صحيفة المثقف

ندوب في كتاب نهار

 ليس نهارً طريح الفراش، ولا هو مقبل على موت أكيد، ليفتح عين ضمير فزّ مرتعباَ، فالدم لم يكمل دورة تخثره على وجه القتيلة والجسد الأبنوسي ما زال طرياً، فاية ريح حملتك اليّ لتلوب حولي طالباً كتابة ما سوف تقول، إهدأ يانهار ودعني لرقادي فهو أسقطني بعد نزال، لكن كلامي راح في بحر، فهاهونهار ينتصب أمامي قاذفاً في حجري حزمة أقلام وسفطة ورق، ثم يبدا بتطيير صقور الكلام من أقفاص فمه المتصحر مازجاً طحين الأوائل بماء الأواخر ولم يترك لي مجال التدخل سوى بعنونة بعض التفاصيل علّني أفهرس بعض ما جاء في كتاب نهار:

 

الندبة الأولى - فصل التجلي

صفحات البدء مما أملاه عليّ نهار وكما هي في الأصل:

يقول نهار: وأنا أجمع فتات الرؤيا، أعيد تقطيعها بمباضع حلمي ثم أراصفها، تراودني إمرأة العزيز، أقتفي مباهجها بقميص قدّ من قبل، الريح النشالة، البارحة وقفت على نافذتي، أصغت طويلاً ثم تلوت، البارحة رأيتها، كانت تطرز ثوب الأماني بخيوط الفشل، كومت عدتي بين ضفتين لفم ينطمر فيه جذر الكلام، أحفرّ حوله، ألتقطه وأحزمه، ثم ارسله رشاشاً ضوئياً على مرآة عاكسة، نافذتها مواربة، النوافذ دائماُ صنو الفجيعة، منها تأتي إشارات المغزى، إشارات التلهف ونداء الدم القادم بصورة "هولاكو" بهي الطلعة، وهو يستقريء الشحوب على أفق الجبين، نقطة دم بحجم حبة رمان كعلامة زواج لأمرأة هندية، أحاول تحويل إستطاعتي الى شيء مستطاع، فلم استطع الإ مداهنة التمتمات كي أكشط عن مخيلتي منظر الجثة، كانت بطة الساق وحدها تنكشف عن ربلاء كاعبة، وهي تنهبد على دوزان الظهر، ذبابة خيل تنطّ على فوهة الجرح الذي بحجم حبة رمان، النتاج الكامل لشيطاني القافز من نافذة مواربة في ليلة، كحلاء - غبراء – حمقاء – لا يهم الوصف ما دام الذي حصل، حصل بسرعة حتى أكاد أجزم بأني لم اسمع حفيف صوتها الراعش وهو يهزّ راكد الصمت: خائفة، خائفة يا نهار – فثمة جسدان وفحيح و إنخطاف وتواثب وثمة مياه تنبجس من مياه اخرى، لا، هناك حتماً شيء آخر ملائكي التكون، يتقنطر، يتلولب، يشخر، لا هذا يكفي، أشطبه، يقول محمد ثم يواصل: أيها الأخرق، يتكررهمسها، كيف أتيت؟ لو لم أستلذ طعم خوفها وهي تسيح بين يدي المجمرتين، لما تواصل ذلك الهذيان مائة ليلة، يقف فيها النخاس فوق رأسينا، يستلنا معاً، متلاصقين متمازجين - لوحة سريالية – ينادي علينا في سوق عريضة : حليب وقهوة، قطاف الليلة لمن يرغب، ويشترينا رجل، كثّ كثيف، يفصلنا بنابه، يرمي القهوة تحت قدميه، يسحق تفلها، ثم يحتسي حليب الغزالة داهناً به شاربيه ولحيته، يتجشأ ويبصق –

أنهض متعرقاً، ناشف الريق، وأنظرجهة النافذة المواربة فاسمع الصرير، كانت مثلي تنسفّ محترقة، وحبة الرمان لم تزل غافية ومتوارية خلف الجبين، تتسع الحبة لتصبح بركة ثم بحيرة، ألفّ جسدي بغطاء الصوف وأنقذف داخلها، ثمة حورية لا زعانف لها، ساقاها مفتوحتان، تندسّ معي، تدهنني فألصف، تجرفني الدوامة، أركس وأطفو، تمد ّ أصابعها حول عنقي، تعيدني مجفلاً نحو السرير فأجد عليه حوريتي الأولى بحبة رمان على جبينها، تنتفض الحبة، تنفقس في وجهي، يتطاير منها رذاذ أحمر يدفعني ثانية صوب الحورية مفتوحة الساقين، فأنفقس بدوري، توقظني بسملة الوالدة وأصابعها اللدنة على فحم وجهي: قم يابني، أد الصلاة – أية صلاة ياأمي؟ هل أعددت الحمام؟ تبتسم الوالدة: آه يا بني، كل ليلة يضربك إبليس، ستهلك نفسك، ليتك تتزوج –

فرويد، يا فرويد اللعنةعليك، ما أدراك بحالتي لتكشف سري؟ عشت باردا في بلاد موصدة النوافذ، فما ادراك بحالتي وكأنك معي؟ فرويد، قف بعيداً، سأخوض الليلة حربي وحدي، منتصراً أو مهزوماً، هذا حراك وحق إختيار، أنت لا تعرف حادثة الشباك، شراشفها كانت حمائم حقل يملاء الفضاء عطر أنفاسها، تنحسر الشراشف عن بطة الساق، بيضاء ملتفةّ، وهي الغافلة ترقد جنباً، وجيف قلبي وأنفاسي الهجيرية نخزا سباتها، ما كنا على موعد، المواعيد لم تحن مواسمها بعد، أخفيت عنها نيتي بالقطاف فأخفت عني نيتها بالنضج، كنت أوجل القدوم لكنها تستفزني بميسها وإشاراتها وهي تهدل قرب نافذتي،: محمد، يالك من أحمق يامحمد، كيف أتيت، ألا تخاف؟ لم يفاجئها حضوري، ربما أنتظرته على غير علمي، فهاهي تمور، راعشة، رطبة، محمحمة، لم استطع جس نبضها، كيف أنتبه لزائد التفاصيل وأنا أحمحم وأصهل، مائة ليلة لا حقني إبليس، يلسعني بسوطه فتبتل ثيابي، الليلة سأجعل إبليس تبتل ثيابه – أوقعتها، كانت ترتجف مثل قطة ورمانتي كتفيها تنهرسان تحت أصابعي، أرسلتهما إنحداراً حتى الخصر وما يليه – يدخل كلبها، أشرم وقبيح، لا يفقه ما يجري، يظنه إعتداءا طال صاحبته – لديه خيال وتصورات حرّة - يغرز أنيابه في " إليتي " المنكشفة صوب السقوف، أنتبهت متأخراً فأنا منشغل بالغرز مثله، كان يغرز وينتر وكنت أغرز وأنتر والحاصل جسد مدمى، وهكذا إنحشرت بين بحرين دون برابرة ودون جياد أمامي دم وخلفي دم، ولا سفن لدي كي أحرقها، فهي إحترقت قبل مجيئي ---- آآآآآآه، نعست، سأكمل لا حقاً، وطاح عليه نعاس ثقيل – لكني لن أدع محمداً يغفو بعد إندماجي بأصل الحكاية لذا لن أتركه يتركني لوحدتي وهواجسي: قم يا محمد قم وأكمل – لا فائدة، فالنوم الدهري أمسك بمحمد، إقتحمت الثلاجة واستللت زجاجة ماء بارد أخذت طريقها الى رأس محمد وارفقتها بعيدان ثقاب بين أصابعه وجرس منبه على شحمة اذنه – ذكرت الشرطة أنني فجرّت قنبلة بالقرب منه – لكني في الواقع لم افعل ذلك لأن محمد كان قد ودع تماماً عالم اليقظة.

 

الندبة الثانية: مما ذكره طبيب البلاط

لو عرفت الكبير، لو إنزلقت مرة داخل نفسه وإبتلعتك تلك الدهاليز المظلمة، لو رأيت كيف تجهم وأكفهر وجهه فأنحسرت أمواج وإصطخبت أخرى، ثم لينكشف غيم البشارة التي أنبئته بسعد القدوم لوليد ذكر مكتمل البناء، لو رايت ذلك لما عجبت من همود الحركة في الأجساد الممغنطة وانكتام الأنفاس في لحظة أثيرية بالغة الإصطناع – والكبير لا ننكره ولسنا بوارد وصفه كي لا نحرج بإكتظاظ السؤال، حرثت أمه حين زارها الوحي المبجل، فأنتفخت بطنها وبان عليها حمل جليل، هي لم تحدد زمن الوقوع ولا إستطاعت وصف المكان، أفي الخلاء كان الوطء ام في السرير ناعم الحواف؟ لكنها معجزة النوافذ المواربة، لم يستطع أحد قبض الحقيقة سوى أن ملاكاً قفز ليلاً ليرطب حقلاً طال جفافه، والحقل نبت ثمرة فجّة، أما الملاك فرأى وسمع وبجمع يده ضرب الهواء فأصطفقت زوبعة من قيل وقال سرعان ما خفتت مناسيبها الخافتة، فالفتى الطيب طوب أمه في علّو المقام وبتر التكهن فبات سراباً، لكنه حين يصطدم بسر التجلي في معجزة ولادته، يصطدم كذلك برفض أمه البوح بإسم الملاك الزائر ليلاً،: تلك إمرأة ولدتني وكفى فمالي والنبش في ماض بعيد – كان يقول حين يضنكه التفكر، وهاهو قد عاد للتجهم فجأة عندما أخبروه بقدوم الوريث، أهو ملاك آخر لمح النافذة فغطّ وإغتبط؟ أنا أمرت بإغلاق النوافذ أما الأبواب فمن يضمنها وهؤلاء الأنذال يحيطون بي.

قالت خالته: كانت اختي هيفاء جرداء مليحة الوجه ثاقبة النظر وكانت تحبّ هواء الليل، تفرش جسدها الغض في حقل الرغبات، والليل ينقل همهمات وعواء وأنا اخاف سطوة الستر فأكتف يا يابني بما عرفت – أما عمته وبعد إستنطاقها ذكرت بحياء: حين ترملت أمك عن المغدور اخي، بكت كثيراً وأرتدت السواد كما يليق بإمراة مثلها ثم أقسمت الأّ يلمسها بشربعد والدك،أما الملائكة يابني فمن يردعهم؟، وهكذا يأبن الملاك أخي، فأمك طاهرة الذيل ولا ذنب لها فيما حصل فأطفيء جذوتك واتق الله

في هذا الليل، وفيما كان المبشرّ ينتظر المكافأة، تجهم الكبير، فأنخذل الجمع وحام عليهم طائر الموت ليحول دماءهم حجاراَ ورصاصاً

هامش: فيما ذكره طبيب البلاط: أن ما يشاع عن تجمد الدم في عروق المتعرضين لخوف شديد، هو أمر غير ثابت علمياً بل هذا قول متداول عند العامة ولا قيمة له في نظر الطب .

السياف وحده بان عليه طيف إبتسام، فها قد مضت عشرة أيام منذ الحلول الأخير وهو لم يتحل بدم حار، سيفه زنجر وكسل ساعده، وليس من شيء ينهي تبطله إلاّ تكشيرة تغزو " الكبير" يتبعها إطاحة رأس أو رأسين حسب المعلومة والمزاج الكبيري .

-     : إهنأ يا سيفي –قال السياف – الليلة تفرج

أية داهية أطاحت بسرور الكبير؟ وأية رؤوس هي الطائحة؟ إنشرخ السؤال وتوالت الأدعية

-     : ربي أطعتك عبداً ورجوتك ذلاّ، فأطلع يا رب غداً شمسي .

-     : يارب أترضى، كي أكسب رزقاً، أخسر رأسي؟

-     : يا ربّ، ما زلت وحقك انفع نفسي

تهيأ السياف لإلتقاط الإشارة، قام بكل ما يلزم، راز حدود الرقاب وعين مواضع القطع، حرك ساعده قليلاً، حطّ عينه على عنقين رآهما الأصلح والأقرب إحتمالاً، ثم ألصقها بسبابة الكبير إنتظاراً للبدء حيث تؤشر، لكن الكبير كبّر المسافة ومدّ الإحتمال وهو ما لم يفعله من قبل، كانت نظرته تثقب الفراغ وتكرمش وجهه حتى صار كمحرمة عتيقة، وابيضّ ثم إخضّر ثم تنهد – وأخيراً تسرب شعاع أمل، فماع الحضور وتسربوا الى الخارج حين إرتفعت سبابة الكبير نحو الأعلى، وإنخذل السياف فبركت عينه على إمتداد الرقبة الكبيرية

(وجدت في خزانة المؤرخ الوحيد لتلك الفترة وعلى وريقة مثلومة، المعلومات التالية – جرت العادة أن الكبير إذا رفع سبابته للأعلى فذلك يعني شيئين، لا نية لديه الليلة بقتل أحد، وأمراً للحضور بإلانصراف، وإذ تخلو القاعة يبقى إثنان – كاتم السر وقائد الجند – وفي العادة أيضا: القتل يتم بقطع الرؤوس المختارة أمام الجمع لأخذ العبرة)

لكن المؤرخ لم يذكر أن الكبير كان يستطيع هتك العادة وكسر العرف– -

قال الكاتم: ليته ينتهك العادة الليلة فيطيح برأس هذا المتعجرف صاحب الجند

-: الكبير يحتاجني قال قائد الجند أمامنا أحلاف تناصبنا العداء، فإذا كسر كبيرنا العرف نخسر الليلة رأس الكاتم، ليكن، ما نفعه هذا العجوز الخرف، هناك الكثير، كاتمين ومكتومين ويمكن بيسر تدبر غيره، وكبيرنا صاحب حكمة ونظرية – أقولها أنا قائد الجند – لذا سيطيح برأس الدعي المغرور كاتم السر –لكن من يدري أينا يختار؟ الرحمة يارب ليس أنا، ما زلت فتياً، ولم أحظ بعد بحب إمرأة، أريد ان أحقق نصراً في الحب لا سوقاً جبرياً نحو مضجعي، يا رب الهمه بقائي

وذهن الكبير حقل بوار تسيجه الأشواك وتسرح فيه ذئاب تجوع، أعشاب الشك تجتث يقينه فتتنخل ذاكرته ثقوب معتمة تزين له فعل الشيء وضده، عقود مضت مذ كان سقطاً، صرف بهجتها في نسج التآمروكسب النصير وحين إرتقى سدة الكبر بعد إطاحته برأس السلف، حاصرته المخاوف وعفنّه الصقيع، كان لحياته معنى الوصول فأين بعدها وهو المتربع قمة الكآبة ورأس الضجر، أدمن عادة أملتها الضرورة وغذتها الظنون لينقذ رأساً لم تعد تربطه بجسد نحس إلاّ عنق ضيعت الإتجاه، والليلة تنخره فكرة الخيانة وعليه قتل الملل الذي إلتهم عمائد روحه، لكن، ايعلم كاتم سره أو قائد جنده مالذي يجول داخل رأسه؟، يخطفه نعاس وردي، يرى إمرأة بملامح طفلة تخرج من مرآته، تمد لسانها، يبرز لها ظفر دام، يطعنه بين حاجبيه، يقتم موضع الطعن ثم يتشكل نقطة بحجم حبة رمان كعلامة زواج لإمرأة هندية، تتحول النقطة حوضاً، يتسع الحوض ليصير بركة ثم بحيرة، يلفّ جسده بغطاء الصوف وينقذف داخلها، ثمة حورية بلا زعانف، مفتوحة الساقين، ترسم ظفائرها شكل مشنقة، تغرز أصابعها في خاصرتيه وترفعه لتجعل راسه داخل الأنشوطة ثم ترخي أصابعها ببطء وهي منحنية الى الأمام، يتدلى جسده متأرجاً، تنضغط الأنشوطة حول عنقه، يقترب الموت شيطاناً أزرق بظفر وناب، يتفّ عليه ويصفعه ثم يؤشر حيث الجرح الذي يستحيل نقطة بحجم حبة رمان، يتسع الجرح فيخرج من فوهته جميع من قتلوا، يتدافعون بضجيج مدو، منتصبين ومتدحرجين، بعضهم رؤوس من غير أجساد، يلاحقهم السياف، ينظر ناحيته، عيناه منطفئتان، يقهقه السياف، ينشطر سيفه إنشطارات متتالية، تصير غابة تقطر دماً واااااااا اي، يفزّمرعوباَ، لا أحد حوله

مما ذكره طبيب البلاط: قمت اليوم بالكشف على جثة "ملاك" كانت مسمرة على أحدى نوافذ القصر، قيل أن أسمه نهار، لكن البحث جار لمعرفة كامل هويته

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1215 الاحد 01/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم