صحيفة المثقف

السيد محمد حسين فضل الله واساليب التعبير عن مأساة الحسين (2) / علي جابر الفتلاوي

وجنوحهم عن الاجواء الطبيعية للثورة الحسينية، ومخاضاتها الواقعية، وتطرقنا ايضا الى آراء السيد فضل الله بأعتباره أحد المجتهدين الرساليين الذين ينظرون للامور من خلال روح الثورة الحسينية، واهدافها الرسالية التغييرية، اذ يدعو الى أظهار الوجه المشرق للثورة بعيدا عن التضخيم الذي يخرج القضية عن واقعيتها، وبعيدا عن الانفعال العاطفي المتأتي من التعلق الشديد بحب الحسين وحب اهل البيت (ع)، بحيث يدفع هذا الحب العاطفي البعض الى الجنوح والصاق خيالات غير واقعية، بما لا يتناسب ومقام الثورة الحسينية الرفيع، ويتقاطع احيانا مع رسالة  الثورة، التي أسست لمبادئ مقاومة الظلم والظالمين، ولا زلنا نرى عدم الواقعية لدى البعض من الشعراء والادباء والمحدّثين،وهم يندفعون عاطفيا في المديح والصاق الصفات التي لا تتناسب ومقام رجال الثورة الحسينية المضحين من اجل أسلام المبدأ، والذين ظُلموا من الحاكم الظالم الجائر، عندما وقفوا بوجهه رافضين لظلمه وجبروته، وقدموا حياتهم ثمناً وفداء لهذا الموقف الجرئ والشجاع، وفي رأيي نحن اليوم قد ظلمناهم ايضا، من حيث نريد تمجيدهم ومديحهم، من خلال بعض أساليبنا غير الواقعية في التعبير عن المأساة، والتي يتسم الكثير منها بالأنفعالية العاطفية التي تشوه الصورة الحقيقية للثورة الحسينية ولرجالاتها الأبطال .

في هذا الحديث نعيش في اجواء آراء السيد محمد حسين فضل الله (قدس)، اذ يشير الى أنّ الحب العاطفي الكبير للامام الحسين (ع) دفع بعض الشعراء الى الجنوح بالخيال الشعري بما لا يتناسب ومقام الامام الحسين (ع) وشخصيته، ولا يتناسب وقضيته التي فيها الشموخ والصمود والقوة والشجاعة والثبات على المبدأ، وعدم الاذلال او الضعف امام العدو .

يقول السيد فضل الله ان التراث الادبي من الشعر والنثر قد يحتاج الى بعض الخيال، وبعض اللفتات الفنية في حركة العاطفة في المأساة، وفي تأثير المأساة في الوعي الداخلي للانسان المسلم، السيد يرى أنه لابد وأنْ ينطلق الخيال في اجواء المضمون الذاتي للقضية، فلا يخلق لها ابعاداً بعيدة عنها، ولا ينتج لها فكرا يختلف عن فكرها، كما ان الجانب الفني في لفتاته الأيحائية والأيمائية والتعبيرية لا بد أن يعطي الفكرة بعضا من معنى الجمال الحقيقي الذي تختزنه مفرداتها، فلا يفرض عليها جمالاً من خارج معناها، او يمنحها خصوصية بعيدة عن خصوصيتها .

هناك من الخيال الشعري ما يوحي بصور يظهر فيها الامام الحسين (ع) شخصاً ضعيفاً خائفاً يستجدي المأوى ولا مأوى، تائهاً حائراً لا يدري اين يحل؟ ولا يدري الى أين يذهب؟ ويبحث عن مخرج للرجوع الى حيث أتى، ويذكر السيد فضل الله مثالا لذلك، قصيدة السيد جعفر الحلي التي جاء فيها :

خرج الحسين من المدينة خائفا        كخروج  موسى  خائفا  يتكتم

وقد انجلى عن مكة  وهو  ابنها         وبه تشرفت الحطيم  وزمزم

لم  يدرِ اين  يريح   بدن  ركابه         فكأنما  المأوى عليه   محرّم

يعترض السيد على الفكرة التي توحي بها هذه الابيات، اذ يظهر الحسين (ع) وقد خرج من المدينة خائفاً، وهذا عكس الصورة الحقيقية للامام، الذي خرج قاصداً ومصمماً على الثورة والشهادة، خرج وهو عارف بمصيره، ولم تثنه دعوات اهل مكة بعدم الذهاب الى العراق، بل كان مصمما على الشهادة، هذه الصورة من الخيال التي توحي بالضعف، لا تنسجم وقضية الحسين (ع)، ولا تنسجم وشخص الامام، ولا تخدم جماهير الامام، التي تستوحي من ثورته العزم والتصميم على الثورة والشهادة، من خلال بطولته واقدامه وشجاعته وموقفه بوجه الظالمين لنصرة المظلومين، واقامة دعائم الدين .

مواقف الحسين التي نستوحي منها القوة والشجاعة والتضحية في سبيل الحق، ونستخلص منها الصمود والعزم والارادة القوية على تحقيق الاهداف الاسلامية الانسانية التي تنشد العدالة ورفض الظلم والذل، ورفض الاستسلام للباطل، هذه الصورة الحقيقية الواقعية للأمام  الحسين (ع)، تتناقض مع الصورة التي يرسمها الشاعر السيد جعفر الحلي، التي لا نجد فيها صورة الثائر الذي يتحرك ليواجه السلطة الجائرة المنحرفة، من اجل تغيير الواقع الفاسد في الحكم والسلوك والحركة، وانصاف المظلوم واخذ حقه من الظالم، اذا كان الشاعر يريد استثارة العاطفة في شعره فأنه يسئ الى الموقف الاسلامي القوي في شخصية الحسين (ع) في طريقة اثارة المأساة .

 ينقل السيد فضل الله صورا أخرى للمعركة في كربلاء، منتقدا أيحاءات هذه الصور عن الحسين (ع)، يذكر أّنّ هناك عدة صور شعرية ونثرية تقدم لنا صورة الحسين  (ع) وهو يستغيث فلا يغاث، ويستجير فلا يجار، ويستسقي القوم جرعة من الماء، فلا يستجيب له احد منهم، حتى تنتهي القصة الى اللحظات التي كان الامام الحسين (ع) في حالة الاحتضار، فشاهده شخص من جيش بني سعد اسمه (حميد بن مسلم)، فليفت نظره انه يحرك شفتيه، فيقول الرجل في نفسه، لو كان الحسين يدعو علينا هلكنا ورب الكعبة، يدنو منه فيسمعه يقول :  (يا قوم أسقوني جرعةً من الماء، فقد تفتت كبدي من الظمأ)، ويضيف بعض الرواة الى ذلك قول (وحق جدي أني لعطشان) .

ينتقد السيد فضل الله هذه الصورة الضعيفة المنقولة عن الامام، ويعتبرها غير واقعية، وهي من رسم خيال الرواة او الشعراء، لأنها صورة من الصور التي توحي بالضعف ولا توحي بالقوة، مما لا يتناسب مع الصورة التي يتمثل فيها الامام انسانا كبيرا متمردا على كل نوازع الضعف، وعناصر الألم في مواجهة القوى الضالة الطاغية التي حشدت ضده كل تلك الجموع لتسقط موقفه وتهز ثباته، ولتدفعه بعيدا عن موقفه الصلب المميز، ولتفرض عليه الخضوع لحكم يزيد، فرفض التراجع والتنازل والخضوع، وتحمّل كل النتائج القاسية، من اجل ان يجسد القيم الانسانية الكبرى التي ارادها الله تعالى للانسان في الحياة، لأن (المسألة ليست مسألته الشخصية، بل هي مسألة الرسالة في تحدياتها الكبيرة، وفي حاجتها الى التماسك والتوازن في المواقع الصعبة التي تزدحم في اعماقها الزلازل)، وهذا ما عبر عنه الامام فيما روي عنه:

(الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منا الذلّة، ابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وجدود طهرت من ان نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) وقوله (ع): (لا والله لا اعطيكم بيدي أعطاء الذليل ولا اقرّ لكم اقرار العبيد) .

أنّ مثل هذه الكلمات لا تلتقي مع الاسلوب الاستعطافي الذي تتحدث عنه الرواية السابقة، ان كلمات الحسين تمثل التصميم القوي على ان يتحمل اقسى النتائج  في سبيل موقفه على خط العزة ووحي الرسالة .

الامام الحسين (ع) لا يمكن تصوره ان يطلب الرحمة او الشفقة من اعداء الدين والانسانية، الذين لم يرحموا حتى الطفل الرضيع، فهل يعقل ان يطلب الحسين الرحمة والعطف من هؤلاء، وهم في قمة الطغيان والجبروت والقسوة والظلم، لا يمكن ان تصدر منه تلك الكلمات التي تدعو الى الشماتة به، والنظرة اليه من موقع المنهار، وهو القائل لاخته زينب بعد ان عبّرت عن جزعها من المصير الذي أخبرها انه سيصير اليه: (لا تشمتي بنا الاعداء) .

الصورة الحقيقية لشخصية الامام هي تلك التي عبر عنها احد اعدائه من جيش يزيد عندما سئل عن الحسين فقال : (فوالله ما رأيت مكثورا قط  قد قتل ولده واهل بيته أربط جأشا ولا اشدّ بأسا من الحسين، فلقد كانت الرجالة تشدّ عليه، فيشدّ عليها، فتنكشف من بين يديه انكشاف المعزى اذا شدّ عليها الذئب) .

يرى السيد فضل الله (ان كثيرا من الناس يعيشون في دائرة خاصة، ولذلك فهم يعتبرون الدنيا دائرتهم، ولكن الواقع ان الاسلام جاء للعالم، ونريد ان نعرف كيف نخاطب العالم، وكيف نستمع الى العالم، ان هناك تحديات ثقافية، وتحديات فكرية وسياسية تواجهنا اكثر من التحديات العسكرية) .

يرى السيد فضل الله بضرورة تطوير اساليب التعبير عن الحزن، او التعبير عن كل خط عاشوراء، سيما وأنّ اساليب التعبير عن الذكرى اصبحت مكشوفة للعالم، فكل الشعوب ترى كيف نحيي هذه المأساة ؟ بفضل الانفتاح والتوسع والتطور في وسائل الاعلام، يجب ان نمارس شعائر الثورة الحسينية، ونعبر عن مأساة الحسين بالصورة التي تجذب الاخر ليأخذ موقفا ايجابيا عن الثورة والمأساة، وان نغلق الابواب التي يمكن ان يتسلل منها البعض ليوجّه سهام النقد والانتقاص من الثورة وشخوصها، يجب ان نمارس اساليب أحياء مأساة الحسين بالطرق التي تتوائم مع العصر ومع مستوى الفكر والثقافة التي يعيشها العالم، يجب ان نجعل من الاساليب أداة للكسب، لا أداة للابتعاد عن الاخرين، علينا ان نحمل الاخرين من خلال ممارستنا لأحياء الذكرى لشدهم الى قضية الحسين (ع)، وفتح عناصر البحث عن الحقائق، وكشف الظلم، وأظهار الوجه الناصع للثورة الذي حافظ على روح الاسلام الصحيح، ومبادئ الرسالة السامية، واظهار الجوانب الانسانية الكبيرة في مضامين الثورة، كل هذه الايجابيات نستطيع ان نلفت اليها النظر والانتباه من خلال ممارسة الاساليب السليمة في التعبير عن المأساة، بحيث تتحول هذه الاساليب الى عناصر للجذب والقوة، لا عوامل للنفور والتقزز والهجوم والانتقاص .

 

علي جابر الفتلاوي

  

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2284 السبت 24 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم