صحيفة المثقف

حوار مع الشاعر العراقي يحيى السماوي / عزيزة رحموني

"حين  يكرُّ  على حياتنا  بكتائب الظلمة القادةُ الزور والمضاربون في بورصة الدِّين وأصحابُ الحوانيت السياسية:أُشْهِرُ قنديل القصيدة إكراما للحب وذودا  عن الحياة .

هذه نبضات يحيى السماوي مبدع شرب من الفرات نسغ النبل ومن دجلة نكهة الاصالة. لحرفه وجع انساني جدا، حين حاورته جاءت ردوده شاعرية تشبه فراشات شديدة الحكمة، يلقبه الشاعر العراقي سلام كاظم فرج بـ: شاعر العرب الكبير الذي يمتلك زمام اللغة العربية وناصيتها .

لنتابع:

 

يحيى السماوي حين يرتل آياته أي محراب يفتح لها؟

*  ج: أفتح لها  محراب قلب صغير بحجم برتقالة، لكنه يسع العالم كله، يضفر شرايينه أراجيح للأطفال، وينسج من نبضه مناديل للكادحين والعشاق وكل الذين أمروا بالمحبة والعبير ونهوا  عن الضغينة ودخان الحرائق ..

 

س: حين تنام العيون على حافة النوافذ الساهرة أي قمر يطلع على شفاه حروف يحيى السماوي؟

* ج:يطلع قمر له شكل رغيف الخبز  في سماء مطرّزة بعصافير أمنياتنا المؤجلة منذ خطيئة قابيل (وخطيئة آدم  عندما قضم التفاحة المحرمة فتسبب بإخراجنا  من الجنة) .

 

س: متى تكون القصائد قديسة الشفاه؟

ج: تكون القصائد قديسة الشفاه عندما  تكون صدى لهديل حمائم النخلة المعصومة الأعذاق، وتتوضّأ  بلثم  جباه الشغيلة وتقبيل الورود  لا  مضغها، وحين  تسهم في نشيد المحبة الكونية .

 

س: شمس الأمس دائما دافئة في ذاكرتنا...ماذا عن شمس الغد في قلب يحيى؟

* ج: من فضائلي ـ وهي قليلة ـ أنني أؤمن بأن الغد يتسع للكثير من مهرجانات الفرح على رغم أن يومنا الراهن يفيض أسىً، وهذا يعني أن شمس الغد لابد وأن تزيل عن مرايا  الحاضر ضباب الفجيعة والقنوط، فيعود للصحن عافية الرغيف، وللعشق بهاؤه، فتزداد الحدائق اتساعا على حساب الخنادق التي ستأخذ بالإنحسار .

 

س: من سمير الشعر في زمننا المادي الُمعَوْلم؟

* سيبقى العشاق والكادحون والمتبتلون ندامى الشعر وسمّاره في زمننا المادي هذا .. أرأيتِ عاشقا يكتب لحبيبته خطبة حربية؟ أو  راعي غنم  يترنّم ببيان عولمي وهو يعزف على ربابته؟ أو أمّا ً  تهدهد طفلها على وقع سرفات دبابة؟

 

س:هل يستطيع المبدع ان يطلِقَ سراحه من نفسه؟

* إذا كان صحيحا أن المبدع ليس راهبا بوذيا حبيس صومعة ذاته فإن الصحيح أيضا أنه ليس شجرة تنتصب في الهواء .. ذات المبدع متماهية بذوات الآخرين، بدليل أنّه يوجه إبداعه للآخرين بل ويستلهم إبداعه من حيوات الآخرين .

 

س: يقول يحيى السماوي لحروفه: "شُدّي شراعك" فتسوقه الريح الى عوالم بلا مدى...هل تحدثنا عن هذه العوالم؟

* حين كتبت:

شدّي شراعكِ فالطريقُ طويلُ

وأمـامـنا  بعد الرحيـلِ رحـيـلُ

 

إنْ كان في المعلوم سِفرُ عذابنا

فـلـربّ داءٍ طِـبُّـه الـمـجهـولُ

 

أوَلستُ من وطن ٍ يسيلُ صباحُهُ

قيحا ً ويندى بالدماءِ أصيلُ؟

 

ما العُجبُ إنْ سُلَّ النخيلُ؟ فأرضنا

مـسـلولـةٌ .. وفـراتـنـا مـسـلـولُ

 

تحت الكراسي في العراق جماجمٌ

وعلى الكراسي في العراق مغـولُ

 

حين كتبت هذه الأبيات ـ من قصيدة طويلة ـ كنتُ أبحث عن وطن مستعار أنصب فيه خيمتي لأنجو من حبل مشنقة يترصّد عنقي في زمن  النظام الديكتاتوري البائد  .. لذا  أسلمتُ زمام سفينتي للريح في مدىً شديد العتمة، فتنقّلتُ بين أكثر من معسكر لجوء ومنفى ووطن مستعار، مضرّجا ً بالحنين والوجع الروحي ... أمّا وقد دُكّ الصنم فقد استعاد المدى الكثير من صفائه، ولم تعد النخلة تتراءى لي على شكل مشنقة، والوطن على هيأة تابوت .

 

س: متى تكون القصائد خديجة؟

* ج: تكون القصائد خديجة حين تكون الكلمات أكبر من القلم، والصراخ أكبر من الحنجرة، والجرح أكبر من الجسد ... حينئذ لا ينفع لولادة القصيدة غير عملية قيصرية  فتأتي غير كاملة النماء ..

 

س: ومتى تكون تطريزات على سعف نخل الحياة؟

ج: تكون القصيدة تطريزات على سعف نخلة الحياة حين يحطّ هدهد المسرّة على شرفات أحداقي، أو  حين  يكرُّ  على حياتنا  بكتائب الظلمة القادةُ الزور والمضاربون في "بورصة الدِّين" وأصحابُ الحوانيت السياسية، فأشهر قنديل القصيدة إكراما للحب وذودا  عن الحياة .

 

س: من تكون سلمى التي وضع يحيى باقتين من نبض القلب على ضريحها؟

*ج: سلمى ـ طيّب الله ثراها ـ هي حبيبة وزوج رفيق نبضي وصديق فتوّتي وشبابي وكهولتي الأديب المناضل صباح محسن جاسم والذي أسهم في تعليمي فنّ الصبر والتفاؤل والإبتسام حتى حين يكون المرء قاب خطوة أو أدنى من قبره ... لقد قضت المرحومة الصابرة السنين الطويلة مشلولة طريحة الفراش إثر إقدام سفلة النظام المقبور على جريمة الإفشال العمد لعملية جراحية بسيطة إنتقاما منه حين كان مختفيا عن أنظار منتسبي أمنه لا لذنب اقترفه سوى أنه من أحفاد عروة بن الورد المؤمنين بحرية الوطن وسعادة الناس ...

 

س: أيُّ الشجون العراقية تُلامس قلب يحيى وتلهمه أكثر؟

*  كل شجن نبيل وحزن نبيل وفرح نبيل هو مُلامسٌ لقلبي ياسيدتي ... قد تبكيني رؤية طفل يحمل صندوق صبغ الأحذية  وليس الحقيبة المدرسية ... وأفيض فرحاً لرؤية عاشقين يتنزّهان دون الخشية من ساطور ملثّم أو  هراوة ظلاميّ ..

 

س: كتاب الحب يُكتَب داما في فصول ...اي هذه الفصول احبّ الى يحيى؟

ج: أحَبّ كتاب فصول الحب إلى قلبي، هو الفصل الذي يتماهى فيه العاشق بالمعشوق ... الفصل الذي يتّحد فيه العاشق بالمعشوق اتّحاد العطر بالوردة، والسارية بالعلم، والشجرة بظلها .

 

س: هل ضرّجك الوجد بجمره يا يحيى وكيف ترجمت ذلك تطريزات على طرف عباءة القصيد؟

ج: أتذكر من قصيدة   حين طحنتني رُحى الوجد:

يُـشقـيـكِ ياليلاي ما يُـشقـيني

منفايَ دونكِ والمشانقُ دوني

 

بتنا وقد غرّبتُ مذبوحَ الخطى

مجنونة ً تصبو إلى مجنون ِ

 

نُخفي إذا اصطخبَ الضّحى آهاتِنا

فتنزّ دمعا ً في ظلام سكون ِ

 

جفّ الضّياءُ بمقلتي واستوحشتْ

أجفانَها في الغربتين  عيوني !

 

لو كان ليْ أمرُ المُطاع ِ على المنى

أو كانت الآمالُ طوعَ يميني:

 

أبدلتُ بالأضلاع ِ سعفَ نُخَيلة ٍ

وبعشبِ أحداقي حُثالة َ طين ِ

 

أنا ذلك البدويّ: تحت عباءتي

واحاتُ أشواقٍ ونهرُ حنين ِ

 

إنْ  كان يُكفي العاشقين هُنيهة ٌ

فالدّهرُ ـ كلُّ الدهر ـ لا يكفيني

 

س: "نخلة الله" عبارة صادفتها مرارا في كتابتك...ما سر هذه النخلة؟

ج: لا يوجد لشجرة من الأشجار حضور في الشعر العربي كالنخلة .. فقد ورد ذكرها  في شعر امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى في معلقتيهما وفي كتابات ياقوت الحموي والبلاذري وابن حوقل كما وردت في شعر المتنبي والرفّاء والمعري وابن الرومي والأبيوردي والصنوبري وأبي نؤاس وغيرهم الكثير من القدامى، ووردت في شعر أحمد شوقي والرصافي والجواهري والسياب ونزار قباني وحسب الشيخ جعفر والبارودي وإيليا أبي ماضي ومظفر النواب  وغيرهم الكثير .. كذا الأمر في الشعر الشعبي العراقي والعربي .. بل وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة .. فهي نديمة خيال عبد الرحمن الداخل في أندلسه، كما هي مؤنسة مطيع بن إياس في غربته عن مرابعه ... هي رمز للعطاء والتسامي كما هي رمز للصمود ..

شخصيا، لي علاقة حميمة بالنخل منذ طفولتي  ... كانت النخلة بمثابة الطفل التاسع لأبي، أو الشقيق الرابع لي .. لذا كثر ورودها في شعري (وقد انتبه لهذا الأمر الناقد د . رسول بلاوي في رسالته لنيل شهادة الدكتوراه، والأستاذة إنصاف الحسني في رسالتها لنيل الماجستير وبقية الرسائل الجامعية التي تناولت تجربتي الشعرية المتواضعة) .. هي في شعري رمز للحبيبة كما هي رمز للوطن،وفي كلا الحالين: هي مئذنة الروح وسادنة الشجر  ومأوى عصافير أحلامي .

 

س: عيون يحيى المبدع كيف ترى العراق اليوم؟

ج: أراه في دور النقاهة بعد أن أمضى أكثر من ثلاثين عاما  رازحا في معتقل الديكتاتورية التي جعلت منه مقبرة جماعية ودهليز تعذيب على شكل وطن ... لي يقين أنه سيتعافى، وسيعود خيمة محبة للجميع .

 

س: ما المفارقات التي يشهدها المجتمع العراقي اليوم؟

ج: المفارقات هي أنّ النواطير  هم اللصوص ياسيدتي  ... !

 

س: وما موقف المثقف العراقي مما يجري حوله؟

ج: هذا أيضا وجه من وجوه المفارقات الراهنة  .. فالسياسي  ـ وبحكم  جلوسه في الصفوف الأمامية من مسرح السلطة  وانفراده بقيادة عربة الحكم ـ  في خصام غير معلن للمثقف ولايريد له أن يأخذ دوره التنويري ... السياسي يريد من المثقف أن يكون تابعا من توابعه أو مهرّجا في السيرك الإعلامي لحزبه أو طائفته .. فإذا كان دور المثقف في ظل النظام البائد ملغيّا ً تماما، فإن دوره في ظل نظام المحاصصة المقيت هامشيّ .. ومع ذلك فدوره آخذ بالنماء .

 

س "مناديل من حرير الكلمات" أي حِبر شربتْ أو أيّ دموع تشربتْ؟

ج: بعض هذه المناديل نسجتها بأضلاعي وطرّزتها  بدموعي ...وبعضها نسجته  بسعف نخلتي المعصومة الأعذاق وطرّزتها بهديل حمائمها ..

 

س: حين كتب يحيى"بعيدا عني ...قريبا منك" لأيّ قارئ كان يكتب؟

ج: كتبته لكل قارئ يقاوم الموت بالحب إكراما للحياة، ولكل عاشق  يتقرّب إلى الله بعفاف عشقه وطهر سريرته .

 

س: منِ التّي تأخرتْ دهرا حتى فاض صبر يحيى فصار يتساءل: لماذا....؟

ج: التي تأخرت كثيرا هي عودتي إلى السماوة ... تأخرت كثيرا حقا، فقد غادرتها قسرا وأنا في مقتبل العشق، وعدت إليها في الوقت الضائع من عمري وقد بلغت من الغربة عِتيّا ..

 

س: يحيى والترجمة،أي علاقة تربطهما؟

ج: الترجمة هي الجسر الذهبي الذي يربط بين ضفة أبجدية الضاد وضفة الأبجدية الأخرى من النهر الإبداعي الكونيّ ..

 

ك: كلمة أخيرة؟

ج: كلمتي الأخيرة هي أمنيتان ..الأمنية الأولى أن يغدو خبز الفقراء أكبر من الصحن والمائدة، وأن يسود العالم مبدأ " قوة الحق " وليس مبدأ  " حق القوة " الذي جعل من أمريكا " أسبرطة جديدة " ... وأما الأمنية الثانية فهي أن أكون جملة تامة مفيدة في كتاب الشعر الإنساني وليس مجرد حرف كما هو موقعي الان ... وأقول أيضا: شكرا جزيلا للأديبة المبدعة عزيزة رحموني .

-_-_-_-_-

مع تحيات عزيزة رحموني من المغرب

  

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2283 الجمعة 23 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم