صحيفة المثقف

السيد محمد حسين فضل الله وأساليب التعبير عن مأساة الحسين (1) / علي جابر الفتلاوي

لا احد ينكر ان السيد محمد حسين فضل الله (قدس)، كان قائدا ميدانيا جريئا، لا يتردد في قول كلمة الحق وابلاغها الى الجماهير المسلمة، من باب شعوره بالمسؤولية الشرعية والانسانية، وغيرته الكبيرة على الاسلام، وضرورة صيانته، والمحافظة على نقاوته واصالته، وهو من العلماء المجتهدين الرساليين الحركيين، وهو ايضا قائد  ميداني وسياسي ومفكر وداعية اسلامي منفتح على الواقع بصورة حقيقية وعلمية، كان السيد فضل الله حريصا ومهتما بنجاح الاسلام كتجربة قابلة للتطبيق في الحياة بالطريقة العلمية الواقعية الصحيحة، ليس في مكان او زمان معين بل على امتداد الزمان والمكان، بعيدا عن التشوهات والخرافات والعادات والتقاليد غير المنسجمة مع منهج وفكر الاسلام الاصيل، ومنهجه الانساني، هذا المنهج الاسلامي الحياتي  الذي فيه المتغير والثابت، وهذه رؤية السيد الشهيد محمد باقر الصدر ايضا، بل هوالمؤسس لها .

يقول السيد محمد حسين فضل الله وهو يتحدث عن اساليب التعبير عن مأساة الحسين (ع) في كتابه (حديث عاشوراء) ننقل بعضا من آرائه بتصرف في هذه القضية، في ست مقالات، وهذه هي المقالة ألأولى، يقول السيد فضل الله :

(من المفاهيم الدخيلة القلقة على طريقة اثارة المآساة مما قد يتنافى مع المفهوم الاسلامي الاصيل،  او يبتعد عن خط التوازن في دائرة التصور، او تنحصر الذكرى في دائرة معينة تنطلق بها في العصبيات العائلية بعيدا عن المشاعر والافكار الرسالية وغير ذلك، مما قد ينعكس سلبا على الذهنية الشعبية التي تختزن هذه المفاهيم التي تنفذ الى منطقة الشعور من خلال الدموع والآلام التي تعمق المضمون الفكري والشعوري في كل مواقع الاثارة في الذات) .

هنا يعرض السيد فضل الله بعضا من هذه النماذج والمفاهيم التي يقدمها بعض الخطباء للجمهور، يلتقي السيد فضل الله مع ما يطرحه السيد حيدر الحلي الشاعر الكبير، في قصيدته الحسينية التي يستنهض فيها صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف :

                      واستأصلي حتى الرضيع لآل حرب والرضيعة

يعلق السيد فضل الله على البيت : نحن نجد امامنا دعوة صارخة مثيرة لاستئصال بني أمية حتى الرضع منهم الذكور والاناث، هذا المفهوم لا يتناسب مع القيمة الاسلامية الانسانية في خط العدالة التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى : ((ولا تزر وازرة وزر اخرى)) الانعام، 164

كذلك لا يتناسب هذا المفهوم مع السيرة الحسينية فيما تنقله احاديثها من اللفتة الانسانية لبعض الجنود من جيش بني امية عندما قدم الحسين (ع) ولده عبد الله الرضيع الى القوم ليسقوه جريعة من الماء، فقد قال بعضهم وهو يتفاعل مع مأساة هذا الطفل العطشان ليؤكد الاستجابة لطلب الحسين (ع)، ان كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الطفل الرضيع ؟

(فكيف يمكن ان يستمع الجمهور المسلم لمثل النداء الذي اطلقه السيد الحلي في البيت السابق، الذي يدعو الى العدوان الصارخ نحو الاطفال الذين لا ذنب لهم ؟ لا سيما اذا كانوا من الرضع مما يزيد الاحساس الانساني شعورا بالألم، في الوقت الذي تتحرك فيه كل ذكرى عاشوراء من أجل اثارة المشاعر الانسانية المضادة لكل الواقع الذي صنع المأساة، حتى يتبلور الرفض الاسلامي لأمثال هذا الواقع، فيقف في مواجهة كل الذين يريدون ان يصنعوا الانسان في الحاضر والمستقبل، كما صنع امثالهم المأساة في الماضي).

 نحن نعرف ان الذهنية الشعبية ذهنية متلقية، تستقبل الافكار والمفاهيم بسهولة، من غير تدقيق اوتمحيص، خاصة اذا كانت صادرة من اشخاص يتحدثون باسم الدين، ويتحدثون في المناسبات الدينية التي تحتل مكانة خاصة في نفوس الجماهير، سواء كان الملقي رجل دين او شاعر او أي شخصية تعيش في اجواء المناسبة الدينية المقدسة،  كمأساة الحسين (ع)، نرى ان مفهوم السيد حيدر الحلي الذي يدعو الى استئصال الاطفال من بني امية حتى الرضع منهم، تقبلته الذهنية الشعبية من غير اعتراض، وكذا غيره من المفاهيم، وبمرور الوقت تترسخ هذه المفاهيم في الذهنية الشعبية، وقد تتحول الى مقدسات  وتصبح جزءا من المأساة، رغم تقاطعها مع مبادئ الاسلام العادلة والانسانية  .

من المفاهيم الخاطئة ايضا مفهوم طرحه احد الشعراء حاكيا بلسان اهل البيت (ع) :

           سادة  نحن  والانام  عبيد        ولنا  طارف  العلى  والتليد  

          وابونا  محمد  سيد  الانام         وأجدر  بولده   أن   يسودا

هذا المفهوم – بظاهر الكلام – يتنافى والذهنية الاسلامية التي ترفض العبودية، عبودية انسان لانسان، في عمق الخط الاسلامي، كما ترفض نظرة أي شخص لنفسه بهذا المقياس، وقد درج الانبياء والاولياء على الابتعاد عن هذا الاسلوب في حديثهم عن الناس، كما درج القرآن على الحديث عنهم بغير هذه الطريقة، فلم نلاحظ في كل التراث الديني والاسلامي بشكل خاص، مثل هذا التعالي على الناس بحيث تكون النظرة الى الناس انهم العبيد وهم السادة، في الوقت الذي نعرف فيه من خلال الحقيقة الدينية انهم الفئة المميزة في الدرجات العليا عند الله تعالى، بحيث يرتفعون عن الناس في قربهم الى الله تعالى، كما نعرف أنّ طاعتهم واجبة على الخلق من كموقع رسالة الله  التي يحملونها ليبلغوها الى الناس، ومن موقع الشريعة التي أوكل الله تعالى اليهم أن يجسدوها في الحياة .. ولكن الطاعة شئ والعبودية شئ آخر، لأن الطاعة تلتقي بالمسؤولية .

واذا كان الاسلوب الادبي يبرر للأنسان ان يتواضع لأنسان اخر رفيع القدر ليقول له : اني عبدك فيعترف له بذلك تنزيلا لنفسه بمنزلة المملوك تواضعا، فأن التربية الاسلامية لا تتناسب مع كلام الشخص الكبير الذي يعبرعن نفسه بهذه الطريقة، ولذلك فأن تصوير اهل البيت (ع) للناس بأنهم يتحدثون عن انفسهم وعن الناس بهذا الاسلوب، لا ينسجم مع النظرة الروحية العالية لروحانيتهم الرفيعة في التواضع لله تعالى في علاقتهم بالناس .

هناك مظاهر اخرى يرى السيد محمد حسن فضل الله انها سلبية ولا تنسجم مع الرسالة التي ضحى الحسين  (ع) وقام بثورته من اجلها، لأن من مقاصد الثورة الحسينية تصحيح المفاهيم، وتعديل المسار، من هذه المظاهر السلبية التي اشار اليها السيد فضل الله، اظهار ثورة الحسين من بعض الشعراء، وكأنها صراع بين عائلتين، العائلة الهاشمية والعائلة الاموية، كما كانت تدور الاحداث زمن ماقبل الاسلام عندما كان الصراع قبليا، ومن الشعراء الذين اثاروا المأساة كصورة من صور الصراع العائلي الشاعر ابو العلاء المعري في قوله :

                عبد شمس قد اضرمت لبني هاشم حربا يشيب  فيها الوليد

                فابن  حرب  للمصطفى  وابن  هند لعلي  وللحسين  يزيد

وهذا المعنى نلتقيه  ايضا في بعض قصائد السيد حيدر الحلي كما في قوله :

               قوضّي يا خيام  عليا  نزار     فلقد  قوضّ  العماد   الرفيع

               واملأي العين يا أمية نوما      فحسين على الصعيد صريع

وقوله :

              بشرى  بني فهر  فأبناؤكم       ماتوا  وهم أعلى الورى أعينا

              باعوا  نفوسا لهم  قد غلت        وأرخصوا من سعرها المثمنا

واذا استعرضنا الشعر الحسيني نرى الكثير من هذه النماذج تتلى في مجالس العزاء تدعو الى تكوين ذهنية شعبية تستغرق في مشاعر العصبية للعائلة الهاشمية ضد العائلة الاموية بعيدا عما هي المسألة الاسلامية، حتى ان البعض اخذ يتصور الدين كخصوصية من خصوصيات العائلة، لا كحالة رسالية تنفتح على الوعي الاسلامي لدى الانسان المسلم، اذ نلتقي برموز الاسلام وقياداته في ساحاتها ليكون الارتباط من خلال الاسلام لا من خلال الخصوصية العائلية، ويذكر السيد فضل الله ان هذا التأثير العاطفي الذي يتحول الى تعصب للعائلة قد ترك آثارا على حركة الوعي الشعبي السياسي في بعض المراحل السياسية القلقة من حياة الامة .

  العائلة الهاشمية استغلت الدين للحصول على مكاسب سياسية غير مشروعة خاصة في التأريخ السياسي الحديث للوطن العربي، بدعم من بريطانيا، يرى السيد ان الملوك الهاشميين من ابناء الشريف حسين قد حصلوا على كثير من الدعم العاطفي من بعض علماء الدين، وبعض الفئات الشعبية الطيبة، انطلاقا من انتسابهم للعائلة الهاشمية، من دون النظر او التدقيق في التزاماتهم الاسلامية، او في لونهم المذهبي في الساحات التي ترى للمذهبية معنىً كبيرا في التقويم الفكري والعاطفي، فقد حصل الملك فيصل الاول على الحماس الشيعي الذي تصدره علماء الدين في جبل عامل في لبنان، عندما أُعلن ملكا على سوريا، كما حصل على تأييد مماثل او اكثر منه، من علماء الدين الشيعة والجماهير الشيعية في العراق، واستطاع الجانب العاطفي المنفتح على الهاشميين، ان يمهد لهم الكثير من مواقعهم في الحكم، وان يبعد الجماهير عن التدقيق في خلفياتهم السياسية المرتبطة بالاستعمار البريطاني الذي ارادهم حراساً لمصالحه وواجهة لحكمه، وجسراً لمخططاته .

ارى ان حالة التخلف الكبرى هذه التي اشار اليها السيد فضل الله يتحملها بعض قادة الشيعة في ذلك الوقت، ممن ايدوا مجئ الهاشميين،وهذا دليل على السذاجة السياسية، وسوء التقدير، وفقدان الفهم الصحيح للاسلام، عند من أيّد مجئ الهاشميين الى الحكم استنادا على الخصوصية العائلية، من دون النظر الى الالتزام الديني، والتأريخ الشخصي، بغض النظر عن الانتماء العائلي، وكأن الخصوصية العائلية عند هؤلاء، جواز المرور للالتزام الديني او الوطني، لا نلوم الجماهير التي ايدت الهاشميين العملاء،  لأن موقف الجماهير الشعبية في ذلك الوقت، انطلق من موقف بعض قادتهم المؤيدين للهاشميين، بسبب التقدير غير الصحيح  .

 يضيف السيد فضل الله الى ماسمعنا من آرائه السابقة، اننا عندما نثير مسألة الانتماء الرسالي كبديل عن الانتماء العائلي، ليس الغرض (ان نجعل القضية الرسالية شيئا يتحرك في المطلق بعيدا عن الرمز، لأن للشخصيات القيادية خصوصية في عمق حركة الرسالة، فلا بد من الارتباط العضوي بالقيادة فيما يمثله الارتباط بالرسالة لتكون العلاقة رسالية لا شخصية، وبذلك لا يبقى هناك دور للعائلة بعنوانها الكبير، ومن هنا فأن علاقتنا بأهل البيت (ع) لا تنطلق من هاشميتهم، بل تنطلق من رسالتهم، كما أنّ الهاشمية لا تكتسب قداسة من خلال انتماء رموز القداسة الرسالية اليها) .

يؤكد السيد فضل الله ان مثل هذا الشعور المرتبط بالعائلة لا بالرسالة، بشكل لا شعوري، قد ساهم في ارباك الواقع السياسي حتى على مستوى حقوق المسلمين الشيعة في العراق، لأن العائلة الهاشمية التي تسلقت الى الحكم بفضل دعم جماهير الشيعة لهم، جاءوا لينفذوا المخططات البريطانية في تعميق الهوة بين افراد الشعب العراقي الواحد، عندما عملت على ايجاد مشكلة الاكثرية المضطهدة من قبل الاقلية، ليبقى التعقيد المدمر في ساحات العراق، كعنصر من عناصر ارباك الواقع كله .

واليوم ما زالت بريطانيا مع حلفائها الامريكان والصهاينة والدول الطائفية في المنطقة،   تلعب بالورقة الطائفية في العراق، اذ هي من المؤيدين لحكم الاقلية السنية على الاكثرية الشيعية، خارج اللعبة الديمقراطية، متجاوزة على المشاعر الوطنية للطائفتين الشيعية والسنية اللتين ترفضان هذه التوجهات الطائفية المقيتة، لكنها تتخذ من مواقف بعض الشخصيات السياسية السنية الطائفية المتطرفة التي تتلقى تعليماتها من خارج الحدود، مبررا لتكريس الطائفية في العراق، رغم رفض الشعب  بكافة الوانه  للطائفية .

 الدول الطائفية في المنطقة كالسعودية وقطر وتركيا والاردن وملكه الذي يحكم باسم العائلة الهاشمية، وهو اول من اطلق اصطلاح الهلال الشيعي، واثار نعرة الطائفية وكذلك ملك المغرب الذي يحكم باسم التقديس العائلي الذي زرعه الاستعمار في النفوس الشعبية البسيطة، هؤلاء وغيرهم يريدون تقسيم وتمزيق العراق باسم الطائفية، لغرض اضعافه خدمة للصهيونية، عليه لابد وان نكون مع افكار السيد محمد حسين فضل الله، التي تدعو الى نبذ الطائفية، والتقديس العائلي باسم الدين، والدعوات التي تريد حصر المفاهيم الاسلامية الرحبة في الزوايا الضيقة، واليوم نرى امريكا والغرب واسرائيل، ودول المنطقة الطائفية، كتركيا والسعودية وقطر، قد اشهرت وبشكل علني سلاح الطائفية الرهيب، لتمزيق وحدة المسلمين، والقضاء على مصادر قوتهم فيما لو توحدوا واتحدوا، وعلى المسلمين الواعين افشال هذا المخطط التدميري، الذي لا يخدم سوى اعداء الاسلام من صهاينة، وغيرهم .


      علي جابر الفتلاوي   

   

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2282 الخميس 22 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم