صحيفة المثقف

ماهية الأديب

 أن هذا المكتوب يتمتع بعمق يفوق باق الآثار الفنية الأخرى لكونه يعبر عن علاقات وتفاعلات وتفاصيل ودقائق من الصعب أن يغطيها الفنان من خلال اشتغاله في ميدان آخر مثل الفن التشكيلي أو غيره، ولهذا سأركز على محاولة إبراز وتحديد ماهية الأديب من خلال علاقته بإنتاجه من جهة وعلاقاته بغيره من جهة أخرى بدل فنان. ثم إن الأثر الأدبي، بالنظر إلى تاريخه ما قبل التدوين، يعني استحقاقه التخصيص من باب كونه الأقدم إن لم يكن الأصل.

أكيد لن أبحث عن ماهية الأديب في لسان العرب لأن ذلك ممل جدا كما أني أفترض بأن القارئ يعرفه ولا داع للاستغراق فيه. أود التركيز على الأديب من خلال محاولة تسليط الضوء على دوره في الكل السوسيولوجي ومحاولة التوصل، في النهاية، إلى طبيعته ومقتضيات الفرق الوظيفي بين هذا الدور وغيره مع الإشارة إلى موقعه في سلم الشخصيات النموذجية الأخرى المصممة للحضارة البشرية .

****

قبل الخوض في تحديد ماهية الأديب لا بد من الإشارة إلى موضوعه من حيث  هو  مشترك  بينه وبين الشخصيات النموذجية  الأخرى التي تشاركه في الاشتغال عليه. الأمر  يتعلق بما يسمى التجربة البشرية، وهذه الأخيرة  تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية من الناحية المنهجية؛ قسم فلسفي، قسم علمي وآخر أدبي وهو الذي يدور حوله الموضوع بالتحديد.

إذا كان اختصاص العالم-على سبيل المثال- يتمثل في ترجمة الشق المحسوس من هذه التجربة البشرية إلى  ملكة الحس(العلم) فإن الفيلسوف هو الذي يترجم الشطر المعقول من هذه التجربة إلى العقل. أما اختصاص الأديب فهو يتمثل في ترجمة الشطر الخيالي منها إلى ملكة الوجدان. إذن فإن استهداف ملكة الحس(علم) بنص من النصوص يقتضي من العالم أن يتوسل اختبار الملموس قصد التأكد من نسبته  إلى المتواتر المحسوس دون أن يعني ذلك الحرص على جعله معقولا. هذا في حين أن استهداف ملكة العقل يقتضي من الفيلسوف أن يلتزم بالاستقراء  والاستدلال والاستنتاج الفلسفي حتى وإن تنافى ذلك مع ملكة الحس . أما التوجه إلى ملكة الوجدان فهو يتطلب من الأديب أن يتوسل بملكة الخيال دون اعتبار الأبعاد  العقلية أو الحسية لذلك وإلا فسد المضمون والشكل معا نتيجة التناغم مع هذه المعقلة Rationalization وتلك المحسسة على حساب الاختلاف الذي يقتضيه النص الأدبي في عمق علاقاته بغيره، والذي يشكل ميزته المبررة لوجوده.

لماذا لا يجب على العالم  أن يراع ضوابط العقل في توسله بالاختبار المحسوس أحيانا ؟ ولماذا يتوجب عليه  التركيز على استهداف ملكة الحس حتى وإن تعارض ذلك مع العقل؟

قد يقول البعض بأن هذا الكلام غير دقيق وأن العلم كله معقول. و قد يكون هذا الحكم صحيحا في جزءه لكنه باطل فيما يتعلق بالنظر إلى اقتضاء الاحتكام للضابط العقلي في إجراء الاختبار العلمي قصد االتأكد من نسبته إلى المحسوس. والمثل على بطلان ذلك أن العلم يقبل ويتعامل ويستفيد من التيار الكهرطيسي دون أن يحايث ذلك اقتضاء ترجمة طبيعته إلى العقل بغية استغوار الكيفية التي يعمل هذا التيار وفقها، أي أن الاستفادة هنا ليست متوقفة على الاستيعاب العقلي للظاهرة. وكذلك الكثير من الأدوية-على سبيل المثال وليس الحصر- أثبتت التجربة العلمية فعاليتها الإيجابية وقدرتها على الشفاء دون أن يتم تحديد مفصل لكيفية تعاطيها مع الجسم الأدمي وهو الشيء الذي يعني معقلتها، أي ترجمتها إلى العقل. حتى وإن افترضنا الآن بأن العلم قد تقدم بما يكفي للسماح باستغوار طبيعة سريان مثل هذه الأدوية في جسم الإنسان وكيفية تفاعلها معه فلا ننسى أن البشرية كانت تمرض ويتم شفائها عن طريق الطب المعروف حتى قبل ظهور التكنولوجيا. أما الاستدلال الفلسفي فلا يختلف الاثنان في كون الملكة التي يستهدفها هي ملكة العقل ولا شيء سواها. صحيح أن هناك أشياء قد تتقاطع مع العلم وتتعارض  دون أن يعني ذلك انتفاء معقوليتها. صحيح أيضا بأن الفلسفة يجوز أن تكون محسوسة وأن العلم طبعا يجوز له أن يكون معقولا، إنما أعني أنه لا ينبغي أن يكو ذلك شرطا من شروط استصواب هذه الفلسفة أو ذاك العلم.

إن النظرية الفلسفية إذن لا بد أن تكون موجهة إلى العقل حتى وإن تنافت مع الاختبار الحسي. نحن نعرف أن العلمي الذي لم يتم هضمه عقليا هو معقول بالقوة حتى وإن بدا العكس بالفعل. وكذلك ما لم يبدو قابلا للهضم العلمي(التجربي) من الفلسفة هو عملي/علمي بالقوة لكون المعلوم قابلا للهضم العقلي، إلا أن البحث يكمن في المستوى الفعلي للظاهرة وليس مستوى القوة، أي أن نفي اشتراط المعقلة  في المعلوم الذي أثبتته التجربة مقتصر على المستوى الفعلي فقط مع العلم بقابليته للهضم العقلي ما دام مجربا لكوننا نعلم أنه خاضع للقواعد والضوابط العقلية، وكذلك نفي اشتراط العلمنة Scientification في النص الفلسفي يقوم على أساس الإدراك بأن الفلسفة معقولة والعقل هو معيار المقبولات لدى الإنسان. عندما نأتي إلى الأدب يمكننا القول بأن نفي اشتراط معقلة النص الأدبي،  في مرحلة ما قبل النقد، لا يعني قبول الفوضى شريطة أن تكون مكتوبة، بل إن ذلك يقوم على الفهم العميق لمعقولية النص الأدبي من خلال اعتباره قابلا للمعقلة عن طريق الآلة النقدية. 

من خلال هذه التصنيفات نستطيع، برأيي، أن نفهم طبيعة  الرسالة الأدبية والاختلاف الأساسي القائم بينها وبين رسالتي؛ العلم والفلسفة مثلا. ثم إن هذه الرسالة (الأدبية) تفرض عليها  طبيعة هدفها  الرئيسي أن تضحي، في كثير من الأحيان، بقيمتها العلمية والفلسفية إن لم نقل يجب أن تحرص على عدم تضمن شيء من ذلك بالمرة حتى تحافظ على تميزها الذي يضمن لها القدرة على البقاء والاستمرار. المهم أن الأديب الذي يحرص على علمنة نصه أو فلسفته Philosophicalization(جعله فلسفيا) هو أديب مشغول عليه أن يتحرر أولا من شغله الجانبي قبل أن يكتب نصا أدبيا.

إن الأديب المعياري في الحقيقة هو الذي يترأس هرم الحضارة البشرية وهو المهندس الأول في بناء العمران الثقافي للأمة. كيف؟ الجواب كالتالي:

إذا تأملنا التقسيمات أعلاه نجدها تعني أن العالم يمثل ملكة الحس على مستوى الجسم السوسيولوجي، وأن الفيلسوف يمثل ملكة العقل في الجسم ذاته، وأن الأديب يمثل ملكة الخيال. من هنا يبقى علينا أن ننظر جدليا ما هي الملكة التي لها الأولوية في بناء الحضارة وأنها تشكل الأساس في هذه الحضارة. إذا كان الأشخاص الثلاثة النموذجيون(العالم، الفيلسوف، والأديب) يعبرون سوسيولوجيا عن الملكات الثلاث المذكورة أعلاه فلا ننسى أن هذه الملكات موجودة كلها على المستوى الفردي أيضا. أي أن الإنسان ينطوي على هذه الملكات الثلاث بالإضافة إلى الملكات الأخرى التي لا تعني الموضوع هنا مثل الإرادة وغيرها. حتى نفهم الطبيعة الجدلية التي بمقتضاها يترتب الأشخاص الثلاثة على المستوى السوسيولوجي لنتأمل ذلك على المستوى الفردي. أي مادام الإنسان يحتوي على الملكات الثلاث فلننظر ما هي الملكة الأقوى المهينة التي يقوم الفرد بالتفاعل مع نفسه والمحيط الخارجي انطلاقا منها أولا وبالتالي قدرته، من خلالها، على بناء الملكات الأخرى.

لنواصل النظر إلى ملكة الحس ككل إذن آخذين بعين الاعتبار أن اختلافها التفصيلي، الذي يتجلى في اختلاف البصر عن السمع مثلا، لا يتعارض مع هذا الاستدلال لأنه يأتي ضمن الدرجة الثانية الفرعية التي يقابل فيها اختلاف الحواس، فيما بينها، اختلاف الاختصاصات العلمية( مثل الطب والهندسة الخ).

إن ملكة الخيال على المستوى الفردي (المفترض مقارنته مع المستوى الجماعي) هي الملكة الأولى التي تلعب دور الهيولى Plasma سواء عموديا، أثناء الطفولة، أو أفقيا، كونها غالبة لدى الأديب دون شخص آخر. فمن الناحية العمودية هذه نجد أن أول ملكة، من الملكات السيكولوجية، تتبلور لدى الطفل وتعطيه الفرصة الأولى الأصلية للتفاعل مع ذاته والمحيط الخارجي هي ملكة الخيال (لا أقول الغريزة حتى لا ينصرف البحث إلى تحليل سيكولوجي). لا أحد يمكنه القول بأن الطفل يولد عاقلا أو ناضجا بما يكفي للاستجابة الراشدة(العلم) لحواسه. إذا أجرينا مقارنة أخرى بين البنية الحضارية، في مستواها العمودي، والبنية الفردية في مستواها الطفولي نجد أن الأديب-كما قلت سالفا- هو الفاعل الأول باعتباره المعبر عن ملكة الخيال على الصعيد الاجتماعي.  ومن هنا ننظر إلى الأسطورة كما ينبغي ونفهم كم كانت ضرورية في بناء الحضارة(الثقافة) البشرية علما بأن مرحلة الأسطرة لا بد منها كما أن الصفر لا بد منه بالنسبة إلى الرياضيات، وأن عدمها (الأسطورة) يعني عدم الفلسفة والعلم الخ. بمعنى أوضح؛ إذا كان الخيال لا بد منه لدى الطفل حتى يكسب عقله فيما بعد فكذلك الأسطورة لا بد منها لدى الحضارة البشرية حتى تكون هناك فلسفة فيما بعد، ومن المعلوم أن الفلسفة أم العلوم. أي كما يشكل الخيال لدى الفرد(الطفل) الهيولى التي يستخلص منها العقل فيما بعد كذلك تشكل الأسطورة الهيولى التي يستخلص منها الخطاب الفلسفي عن طريق تحول المخيول  إلى المعقول.

إذا كان الخيال، لدى الطفل، يفرض نفسه خارجا عن إرادة هذا الأخير فإن الأسطورة أيضا كانت تحكي نفسها بنسفها على حد تعبير "شيلنج". وانطلاقا من هذه النقطة نجد أنه ما دامت ملكة الخيال هي الأساس لدى الفرد ومرحلة لا بد منها لبلوغ مرحلة التعقل وغيره فهي كذلك على المستوى الجماعي، أي أن الأديب، الذي يعبر عن ملكة الخيال في المعمار الاجتماعي، هو المهندس الأول للمبنى الحضاري وهو الذي يصنع الفيلسوف والعالم معا وغير ذلك. كلنا يعلم أن التلميذ مثلا أول ما يبدأ به مشواره الدراسي هو قراءة القصص الأدبية والأناشيد والأشعار الخفيفة إلى آخر القائمة، وأننا لم نسمع بطفل بدأ دراسة الطب أو الفيزياء في أول مرحلته الدراسية. هذا من الناحية العمودية، أما الأفقية فإن كلا من الفيلسوف والعالم لا يستطيعان فعل شيء دونما الاستعانة بالخيال الذي يجسده الأديب في المجتمع، وأن تغذية الأديب للعالم أو الفيلسوف لا تقل إطلاقا عما يحصل عليه (الأديب) فيما بعد من الفائدة العلمية والفلسفية مثل استشفائه واستفادته من النظام السياسي وغير ذلك باعتبارالتبادل الذهني.

لا شك أن البعض يظن بأن الأدب في واد والعلم مثلا في واد آخر، وأن الأديب مجرد مستهلك يحصل مثلا على الأدوية من الطبيب والأجهزة التكنولوجية من العالم التقني دون أن يدفع ثمنا ذهنيا لذك عن طريق المساهة في تشكيل الحضارة، لكن هذا غير صحيح بالمرة وإنما هو مجرد كلام نابع من الحس الأولي العام الذي لا صلة له بالعوامل العميقة الحاكمة للصيرورة التاريخية والثقافية. قد   يقول البعض بأن هناك طبيبا لم يقرأ قصيدة واحدة ولم يقرأ رواية واحدة ومع ذلك فهو طبيب بارع. هذا أيضا كلام سطحي للغاية لا صلة له بالجذور التي يقوم عليها التاريخ الثقافي والحضاري في عمقه الفعال. لأن الأديب يصنع البيئة التي تنتج هذا الطبيب وغيره بالكامل وليس بطريقة جزئية فحسب. وتصبح كل التصرفات والعلاقات التي يقيمها الطبيب وغيره سواء خارج ميدانه أو داخله تستمد وقودها الخيالي من الثقافة التي صنعها ويتحكم فيها الأديب الذي قام بتهذيب هذا الخيال عبر التاريخ. وأن الخيال الاجتماعي المجسد في شخصية الأديب بدوره يستمد وقوده من الطبيعة الصامتة مباشرة، أي أنه عبارة عن همزة وصل بين الفيزيائي والسيكولوجي بالنظر إلى شقه الوظيفي تماما كما يستمد الخيال المجرد، على مستوى الفرد، وقوده التلقائي من بعده الفيزيولوجي، في مرحلة الطفولة، عن طريق الاستجابة المباشرة للجسم.

ما دام الخيال وسيلة الأديب لرصد والتقاط تفاصيل التاريخ المنفلتة من التأريخ وغير المتاحة لغيره، كما أن الاستدلال الدقيق بتفاصيل المعقول على الظاهرة ليس متاحا لغير الفيلسوف، فإن طبيعة كل من الممكن والمستحيل التي يتشكل منها النص الأدبي موجهة، بشكل مباشر، إلى ملكة الوجدان. ومن هنا تتم غربلتها وإعادة تصفية وتصنيف المألوف إلى المعقول والمخيول إلى الخيال عن طريق الترجمة النقدية. هذا يعني أن النص الذي يحمل تفسيره في طيته هو نص خارج عن جلدته الأدبية نظرا لانشغاله بمخاطبة العقل في مضمونه (أقول المضمون لأن الشكل متناغم إلى حد ما مع ضوابط العقل المتمثلة في البنية النقدية) وهو ما يلغي النقاط التي شرحتها أعلاه.

إذا كان تورط الفيلسوف  في مخاطبة الوجدان، عن طريق توسله بالخيال، كفيلا بإلغاء فلسفته، مما يعني بطلان قيمتها النظرية، فإن تورط الأديب في العقلنة لا يقل استحقاقا لنفس الحكم. وهو ما يعني بطلان القيمة الأدبية لنصه. بيد أن مهمة الأديب تتمثل في الإبحارعبر فضاء الإمكان والإتيان بالممكن إلى الوجود في شكله الخام. ولا مانع من معاينة المستحيل قصد التأسيس لاستيعاب طبيعة الممكن علما بأن الأشياء تعرف بضدها. وهذا بالضبط ما يعبر عنه الناقد "عبد الفتاح كليطو" في مجمله بأدب الغرابة، حيث أشار إلى أن النص الأدبي يجب أن يكون غريبا عن المألوف اليومي. عندما تعرض نتائج هذا الإبحار على مؤسسة الفلسفة الملكلفة بغربلته، إن عن طريق تجسيده في المعطى النقدي أو استيحاء انعكاسه في بنية البيئة الثقافية وتوظيفه في فعل التفلسف، يصبح ما هو أدبي معقولا.  ثم إن قصور الأديب في اقتحام هذا الممكن وذاك المستحيل ، سواء عن طريق التهاون البلاغي، الانزياحي، اللغوي أو الموضوعي، يعني عطبا ما في موارد الخيال المفترض أن تميزه عن غيره من الشخصيات الصانعة للحضارة البشرية. وبالتالي تكون، بطبيعة الحال، أدبيته مشكوكا فيها.

 قد يبقى هناك سؤال كالتالي: مادام الخيال يفرض نفسه بنفسه كما كانت الأسطورة تحكي نفسها بنفسها، على المستوى السوسيوتاريخي، فلماذا كان دور الأديب مطلوبا إلى هذا الحد؟

الجواب هو أن مهمة الأديب لا تقتصر على تقديم المخيول كما هو في الطبيعة الصامتة، بل يقوم بتدجينه بحيث يناسب متصورات (بفتح الواو) بيئته الاجتماعية ويتناغم مع طاقة قارئه الاستيعابية من خلال تلقين الأخير تفاصيل تاريخه المنفلتة عن التأريخ وليس تفاصيل تاريخ الغير طبعا. إذا توفرت هذه الشروط في نص الأديب فإن هذا الأخير لن يكون مسؤلا عن محدودية التعاطي القرائي مع نصه لأن ذلك يعني قصورا في المواكبة والاسيعاب القرائيين للإنتاج الأدبي وليس العكس. فبنفس القدر الذي ننمذج ونمعير الأديب علينا أن ننمذج ونمعير القارئ المكتوب له. وهذه المعيرة وتلك النمذجة تعنيان اعتبار القارئ مطلعا ومستوعبا لتراث بيئته الاجتماعية، لا أن يكون من حق أي مبتدئ الحكم على النص بالمحدودية الأدبية، خصوصا من باب الانزياح الذي يعني محدودية ذاتية لدى القارئ في الفهم، تحت شعار أن النص لا يلامس الواقع، فهذا يعني بدائية النظرة القرائية إلى العلاقة التراكمية القائمة بين الفرد والواقع وليس العكس.

إن تدجين الخيال الذي يقوم به الأديب في إنشاء رسالته (النص الأدبي) الموجهة إلى الوجدان يتحول إلى صقل وتهذيب وتنميط ليس للتفكير فحسب بل للتخيل أيضا. والدليل على ذلك يتجلى في التقارب والتشابه اللذين تفرضهما البيئة الواحدة بين النصوص ذات الفضاء الجغرافي والتاريخي واحد.

إن المحاكاة القائمة بين دور الأديب، في استنطاق الطبيعة الصامتة، ودور الخيال في استنطاق الجسم على المستوى الفردي، كما يتجسد ذلك في مرحلة الطفولة، يتجلى في أن الأديب، باعتباره حلقة بين الطبيعة والثقافة، يقوم بالتقاط وإبراز الجوانب الخفية المنفلتة من المعطى التاريخي كما قلت أعلاه، ومن ثم تحقيق هذا المنفلت عن طريق توظيفه في تأثيث وتغذية الأسس الفعالة العميقة للثقافة المعنية بمحيطه. بيد أن الطبيعة في كليتها هي التي تحكي ذاتها بذاتها من خلال شخصية الأديب المجسد لملكة الخيال، على المستوى السوسيولوجي، تماما كما نجدها تحكي ذاتها بنفسها في جزئيتها( الجسم) على المستوى الفردي ، في مرحلة الطفولة، ثم إن دور الخيال الاجتماعي المجسد في شخصية الأديب المعني بتهذيب الثقافة يساوي دور الخيال المجرد في الدفع بالطفل نحو اكتساب العقل. ففي حين نجد أن تحقيق التهذيب على مستواه الأول، الذي يتطلبه راهن المحيط الاجتماعي المعني بالأمر، لا يعني استيفاء الدور الذي يلعبه  الأديب شروط نهايته، نجد كذلك أن التوصل إلى مرحلة التعقل على المستوى الفردي، عن طريق النضج مثلا، لا تعني الاستغناء عن ملكة الخيال ما دام الأخير يمثل الهيولى التي لا يمكن حتى للفعل العقلي أن يتحرك في اتجاهه العمودي إلا داخلها. إن الاختلاف القائم بين الكل الطبيعي وجزئه، في هذا الصدد على الأقل، هو اختلاف العام عن الخاص، وهو اختلاف يتوفر بقوة على شروط الاستقراء والاستدلال وبالتالي الاستنتاج من الأول ما تم الاستدلال به على الثاني بلا أي مانع شريطة الحرص على مراعاة طبيعة الاستدلال في مراعاة ما ينعكس من اختلاف العام عن الخاص كميا في عملية الاستنتاج. هذا يعني أن ضوابط الكل هنا تنطبق على ضوابط الجزء ولهذا يصح إسقاط مفهوم الأول على الثاني كيفيا. لنتأمل هذه النقاط التالية:

الدماغ هو نسخة عن الطبيعة الصامتة، على أن موارد الحركة الهيرمونية فيه تساوي الحركة المغناطيسة في هذه الطبيعة الصامتة، إذن فهو يمثل، مع الجسم، الكل الطبيعي باعتبار الفاصل بين الاثنين هو فاصل كمي بين العام والخاص. ثم إن العقل نسخة عن القانون الذي تسير عليه الطبيعة المدركة (بفتح الراء) التي يدخل الانسان في العلاقات المحسوسة والمعقولة معها بغض النظر عن الخوض فيما يجب أن يكون عليه من الجزئية، في محاكاته القانون الطبيعي، من هذا الأخير.

نستطيع القول أيضا بأن العلم نسخة ذهنية عن الشطر المحسوس لهذه الطبيعة في حين نجد أن الخيال نسخة للطبيعة الممكنة. وإذا كان هذا الخيال يحاكي شيئا ذا نسبة ما إلى الوجود فإنما يحاكي نشأة الطبيعة نفسها بمختلف ومؤتلف عناصرها. عند هذه النقطة نجد أن الكثير من المفكرين يرفضون ما يرفضه العقل، وبدل أن يحكموا عليه بالبطلان في علاقته بتخصصهم العقلي (الفلسفي، العلمي) نجدهم يحكمون عليه بالبطان في علاقته بالوجود كله !! هنا يقعون في الخطأ برأيي. وبقدر ما يكون هذا الأمر أكبر من الخوض السريع فيه فهو لا يخلو من التسرع لأن المعيار الأصلي في الحكم على نسبة الشيء إلى الوجود أو العدم ليس هو العقل أو العلم بل الخيال !! أعني قبل أن أرفض إمكان وجود الشيء لا بد أن أسأل نفسي هل أستطيع تخيله أم لا؟. إذا كنت أستطيع تخيله فهذا يعني أنه موجود بالقوة ضرورة. وإذا اعتقد البعض بأن الخيال لا يعكس شيئا في الوجود الخارج عن رأس صاحبه نقول بأنه مادام المخيول موجودا في هذا الرأس فهو موجود لا يختلف عن غيره من الموجودات بالنظر إلى احتمالات انعكاسه في وظيفة هذا الشخص وتفاعله مع المحيط بطريقة أو بأخرى . إذن بإمكاننا القول بأن ملكة الخيال(لا أقول الإيمان حتى لا ينصرف المقال إلى بحث روحاني) هي الأقدر، بين ملكات النفس البشرية، على عكس وتغطية الطبيعة إدراكيا، وبالتالي فهي أقوى من العقل والعلم والنقل. لنتأمل هذه المعطيات:

 من المعلوم أن الإحساس بالجوع- كما يشير بعض الفلاسفة- يدل على وجود الطعام، والإحساس بالعطش يدل على وجود الماء كما أن الإحساس بالرغبة الجنسية يدل على وجود الطرف الأخر. بعبارة أخرى أقول، لو لم يكن الطعام موجودا لما كان هناك إحساس بالجوع، ولو لم يكن هناك ماء ما كان هناك عطش، وكذلك لو لم يوجد الطرف الجنسي الآخر ما كانت هناك رغبة جنسية في إقامة  العلاقة معه. هنا نجد أن الإحساس بالافتقارإلى الشيء ليس دليلا على وجود المفتقر (بفتح القاف) إليه فحسب، وإنما وجود هذا الافتقار عينه متعلق بهذا المفتقر إليه، أي أن وجود هذا الافتقار مشروط بوجود المطلوب الذي تتحرك الرغبة في اتجاهه. نأتي إلى العقل فنجد أن الأمر لا يختلف عما قيل أعلاه  في جوهره، أي أن وجود العقل يدل على المعقول المجسد في قانون الطبيعة المدركة لدى الإنسان. وأن وجود العقل ليس دليلا على وجود المعقول فحسب وإنما يحمل في طيته دليلا قاطعا على أن وجوده مشروط بوجود المعقول، وهذا يعني أنه لو لم يكن هناك معقول(قانون الطبيعة) ما وجدنا في رأسنا عقلا !

إذا صح هذا فما الذي يمنع من القول بأن للخيال نفس القصة (وهو المراد التركيز عليه في هذا البحث لعلاقته بالأديب)، أي أنه دليل على وجود المخيول الذي لا يمكن هضمه عقليا أو علميا. حتى وإن كان يكفي القول بأن المعقول الطبيعي لم يتم تأسيسه بمعقول لا يفوقه قوة، بل بما هو أكبر من المعقول والعقل بالضرورة، فإنا نستطيع القول أيضا بأن الصورة الذهنية لانفراز العقل من الخيال تحاكي بالضرورة، وليس بالصدفة، قوة المخيول الذي انفرز منه المعقول في الطبيعة. وبهذا يستقيم الاستدلال والاستنتاج في حين أن العكس يقود إلى ضرورة لي عنقهما لا محالة. 

عند تأملنا لهذه المفاهيم أعلاه نجد أن موضوع العقل أعم من موضوع العلم، لكنه أخص من موضوع الخيال، لأن الإمكان الذي تعكسه ملكة الخيال أعم وسابق للموجود بالضرورة إن على الصعيد الفلسفي أو التاريخي/ الزمني أوالفعلي (في مقابلة الفعل بالقوة) لهذا فإن بوصلة الجدلية تقود، في هذا الصدد، إلى القول بأن الأديب سابق للفيلسوف بالضرورة ذاتها والأصعدة عينها. هذا وفق ما تفرضه طبيعة اشتغاله على بلورة أنطولوجيا الإمكان المتمثلة في كل من إعطاء الأفكار المطلوبة عن طبيعتي الوجود والعدم معا لتعلب هذه الأفكار دور الموجب والسالب الحاكمين للوجود والموجود.

إذا تأملنا الخيال نجده الفضاء الذي يستمد ثنائية صيرورته من الوجود والعدم، وهي الصورة الأعم من الثنائية الحاكمة للعقل والمعقول والتي تتمثل في قيمتي؛ الخطأ والصواب المنطقيين. ثم إذا كان لا بد للعلم والفلسفة أن يكونا مسبوقين بالأدب، لضرورة كون العقل وإدراك طبيعة المحسوس مسبوقين بالخيال، فإن العكس لا يصح كما هو واضح، أي أن الخيال ليس بحاجة لأن يكون مسبوقا بالعقل أو غيره وهذا ما يؤكد، بالإضافة إلى المعطيات الاستدلالية المذكورة أعلاه، بأن دور الأديب أهم للثقافة الانسانية من دوري العالم والفيلسوف معا دون أن يفهم من هذا الكلام بأن الاثنين لا يحتاج إليهما المجتمع طبعا، وإنما نتحدث هنا عن الأولويات فقط والتي تعني أن وجود الاثنين متعلق ومشروط بوجود الأول بينما العكس ليس صحيحا .

حتى يكون الكلام حول ماهية الأديب واضحا أكثر لنأخذ الصورة بشكل معكوس ونتصور كيف سيكون الإنسان الذي لا خيال له !؟ إذا كان من المستحيل أن يبقى حيا بكل معنى للحياة فإن الأمر نفسه ينطبق على الحضارة التي لا أدب فيها وفق ما أجريته أعلاه من محاولة للكشف عن أوجه الشبه بين البنية الفردية والبنية الاجتماعية، وبالتالي البنية الحضارية كلها. 

الخلاصة أنه إذا كانت الفلسفة أم العلوم فإن الأدب مصدر الثقافة والحضارة بالكامل وأن الأديب هو الذي يصنع الفيلسوف والعالم الخ على مستوى الكل الاجتماعي بقدر ما يكون الخيال هو الصانع للعقل والعلم على مستوى الجزء الفردي. ويمكن تلخيص ماهية الأديب أخيرا في هذه العبارة التالية: الأديب وسيلته الخيال، موضوعه الإمكان وغايته الوجدان.

 

سعيد بودبوز

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1212 الخميس 29/10/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم