صحيفة المثقف

لا يزال الله يبعث بالأنبياء .. قراءة في (ما قاله الماء للقصب) للشاعرة السعودية بلقيس الملحم

إنها مهداة إليك من شاعرة سعودية تعشق العراق، لما أمكنني ـ وحدي ـ التوصل إلى جنسية غير عراقية لصاحبة هذه المجموعة الشعرية. وأحسب أن إشارتي هذه ليست بعيدة عن توضيح المقاصد الخفيّة الكامنة وراء الدخول في عوالم المجموعة، بل ستكون في صميمها بالحتم، فهي ـ في تصوري ـ واحدة من العتبات المهمة للوصول إلى عوالم النصوص المقصودة بهذه القراءة، التي لم أختر منها ـ بالضرورة ـ ما يتوافق مع هوية الشاعرة، مادامت القراءات الأدبية، ولا أقول النقدية، الحديثة غير معنيّة بهويات الشعراء وأحوالهم الإجتماعية وبيئاتهم وغير هذه الأمور الخارجة عن النص نفسه.

وابتداءً من ثريا المجموعة، أعني عنوانها، تحمل دلالات العنوان مداليل متعددة القراءة، من بينها أو أقربها إلى ذهن المتلقي الإشارة إلى وجود مقول أفضى به الماء ـ ولنقل الحياة ـ لموجود من موجوداتها ـ القصب ـ إن لم إنه يمكن أن يكون مدلولا آخر يفيد البوح بمكنون قلب نابض بالحياة وما تكتنفها من هموم، إلى كائنات قريبة الارتباط بالماء، بل الأقرب إليها هي (القصب) الذي ينتشر في وعلى جنبات مجاري المياه في الحقول والأهوار.

ولعل سكـّان أهوار جنوب العراق أكثرنا علاقة بهذا النبات الذي فرض نفسه على الحياة وصار جزءاً منها، حتى تحول إلى موجودات مصنعة منها أماكن السكنى والضيافة (الدواوين) والمدارس، وغيرها من الموجودات، فضلا على تحوله إلى "معان" أو رموز لسنا في وارد الدخول في تفصيلاتها.

والذي يشير علينا ويدعونا إلى تلمس هذا المدلول في هذه المجموعة الشعرية الجميلة حقا، والغنيّة بروح الشعر حقا، ما وجدناه في النص الأول فيها (طواحين)، وقد افتتحته الشاعرة بلقيس بعتبة تشي به ـ أي المدلول المعني ـ في قولها :

"مبكرا/ ثنيتُ دفاتر يُتمي/ دسستها تحت كتفي/ ومشيتُ بعكـّاز/ أسميته اُمي" (ص5)، قبل أن تأخذنا في رحلة مرافقة هذه الأم المهمومة بحياة أطفالها قبل حياتها، عبر "حنين يُشبه الصدى" في زمن طفولتها، مع استشعرته الشاعرة:

"أجرُّني بحنين يُشبه الصدى/ حين مال على وسط الطريق/ فمالت عن الأطفال المرحين/ لتمرح بدمعتها" (صص 5و6)، ولتنثال "رائحة الأمسم تمشي ناصعة بين أوراق الصدى/ كل شيء نائم في ضفافها/ إلا أبي" (ص6) الأب الذي انساب من دفء الرمال "متوشحاً عشب الكلام/ في نشيد يترمّل غربة السياط".

وكم يبدو خفيّاً ذلك التناص بين ذكريات الشاعرة عن أبيها الراحل، مع ما أطلقه الشاعر المدهش الشريف الرضي في بيته الشهير: "وتلفتت عيني فمذ خفيتْ / عني الطلول تلفت القلبُ"، إذ سرعان ما تتلفت الشاعرة نحو بقايا ما خلفه ذلك الأب، ليظهر ما كان ماضيا في الذي يكون حاضرا: "مشوّه هذا المساء بلا أبي/ مشوّه/ حين تنتظر سماوات بطوننا السبع (الأصح أن تقول: السبعة) / نصف كيلو من الفول الأبيض / ستشتريه متبرئاً من الزيت والنكهة/ هي مَن ستضيف إليه / الطماطم والبصل والضحكات../ للأيتام الذين يهزون جوعهم في مهد الأمومة" (ص7).

وفي تفصيل آخر تمتزج فيه البساطة التي تبدو خالية من الشعرية بومضات الشعر المتخللة بين أسطر / أشطر النص، أو ما يدعوه النقاد "الانزياحات" المولدة للشعر، تقول الشاعرة : "أمي.. أمي/ كانت تقطر ماءً وعطرا/ بثوب الصلاة اختصرت/ باقة من دموع" (ص9) أو تقول في ختامها للنص : "ظننتُ أنها ستكون أجمل في الأيام المقبلة / حين تطلّ علينا بغير السواد / ومثلما غزا الأبيض ضفائرها الطويلة/ غزا دموعي/ لأكثر من ثلاثين عاما / وكل دمعة كان لها مغزى" (ص10)، فيعكس اللون الأبيض مدلولا نقيضاً يحتمل مداليل جمّة، منها غياب الحزن ومعه البراءة وفرح الطفولة وقد تخلف عنها حزن آخر لا يُلبس له السواد!

ولأن مجموعة (ما قاله الماء للقصب) تشي بأسرار تنتهك الشاعرة سرّيتها بعفوية بالغة، كما في نص (الحيلة) الرائع : "الحيلة.. ما الحيلة؟/ جدْ لي سبيلاً إليك / هل أقضم شفتيكَ من على غلاف الكتاب؟/ أو أرفع نهديّ بحمّالتين من قصائدك؟ / أم أرقص لتسّاقط الحروف؟ وتبقى أنتَ ثابت العينين/ ترمق خصري يتلوى مع علامات استفهامك؟" (ص11)، أو كما في نص (ستائر) الذي تكشف عتبته عن سر آخر : "دعنا نتبادل اللعنتين/ أمسحُ فمك/ وتمسح فمي/ لتحصي الملائكة صراخنا"(ص15)، فسأحاول التوقف على ما يكشف عن روح الانتماء العراقية في هذه المجموعة الشعرية، مثلما قررت في البدء وقد توهمت الشاعرة عراقية الجنسية، فإذا بها عراقية الروح قبل الهوية.

في نص (خاص جدا) الذي أهدته الشاعرة بلقيس الملحم إلى الشاعرة العزيزة المغتربة (وفاء عبد الرزاق) التي دعتها "أمي الغالية" في عتبة النص النثرية (التقديم)، تقول الشاعرة: " يا موسم الورد ـ أقول ـ/ يا عباءة التراب/ وحنـّاء القـٌبَل/ لا شيء يُحررني من هجمة أطرافك/ كيف؟ والدم الطازج الذي كلما انساب عراقا/ أجلسَني في مقعدي البعيد/ وأنا أقرفص مواويلي/ أزج بها فراغ الصوت/ فتشطفني ينابيع النوافذ"(صص 38 و39)، وفي ختام نصها هذا تقول بلقيس : "مرة أخرى يصفقون لشجاعتنا/ دون أن أتذكر اسمك/ أو أتذكرني/ "همسة الريح/ لثغة القصيدة/ وأمي العراق"/ هذا كل ما أعرفه عنكِ/......"(ص40).

ثم تروح تترى مداليل عشق العراق الظاهرة، ومنها ما جاء في عتبة نص (حدث في لحظة) حيث تقول الشاعرة بلقيس الملحم :" منذ العراق/ والجنوب/ والأهوار/ والقصب/ جـِنٌ يسكنونني"(ص47)، وكذلك في نص  (ربما تزورني أوروك) الذي تختتمه بالقول : "إنكسرتُ.. يا أبي/ إنكسرت../ سنة قادمة أخرى بلا أمي/ وأنا/ أتلو تمائم سومر على جسدي/ فلربما تزورني أوروك"(ص54)، وأيضا في نص (ابنة أبي أنا) الذي جعلت إهداءه قبل الدخول فيه يقول: (إلى والدي يحيى السماوي أيضا) بعد نص سابق عليه، إذ تقول في عتبته :"لا يزال الله يبعث بالأنبياء/ دون أن يُعلن عنهم/ أبي كان واحدا منهم"(ص69)، وهي لازمة سيكون لتكرارها في متن النص ثم في خاتمته شأن، فهي لا تقدّم في هذا النص مدلولا مغايرا لنسق التكرار الذي قدمته قصائد الشعر العربي القديمة والحديثة، وسور القرآن الكريم وغيرها من النصوص القديمة والحديثة، بل تؤكد هذا المدلول بصيغة انتقالات داخلية من حالة إلى أخرى، فهي تكون مرة منطلقا  لحالة روحية تقترب من الصوفية :"أعبر حاشية الدفوف المستريحة من غنائها الصوفي/ أتحاشى السقوط في خلاخلها..."(ص70)، وهي تكون في مرة أخرى منطلقاً إلى حالة وجد أو عشق من نوع آخر :"وأنا من فرط فرحتي/ أقطع صُرّة التأويل/ لأنبت مرة أخرى/ كما أنبأني في المرة الأخيرة/ بقلة على جرف دجلة"(ص72).

وأرى الضرورة تدعوني للتوقف ـ أخيرا ـ على نص عراقي الهوى تماما، قريب من نفسي، هو (تفاحة باب الشيخ) الذي يلامس شيئاً من طفولتي في هذه المنطقة الشعبية التراثية ـ الدينية من مناطق بغداد الشهيرة، والذي تفتتحه الشاعرة بلقيس الملحم بالقول : :أشتهي/ أن أتسمّر أمام باب الشيخ/ أتصيّد لأنفي روائح تلك الحارة/ أقرأ لها/ .."(ص86)، إذ تنهمر مع القراءة صور (عائشة) الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، التي طالما اتخذها رمزا وسرّا من أسراره، وجعل اللون الأبيض ـ وكذا فعلت الشاعرة ـ رمزا طقسيا من طقوس المتصوفة،  قبل أن تنهي الشاعرة رحلة مع اللون الأبيض حين تسألها (عائشة) في ختام النص :"أتشتهين عراقا/ من تفاحة بيضاء/ في حارة باب الشيخ؟/ نعم/ بيضاء ومع ذلك ملونة!"(ص89).

إن مجموعة (ما قاله الماء للقصب) التي ضمت ستة وأربعين نصا متفاوتة الطول، ومتفاوتة المداليل كذلك، وحملت من عشق الشاعرة السعودية بلقيس الملحم لبلدها الشقيق العراق الكثير، تمنح هذه الشاعرة الطالعة من رمال أرض العرب مفاتيح انطلاقة شعرية في فضاءات الشعر الأرحب وحدائقه المزهرة، وهي بصدقها وعفويتها وما تختزنه من روح الشعر قادرة على أن تطلق المزيد من فراشات القلب في هذه الحدائق، التي من شأنها أن تزيح الرمال (الموت) وتدفع بـالحياة (الماء) للاستماع إلى أسرارها وما ليس بأسرارها من نصوص مادامت تريد هذا وترغب به ويمكنها أن تجد منها من يتلقاها بمحبة واعتزاز.

 

د.عبد المطلب محمود ـ العراق

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2304 الجمعة 14 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم