صحيفة المثقف

السيد محمد حسين فضل الله وأساليب التعبير عن مأساة الحسين (4) / علي جابر الفتلاوي

أبدت من الصمود والشجاعة والصبر على تحمل البلوى مما قلّ نظيره في مثيلاتها من النساء، كان للمرأة دور يدعو للفخر في احداث الثورة الحسينية، اثناء المعركة وبعدها، وللسيدة زينب دور رائد في ذلك، خاصة بعد الثورة عندما حُمل رأس الحسين الشريف على الرمح الى الشام، ومعه الأسرى من موكب الامام، مثل الامام زين العابدين (ع) الذي كان لحكمة آلهية في حالة مرضية شديدة شلّته عن الحركة، في هذه المرحلة أدت السيدة زينب دورها التأريخي الكبير بوعي وبطولة، وأرتفعت الى مستوى الحدث، وعاشت أرهاصات وتداعيات الثورة بكل تفاصيلها، وتحملت النتائج الكبيرة بعد الثورة، بصبر وجرأة وشجاعة، حتى استحقت عن جدارة لقب (بطلة كربلاء) .

هذه المرأة الواعية الصامدة الصابرة، تحولت الى رمز للبطولة والشجاعة، ومثالاً يقتدى به للنساء الاخريات في تحمل المسؤولية والقيادة، كانت السيدة زينب نعم القائد الذي سار بالركب من كربلاء الى الشام، رغم عظمة المصيبة باستشهاد الامام واهل بيته الكرام، وصحبه الميامين، ورغم الجراح النفسية العميقة التي اصيبت بها هذه المرأة بسبب استشهاد اخيها وجميع اهلها من الرجال تقريبا، تحملت هذه المرأة الصابرة نتائج المعركة القاسية، بما خلّفت المعركة من آلام نفسية كبيرة، وتحملت قساوة ألأسرعندما سيقت أسيرة في جيش أبن زياد الى الشام مع مَن بقي من عائلة الحسين (ع)، فوقفت بجرأة وشجاعة عاليتين بوجه عمرو بن زياد، وأمام أهل الكوفة، ووقفت في الشام بوجه يزيد .

يرى السيد محمد حسين فضل الله (قدس) في كتابه (حديث عاشوراء) أن السيدة زينب هذه المرأة الشجاعة البطلة، لم تسلم من خيال الشعراء والمحدّثين، الذين حوّلوا رموز الثورة الحسينية الى مصادر للبكاء، وصادروا القضية الحسينية ومشروعها التغييري، حيث الشعراء:(عندما ينظمون الشعر في عاشوراء، يتحركون في استغراق باكٍ في المأساة، ويحاولون أن يتخيلوا من خلال ظروفهم البدوية،  وانت تقرأ الشعر القريض أو الشعر الشعبي، أنك تلتقي ببدوية تعرف كيف تبكي، وكيف تسقط أمام المأساة وتواجه عشيرتها لتستثيرهم، كأنّ المسألة قضية ذات تستنفر العشيرة، لا قضية بطلة تستنفر الأمة) .

يستمر السيد فضل الله في بيان رأيه حول تناول الشعراء والادباء وبعض المحدّثين  لقضية زينب (ع)، اذ يقول: (اصبحت زينب (ع) في الذهنية الشعبية، وربما في المستوى الأعلى من الذهنية الشعبية، رمزاً للمأساة أكثر مما هي رمزاً للقضية، لأنّ الذين كتبوا المأساة من خيالاتهم أو الذين صوروا المأساة في أشعارهم ونثرهم، أرادوا لأبطال كربلاء أن يتحولوا ألى شئ يُبكي، لا ألى قوة تتحدى، وحتى عندما يتحدثون عن ألقوة، وعن كلمات ألقوة فأنهم يحدثونك عنها بطريقة بكائية، هل يمكن لك أن تبكي وانت تسمع الحسين (ع) يقول:

(لا والله لا أعطيكم بيدي أعطاء الذليل ولا أقرُّ لكم أقرار العبيد)

هل يمكن لك ان تبكي، أو تستحضر دمعة أية دمعة من الدموع، وأنت تسمع الحسين (ع) يقول: (الا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين أثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة) ...)

طبعا السيد يقول وكذلك نفهم من كلامه، أنّ هذا الرأي الذي يطرحه ليس دعوة لترك البكاء في المصيبة، لأن البكاء حسب ما يؤكد السيد ويؤكد المختصون من أهل العلم  حالة انفعالية طبيعية، وينتج من تفاعل العاطفة مع الحدث والقضية، (وقضية عاشوراء لا يمكن أفراغها من العاطفة، لأن الذي ابقى عاشوراء أربعة عشر قرنا هو الحق والعاطفة، ولكن لابد أن نعّقل العاطفة ايضا، ونجعل فكرنا مع قارئ التعزية) هذا هو رأي السيد فضل الله، وأرى أنّ رأيه هذا صائب، لأنه ليس المهم أنْ نبكي فقط، ونستمع الى الصوت الحزين الذي يثير عواطفنا من دون ان يحرّك عقولنا وفكرنا، قد نسمع من القارئ اشياء تثير العاطفة وتحركها، لكنها خيالية وغير واقعية، فلابد أن نوازن بين العقل والعاطفة، خاصة في عصر الانفتاح الاعلامي الواسع، والاتصال السريع الذي يسلّط الضوء على أي حدث في العالم بسرعة هائلة .

مثلا من الامور التي تبتعد عن الخط المتوازن، قصة تصوير السيدة زينب (ع) وهي البطلة في فكرها وعاطفتها، كما هي بطلة في حركتها ايضا، انها تبكي هنا وهناك، وتنوح في هذا الموقع أو ذاك، بما لا يتلائم وصورة زينب البطلة الواعية التي وقفت بوجه ابن زياد وكلّمته بقسوة وقوة، ووقفت أمام أهل الكوفة وتكلمهم بالقضية الحسينية، ووقفت أمام الطاغية يزيد موقفا بطوليا ولم تخشَ ردة فعله، التي ربما تؤدي بها الى القتل .

فهل يعقل ان تقف زينب، وهي الواعية بدور الحسين الامام (ع)، والواعية بدورها ايضا، هذا الموقف الضعيف الذي يوحي بالخوف وعدم الشجاعة والصمود وهي تعيش أيام الدور التأريخي الذي سيلعبه الامام في ثورته، هل يعقل ان تقول زينب لأخيها كلاما يوحي بالضعف والانهيار (ردّنا الى حرم جدنا) .

رأي السيد فضل الله ان هذا الكلام الذي نشم منه ريح التخاذل لا يمكن ان يصدر من زينب، وهي الواعية لدور اخيها، لأنه لا يدل على القوة والعزيمة والثورة، وهذا الكلام الضعيف المنسوب الى زينب، لا ينسجم مع الموقف والواقع، يسأل السيد فضل الله ويقول:

(أليست زينب واعية للمعركة بأنها مسيرة حق ؟ هل هي خائفة على نفسها ؟)  ألجواب عن السؤالين يجب ان يتناسب وشخصية زينب الواقعية، فهي واعية للمعركة بأنها مسيرة حق، كذلك هي ليست خائفة على نفسها، وظهر هذا  من خلال مواقفها الحقيقية العملية بعد المعركة وقبلها، وهذا الكلام يتقاطع والكلام المنسوب اليها الذي يوحي بالضعف .

كثير من النصوص الشعرية والادبية تعطي صورةً وأنطباعاً عن زينب لا يتناسب وحقيقة زينب،  من خلال كثير من طرائق التعزية التي نسمعها، نتصور شخصية تلك الانسانة الباكية المنهارة الجازعة التي تبكي قياماً وجلوساً، خصوصا خيالات الشعراء في النعي، زينب ليست كذلك انها بطلة كربلاء التي تقف امام جسد الامام الحسين (ع) وتقول: (اللهمّ تقبل منّا هذا القربان)، هذه المرأة الشجاعة البطلة التي تقف هذا الموقف، وتقول هذا الكلام، لا يمكن ان تكون جازعة، يعلق السيد فضل الله على الموقف بقوله: (عندما تسمعون شيئا حاولوا ان تحركوا عقولكم، وان تقارنوا بين ما تسمعون هنا وما تسمعون هناك .. الدموع رائعة لكن لابد أنْ تكون دموعاً واعية، أنّ الروايات التي تسمعونها فيها الصحيح وفيها الخطأ، وذلك نشأ من خلال ضرورة ان نبكي كيفما كان ، ونحن في هذا المجال نريد ان نعي عاطفتنا، فعندما نبكي نبكي بوعي، وعندما نستمع للسيرة نستمع بوعي .. يجب أن نعيش الحزن لكل مظاهر المأساة في كربلاء، وأن نعيش الحزن مع بطلة كربلاء زينب (ع)، ولكن علينا ان نتعلم أن يكون حزنا واعيا مسيطرا عليه بعقولنا لتغيير حاضرنا، ورسم سياسة مستقبلنا بما يتناسب والزمان والمكان) .

نستفيد من كلام السيد فضل الله، أنه يجب علينا ان نعيش ثورة الحسين (ع) باهدافها ومقاصدها، ونعيش مع الامام كصاحب رسالة وهدف نبيل في المحافظة على الاسلام من الانحراف والتزييف، ونبذ الظلم، والوقوف بوجه الظالم، وأذ نحن نحيى ذكرى الثورة الحسينية، علينا قبل البكاء أن نسأل أنفسنا، ماذا طبقنا من أهداف ثورة الحسين (ع)، وما هو بعدنا وقربنا من المبادئ التي ضحى من أجلها الحسين، عندما نريد أن نعيش كربلاء علينا أن نعيشها في خط الحسين ومبادئ ثورته، ونسأل أنفسنا عندما نحيي الذكرى، ماذا طبقنا من هذه المبادئ ؟

وعندما نعيش مع زينب (ع) في مأساتها علينا أن نعيش مأساتها لا من خلال الدموع فقط، بل من خلال مواقفها البطولية الشجاعة يقول السيد فضل الله:  (مشكلتنا أننا أخذنا من زينب دموعها، ولم تكن دموعها كثيرة في عاشوراء، فقد كانت صلبة في موقفها صلابة الحسين (ع) في موقفه، وعرفت مسؤوليتها في أن تحمي الواقع هناك، بعقلها وبقوتها وبصلابتها في مجلس أبن زياد، وفي مواجهة أهل الكوفة عندما خطبت خطبتها أمامهم، واستطاعت ان تصل الى قمة الصلابة عندما وقفت في مجلس يزيد وهي تقول: (فكد كيدك وأجهد جهدك فوالذي شرفنا بالوحي والكتاب .. لا تدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا)، هذه هي زينب النموذج في الصمود والشجاعة والبطولة، هذه هي زينب المرأة العاقلة الواعية المؤمنة الصابرة، التي تحملت مسؤوليتها من خلال أيمانها لتكون أنسانة القضية، وأنسانة التحدي) .

بعد ان ينفي السيد محمد حسين فضل الله كل مظاهر الضعف عن شخصية زينب بطلة كربلاء، يدعو النساء المسلمات للاقتدء بها،(وننقل كلامه بتصرف واختصار)، على المرأة الاسلامية أي التي تسير وفق المنهج الاسلامي في حياتها، أن تنطلق من وعي زينب (ع)، لقضية الحسين (ع)، ولقضيتها هي كأمرأة، على المرأة المسلمة أن تنطلق لتكون قوية واعية في مواجهة كل القضايا لأمتها ودينها ومبادئها، ويخاطب السيد النساء بقوله:(فلا تقل كل واحدة منكن أنّ المرأة ضعيفة، نعم قد يكون لها بعض ضعفها، كما أن للرجل بعض ضعفه، فالله تعالى لم يتحدث في القرآن عن ضعف المرأة، ولكنه تعالى تحدث عن ضعف الانسان) (وخلق الانسان ضعيفا) النساء، 28.

(الضعف حالة تعيش في طبيعة وجودنا، ولكن الله تعالى أعطانا العقل والارادة والوسائل التي نستطيع من خلالها أن نحوّل ضعفنا الى قوة، لذلك فالضعف ليس قدر الرجل او قدر المرأة، بل هو حالة يعيشها الانسان في طبيعة تكوينه، وقد أراد الله تعالى له أنْ يأخذ بأسباب القوة، بأن يقوي قلبه ليكون له القلب القوي، وأن يقوي مبادراته وتحدياته .

أن الله يريد للمرأة أن تتحمل مسؤوليتها في كل قضايا الأمة، تماما كما تتحمل مسؤوليتها في أمومتها، كما يريد للرجل أن يتحمل مسؤوليته في قضايا ألأمة، كما يريد له أن يتحمل مسؤولية ألأبوة، فالأبوة والامومة مسؤوليتان تتصلان بعمق حركة الرجل والمرأة في انطلاقة الحياة، والأم تحتاج أن تجعل لوليدها حياة حرة، ومستقبلا حرا، وساحة قوية، والاب يحتاج الى أن يهيئ لولده مستقبلا حرا، وقوة كبيرة، حتى ينشأ أولادنا في المستقبل أقوياء، في مجتمع قوي، أعزاء في أمة عزيزة، ونعيش روحية الانتاج، ولا نبقى في حياة الأستهلاك).

 

علي جابر الفتلاوي

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2296 الخميس 06 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم