هذه الحواريات باعتبارها الأقل تكلفة والأطول زمناً والأكثر نجاحا، لذا ضخت الفضائيات بعدد هائل من هذه البرامج التي تخلت عن نوعية ضيوفها لتعبئة الوقت من جهة، ولاضطرارها الى بث العديد من الحلقات في الفضائية الواحدة .

وعليه برزت ظاهرة الضيوف الدائمين، فبعد ان كان الضيف يسارع – بل ويبادر احيانا – للحضور الى الاستوديو بمجرد دعوته وبالمجان، اصبحت اللعبة مملة وهابطة المستوى باستمرار بعد ان منحت الفضائيات القابا كبيرة من نوع (محلل سياسي – باحث متخصص – خبير بكذا) مشفوعة بالقاب علمية عالية، يظهر بطلانها مما يحمله المتحدث من ضحالة في المعلومات وندرة في الثقافة،مع تكرار سمج يردده الضيف الذي ينتقل من فضائية الى أخرى وهو يمتلىء بالفراغ، خاصة بعد ان اصبحت الفضائيات تدفع لضيوفها مكافآت مالية نظير تكبدهم عناء الحضور .

لقد تحولت البرامج (الحوارية) ثقلاً زائداً وبائساً الا فيما ندر، وعلى طريقة بعض مطربي اليوم الفاشلين، صار المقدم يحاول جاهداً انقاذ برنامجه، عن طريق اثارة الضجيج والصراخ، وفيما لم ينجح ذلك عند الكثيرين، بردت حلقات تلك البرامج لتتحول من ثم الى مايشبه حوار الأموات .

في هذه الاثناء، تراجعت بدورها (الثورة الفضائية) من حيث المضامين الحداثوية التي كانت في بدايتها، لتعود كل منها الى شكلها التقليدي لتصبح مجرد وسيلة استخدامية لهذا الحزب او تلك الطائفة وليتكلس خطابها وما تقدمه ضمن هذه المفاهيم الضيقة .

 وشيئا فشيئاً حدثت اصطفافات حول الخطاب  المعتمد للفضائية المعنية  التي اصبحت تبعاً لذلك، تختار ضيوفها المقربين من خطابها السياسي أو الطائفي، ليصبح تكرار الوجوه بالكلمات والحركات ذاتها، أكثر مدعاة للملل بل والتقزز غالبا، بعد ان عجزوا أو افرغوا من تقديم أي شيء جديد سوى قول ما يطلب منهم .

من هنا صار ظهور (الضيوف) أكثر كثافة من مقدمي البرامج انفسهم، فقد يطلب من المقدم حلقة او اثنتين اسبوعيا، أما (الضيف) فيعاود الظهور طوال الاسبوع حيث يحل على كل حلقة - وان اختلف المقدمون-  ليقرع رؤوس المشاهدين الذين يتناقص عددهم باستمرار .

لكن ذلك لم يمنع الكثير من وسائل الاعلام من سلوك ما يمكن تسميته ----

يتبع .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1208 الاحد 25/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم