صحيفة المثقف

انحراف آلية التفكير في العقل العربي .. تفجير الجسد البشري أنموذجاً (2-2) / عدنان الحلفي

لقد استفاد الحاكمون المسلمون في دعم حكمهم من الخلط الواضح بين ماهو ديني وماهو سياسي في الاسلام، وان كانت تلك نظرية مثيرة للجدل، فما زال العديد ممن يدعون الى الفصل بين الدين والدولة، ليس حفاظاً على الدولة فحسب بل حفاظاً على الدين ذاته من التضرر والتجاوز وافراغه من محتواه، كونه يختص بخلق الانسان وسمو روحه وانعاش ضميره ومنعه عن ممارسة الظلم والجريمة والتجبر كيما يكون سوياً صالحاً ملتزماً بالقانون غير متمرد ولا منفلت يحقق الهدف الالهي في سببية خلق الانسان ككائن معمر في الارض لا العكس (اني جاعل في الارض خليفة) (3). (البقرة 30).

واذا كان الدين احد المدخرات الاساسية للانسان فيجب ان يبقى بمنأى عن المصالح السياسية التي لها من الاليات الكثيرة للتعاطي مع هذا العالم وليس من العدل اقحام الدين في تشابكات تلك  المصالح. ومن المعروف ان الدين الاسلامي أُريد له ان ينتشر داخل المجتمعات البشرية بغض النظر عن انظمتها السياسية وباسلوب حضاري رائع يعتمد على الحوار والتفهم (لا اكراه في الدين)(4) (البقرة 256) و (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (5) (النحل 125) وقد تحقق التعامل مع غير المسلمين في كثير من الدول التي دخلها المسلمون واسقطوا انظمتها بالقوة على وفق قوانين مدنية يحددها القانون الاسلامي آنذاك، كدفع الجزية وعدم الاعتداء على المدنيين وما الى ذلك.

 وفي هذا السياق يذكر الكاتب اليهودي يوري افنيري في ردّه على تصريحات بابا الفاتكان حول استخدام الاسلام للقوة في الانتشار  : ((...فقد نعم يهود اسبانيا تحت حكم المسلمين بازدهار لم يتمتع به اليهود في اي مكان من العالم حتى وقتنا هذا تقريباً، فقد نظم شعراء مثل يهودا هاليفي (الشاعر الاندلسي المعروف باسم ابو حسن اللاوي) باللغة العربية، كما كان يفعل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون العظيم. وفي اسبانيا الاسلامية شغل اليهود مناصب وزراء وكانوا شعراء وعلماء معروفين وفي طليطلة الاسلامية كان العلماء المسلمون واليهود والمسيحيون يعملون معاً وقاموا بترجمة النصوص اليونانية الفلسفية والعلمية القديمة، كان ذلك حقاً عصراً ذهبياً، فهل من الممكن ان يكون النبي قد امر بنشر الدين بالسيف ؟؟)) (6). ((Forum & Link October - 5 -06).

هذه الشهادة من خارج اوساط المسلمين تكشف الانـحراف الحالي في التوجه المتطرف للاسلام السياسي الذي يعادي اتباع الديانات الاخرى في البلدان الاسلامية والعربية وكذلك سكان اوربا والغرب المسيحي بشكل عام.  باعتقادي ان الاسلام لايركز على بناء الدولة والنظام السياسي الى حد ما بالقدر الذي يركز به على بناء الانسان والتعامل مع حالته النفسية والروحية والاخلاقية والسلوكية واعطاءه كم هائل من القصص والتجارب التي سبقته للاستفادة منها في تدريبه على الالتزام بالقانون. لانه اذا تمكن من بناء الانسان فان الاخير قادر على بناء الدولة والنظام السياسي بالشكل الذي يراه مناسباً لطبيعة كل شعب، ولا مانع من الاستفادة من التشريع الاسلامي او التشريعات الاخرى التي استفادت منها شعوب اخرى وثبت نجاحها.

 وكذلك من الممكن تعطيل كثير من التشريعات الاسلامية التي لا تتناسب مع روح العصر، فلا يمكن في الوقت الحاضر قطع يد السارق او استخدام الجلد والرجم في العقوبات لانه منافي للوائح حقوق الانسان التي توصي بالغاء عقوبة الاعدام او في اسوء الحالات استخدام طرائق حديثة لا تُشعِر المحكوم عليه بالاعدام باي ألم .  فقد عطل الخليفة عمر الكثير من النصوص، كتوزيع الصدقات من بيت المال على المؤلفة قلوبهم، او تعطيل زواج المتعة، ولم يتعامل مع النصوص تعاملاً مقدساً لانه كان يرى حل مشاكل المجتمع وتقوية الدولة في مرحلة حكمه على اقل تقدير في  تجاوز النص وكسر الجمود والصنمية به، وصولاً الى المساحة التي يتحرك بها العقل وادواته في استحداث التشريع وهو ما توصل اليه الشيعة الامامية فيما بعد في اكتشاف منطقة الفراغ التي تخول المرجع الاعلى وتمنـحه القدرة على الإفتاء والتشريع المرن. يبدو ان المجتمع العربي والاسلامي الى الآن لم يتمكن من قراءة المغزى السياسي للنظرية الاسلامية.

 فالاسلام كدين يحتوي على جوانب روحية واخلاقية تحاول صناعة انسان صادق لا يكذب وامين لا يمارس الفساد الاداري ولا الرشوة ولا السرقة اثناء عمله في الدولة، وملتزم يحترم سيادة القانون ولايتورط بالجريمة والقتل بحيث تنفذ بحقه قوانين القصاص وتعطل حياته وبالتالي تفقده الدولة ويفقده المجتمع. من هنا تتوضح فكرة الدولة والنظام السياسي سواء كانت تلك الدولة علمانية بحته  تشرع قوانينها على اساس التشريعات الوضعية، أو دولة دينية تعالج قضاياها على اساس التشريع الديني، وفي كلا الحالتين تحتاج الدولة الى الانسان الصالح والا لا يمكن انشاء مجتمع اونظام سياسي يوفر الطقس الايجابي للانسان كي يمارس دور الاصلاح في الارض وتنفيذ الارادة الالهية في الخلق. ويرى المشرعون على سبيل المثال في الولايات المتحدة الامريكية ان هناك خمس مؤسسات يجب حمايتها لانتاج انسان قادر على البناء وهي: الدين الحكومة الأسرة الاقتصاد والدستور وعلى الرغم من أن أميركا هي دولة علمانية ولكنها تعتقد بان حماية المؤسسة الدينية في مجتمعها تعد احد الركائز الاساسية لبناء الدولة والمجتمع، وهي بذلك توفر دعماً خاصاً للمؤسسات الدينية من اموال دافعي الضرائب الامريكان بحيث لو دفع المواطن الضريبة السنوية أو تبرع بمبلغ إلى الجامع أو الكنيسة أو أي مكان عبادة اخر او مؤسسة خيرية غير نفعية فانها تخصم من المبلغ السنوي الذي يجب ان يدفعه الى الدولة كضريبة سنوية. ولدى الدول الاسلامية مايقابل ذلك في قضية الخمس والزكاة ولكن ليس بهذا التنظيم وهذه الدقة في الولايات المتحدة، وهي تجربة بشرية ناجحة مبنية على تجارب الشعوب والحضارات الاخرى التي قدمها القران القديم الى المجتمع المسلم.

 اما سيادة القانون والدستور فهي من محميات المؤسسة الحاكمة وهي التي توفر ضمانة مستمرة لحماية الأسرة والاقتصاد وتجعل الحكومة تحت المراقبة الدائمة من الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني. اذن فالخلط بين الدين كقيم عليا والاسلام السياسي وفر آلية تفكير خاطئة وتحول الدين الى حزب او قبيلة وجب الدفاع عنها لانها بخطر بحسب ما يصرح به أصحاب الأجندات السياسية الدينية الذين يُعدون من ابرز المسؤولين عن هذا المستوى من الانـحراف الديني والتطرف والتشويه للإسلام في العالم، في الوقت نفسه تركت الأسرة المسلمة الفقيرة واقتصاد المجتمع المنهار ومستواه الثقافي المتواضع، كل ذلك ترك جانباً ورفعت راية الجهاد !! الجهاد ضد الكفرة من مسلمين ومسيحيين ويهود وجميع انواع البشر في حين تُرك العدو الحقيقي ينمو ويتمدد بشراهة في المجتمعات الاسلامية الذي تسبب في كل تلك الازمات والاحتلالات والدكتاتوريات وهو التخلف والجهل والفقر.

 وتلك كانت الالية المنـحرفة الثالثة للعقل المسلم.

 

رابعاً : نمو الدكتاتوريات باسم الاسلام.

ان الفهم الخاطىء للنص القائل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(7) النساء 59، هو وراء نمو أعتى الدكتاتوريات الوراثية في الشرق الاوسط، ابتداءاً من الدولة الاموية الى الدكتاتوريات المعاصرة في العالم العربي.  وجميع تلك الانظمة اشتركت في استخدام الدين لتثبيت انظمتها المتسلطة، وهناك في الموروث الديني احاديث منسوبة الى النبي(ص) وضعتها انظمة سياسية ذات مصالح في السيطرة والحكم  لتزيد من خنوع المجتمع للسلطان وعدم التدخل بشؤون الحكم.

إن الملوك والسلاطين والرؤساء والزعماء المسلمين ميزوا انفسهم عن المجتمع، وكانوا ينظرون بدونية اليه، بل وثقفوا المجتمع على الخنوع والتذلل والدونية ايضاً، واستخدموا أدوات التجهيل والإذلال والتجويع والترويع والتهم الجاهزة بنظرية التامر مع الامة المحكومة.

 وبمرور الاف السنين وتعاقب اجيال عديدة على هذا الحال تحول المواطن العربي الى خانع ذليل جائع متصالح مع الفقر والالم والمرض ينتظر الفرج من الله سبحانه أن يعوضه عن ذلك بعد مماته !!  لذلك فالمواطن العربي والمسلم عموماً هو اقرب الى تجنيده في لعبة  تفجير الجسد بواسطة الاستعداد الديني للموت، لانه اقرب اليه من الحياة التعيسة المليئة بالفقر والحرمان!!.

 في حين ينعم السلطان وحاشيته بكل ما انزال الله من نعم. ويأمر شيوخ الدين ورواة الحديث ان يكثروا من احاديث الترويع والتهديد لمن يخالف ارادة الله التي هي من ارادة السلطان، وكذلك الأحاديث التي تبشر الجائعين والصابرين الذين لا يزعجون الزعيم... لقد ناضل السيد جمال الدين الافغاني اواخر القرن التاسع عشر ضد الدكتاتوريات في العالم الاسلامي، وكان يرى صعوبة اي تقدم للامة بدون التخلص من الاستبداد، بما في ذلك الاستعمار القديم، لكنه كان يرى الاستعمار والتخلف نتيجة طبيعية للدكتاتوريات في العالم الاسلامي.

لقد حاول السيد جمال الدين الافغاني ان يضع عربة الحكم في السكة الصحيح، وكان من ثمارها تفجير قضية الدستورية في ايران كتوجه سياسي وطفرة نوعية في نظام الحكم في الشرق الاوسط. وعلى الرغم من ان السيد جمال الدين الافغاني توفي قبل الدستورية (1889) في اسطنبول(8)، (الحركات الاسلامية في القرن الرابع عشر الهجري/ مرتضى مطهري)  الا ان افكاره وكتاباته ودعواته التي تركها اعتملت ووجدها الرعيل الاول من النخب الدينية والسياسية بانها المخلص من الازمات التي كانت تعصف بالشرق آنذاك، فشكلوا جماعات ضغط على شاه ايران وسلطان الاستانة وخديوي مصرعام 1905 لالزام الحاكم بمجلس امة منتخب ! وعلى الرغم من ان الفكرة موجودة في القران الكريم (وامرهم شورى بينهم)(9) الا ان الدعوات الدستورية آنذاك أو ما تسمى بالمشروطة شكلت واقعاً مرعباً وتسببت بازمات سياسية واجتماعية ودينية وسارع السلطان عبد الحميد في عقد لجنة من علماء الدين المسلمين في العراق من السنة والشيعة للتبشير بما يسمى بصحيفة عبد الحميد بينهم الشيخ كاظم اليزدي والشيخ ابو الثناء الالوسي للتبليغ بان السلطان هو شيء مفروض من الله ضمن قضية الخلافة واولي الامر منكم(10) (تأسيس المجتمع المدني في العراق/ بيروت1997/ للكاتب)ٍ وهو امتداد طبيعي منذ انشقاق معاوية عن خليفة المسلمين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وتفرد معاوية بتأسيس نظام حكم استبدادي عائلي بقوة الجهل والدين والاحاديث الموضوعة واطاعة اولي الامر، وتلك كانت جذور الانـحراف الى يومنا هذا.

 

ثقافة الاستبداد

على الوفق من ذلك تأسست إمبراطوريات ضخمة كان احد اهم ادواتها الدين الاسلامي، وهكذا كانت الامبراطورية الاموية الاولى والثانية والامبراطورية العباسية والامبراطورية العثمانية انتهاءً بدكتاتوريات مصر وايران والعراق.

 تسبب ذلك بشيوع الاستبداد والتفرد بالرأي كثقافة وعرف منـحرف من اعراف المجتمع العربي والمسلم، انتهاءً باستبداد الرجل في منزله وتسلطه على زوجته واولاده.

اكثر من 1400سنة مرت حين جاء النبي محمد (ص) بالشورى كنظام بديل للاستبداد وحماية للمجتمع من الظلم والدكتاتورية، لكنها ضاعت هباءً!!.

 ويحاول المجتمع العربي والمسلم اليوم ان يتعلم ويستلهم قيم الديمقراطية لكنه لا يستطيع، لان الامور قد اختلطت عليه ولن يتمكن لا من الاستفادة من التجارب البشرية للمجتمعات الغربية ولا من الخطاب القراني الصريح بمنع العنف والاستبداد والتطرف.

 تسبب ذلك الخلط بنمو آلية عقلية منـحرفة خطرة لا تتمكن من استلهام التجارب ولا العيش بسلام ورخاء وانقاذ الامة. وقد ذهبت هذه العقلية المنـحرفة وليدة الظلم والاستبداد الى تشخيص اسباب الازمة بعيداً عن الواقع، واخذت تبحث عن عدو مفترض تعلن الجهاد عليه وهو الغرب والامم المتقدمة غير المسلمة بدلاً من البحث في داخل المجتمع العربي والمسلم لتكتشف الاستبداد والدكتاتوريات والتخلف وعدم الفهم الديني والانهيار الاقتصادي واسبابه والامية وغياب الادارة والتنظيم في المدن والحياة العامة والتوسع السكاني والتصحر والجفاف والفساد الاداري والرشوة وسرقة المال العام والفوضى الامنية وغياب القانون والمحسوبية والمنسوبية والقائمة تطول... هل يمكن تجاوز كل ذلك واكتشاف العدو في تفجير برجي التجارة العالميين في منهاتن ؟


بحث قادم

تسلل السلف المنتهي الصلاحية من خلال ثورات الجياع

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2299 الأحد 09 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم