صحيفة المثقف

الفضاء القصصي في مجموعة القص "رقصة التنين" / عامر هشام الصفار

وأنا أذكرها بين حين وآخر في كتاباتي قصصا وشعرا. فقلت أن الأعظمية كانت مكانا لطفولتي الأولى وصباي، حيث ولدت فيها وعشت في بيت بسيط مع عائلة لم تكن صغيرة. وكان لي في شوارع الأعظمية وحاراتها أصدقاء وأصحاب. ثم أني درست في مدارسها الأبتدائية والمتوسطة فكانت سنواتي الأولى مليئة بالجهد الذي قد يزيد أحيانا على ما يتوقع أن يقوم به طفل يافع أو صبي طالع في مسيرة الحياة. وقد تقسو حياة الأعظمية أحيانا على أهلها وقد تغدق خيرا عميما، فهي المكان الذي لا يفتأ معينا للقص الذي لا ينضب.

وهكذا وجدتني أبحث في صفحات مجموعتي القصصية "رقصة التنين" عن دلالات الفضاء المكاني (مجموعة الأمكنة) سياحة بين ما كتبته خلال السنوات الماضية، رائحا وغاديا بين مكانات لها معانيها وصورها التي لا تخفى على القاريء اللبيب.

والمكان عمد من أعمدة القصة القصيرة جدا قد لا يقوى أو يستقيم بناء قصصي دونه. وقد يوظف المكان بتركيز ليدل على جغرافية القصة ومادتها ومضمونها مما يزيد في تقريبها لقارئها ويزيد بالتالي ويقوّي من صلتها بالقاريء. فكأني به القاريء يعيش مكان القصة مع الكاتب ويتماهى معه في حارات المكان وأزقته وأنهاره وجسوره، أذا كان هذا المكان مدينة مثلا.

وأهتمام القاريء بالفضاء القصصي واضحة أسبابه، حيث الشعور بأن القاص غير بعيد عنه جالسا في برج عاجي يتحدث عن خيالات لا تمت للقاريء بصلة بل على العكس فهو أبن مدينة القاريء وأبن حاراتها وأزقتها ودروبها وشوارعها. وعلى هذا الأساس يقاس نجاح القصة في التأثير واحداث التغيير المطلوب بتخفيز قارئها وجعله العين المشاهدة لتفاصيل جمالية أو غير جمالية لواقع المكان الذي قد يكون متغيرا في الحاضر ويستعيده الكاتب كما كان في الماضي، فيثير رغبة القاريء للمزيد من ذكريات ظنّ أنه نساها أو باعدها الزمن فلم يعد يذكرها.

وهكذا جاءت قصة "بائع السمك" مثلا في مجموعة "رقصة التنين" لتذكر مدرس النشيد في مدرسة التطبيقات دار المعلمين في الأعظمية ببغداد وهو المدرس حينها الفنان العراقي فاروق هلال الذي لم تذكره القصة بالأسم ولكنها ذكرت أغنية تراثية عرف هو بغنائها وهي أغنية " يا صياد السمك صد لي بنية". ثم تأتي قصة "أبو سعيد" هذا الرجل الذي ترك مدينته الأم منذ خمسة أعوام ليدخل مستشفى بلدته التي أغترب أليها مصابا بسرطان البروستات، وتظّل أبنته حائرة في ما ينبغي لها أن تقول لأبيها بعد أن سمعت عن تفجير بيتهم الكبير في بغداد. حيث يصبح المكان هنا مكانين في واقع حال الأغتراب. فقد يكون مكان المدينة الحالي حيث الوجود الفيزيائي للجسد معادلا غير موضوعي لوجود الروح في أرض المدينة الأم-المكان الأصل. وهو هذا الأزدواج المكاني دالة الغربة ومعاناتها حيث تتحدث عنه قصة الظلّ، فقد شقّ عصا الطاعة ظل المغترب وأنفصل عنه ليتقافز قرب نهر دجلة حيث المحلة الأولى.

وهكذا تأتي اقصوصة بيتي حيث أستنساخ البيت الأصلي في أرض الغربة، وقصة "موطني..موطني" و"خمسة أيام في لندن" حيث تنظر شخصية القصة الرئيسة لشارع أبو نؤاس البغدادي وهي تستلم سمة الدخول لبريطانيا وتفكر بزيارتها للندن فتظل تسأل "هل ستطول أيامي الخمسة في لندن فتصبح أشهرا وسنينا؟"

وعودة الى مدينة الأعظمية البغدادية تأتي قصة "الساعة" في مجموعة "رقصة التنين" لتوضّح أكثر الصلة مع ساعة الأعظمية وجامعها، جامع أبو حنيفة النعمان. فيقترب السرد من السيرة الذاتية والمكانية ليتم التفصيل بتركيز في تاريخ ساعة مشهورة في بغداد، وكأنها المعادل الدلالي لتاريخ مدينة بكاملها، حيث لم تنس شخصية القصة بأن الساعة " لا زالت دقاتها تذكّر الناس بأن الزمن الآتي لن يكون مثل الذي مضى".

أن الدراسات النقدية المتخصصة والتي تجلي وتوضح للقاريء مركز أهتمام قاص معين بالمكان أو مجموعة الأمكنة (الفضاء) من خلال طروحاته الأدبية، يعتبر عملا مهما في مسيرة الثقافة القصصية وخاصة في زماننا الحاضر هذا. وهي الدراسات التي تستقرأ رحلة السرد العربي عبر تناوله لدلالات المكان، جغرافية وواقعا ولغة وأيقاعا نفسيا وبناءا جماليا تعبيريا.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2299 الأحد 09 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم