صحيفة المثقف

مأتم القبرّات

سنوات مضت وانا اعيش حالتي تلك، لا انا نسيت وتبت، ولاهم تركوني وشاني، كانوا أذ ا تلبستهم نوبة طارئة من الانسانية يعلم الله كيف هبطت عليهم، يلومونني على ما افعله بتلك الكائنات الصغيرة الظريفة التي تملأ صباحاتهم بالغناء كما يدعون، زاعمين بان الحادث افقدني عقلي، وازاح معه الشعور بالرأفة والضمير، فمن يصدق ان للقبّرات قدرة على القتل؟ .

يقولون هذا لا لأنهم يحبونها اكثر مني، بل لأن طرقي في القتل لا تعجبهم، فليس لي مهارتهم وكثرة ضحاياهم، وليس بهذا ملوماً، فوسائلي لا يعرفها أو لا يمارسها احد سواي – ربما لرقة في طباعهم-  وعلى هذا يستمر الكلام يوما بيوم وعاما بعد عام  وكأن الأرض تطهرت وغسلت ذنوبها ولم يبق عليها الا مصيبتي وذنوبي .

- لما يعذبها ؟

- مأساته كبيرة

- وما ذنبها المسكينة ؟

- ليتنا نعلم

- لكنكم مثله

- انما بطريقتنا –

 هكذا كنت بأعينهم، فأنا اصرّ على التقاطها حية، فقط حية - فلا فائدة في الموتى- لأجعل بيني وبينهم سداً وعداوة، وعداوة الموتى اشد وابقى لو تعلمون .

كنت بارعاً في نصب الاشراك بإناءة  وصبر، فإن نجت منها – اعني القبرات ولا شان لي ببني البشر- ألجأ الى مدّ شباكي واخفائها لتشبه البراءة، فلا مجال للخطأ، اما إذا نفرت وهربت، كما يفعل صديقي " الهر" الذي لا يعجبه الا رواية مآثره وهو" يعملها " في فراشه، عندها امسك غيظي واخرج لأنثر لها البذور حتى تأنس وهي اللاهية، وتصير الى التقاطه من يدي شاكرة مطمئنة، لكن حين أمسك بخناقها، تتبخراحلامها وتوصوص مرتعدة ذارفة الدموع .

 لا تحسبوني طفلا اتلهى، فقد تركت ذلك ورائي منذ امد بعيد،ولا تصدقوا ما يقوله الشامتون عني، فانا ذو عقل ودراية، ومع ذلك لا ارثي لحالها، فأقوم وبأعصاب باردة، بغرز دبابيسي في مناقيرها لأغلقها الى الابد، وليذهب الغناء الى الجحيم،ثم اعلقها على خيط واتركها تتارجح حتى تموت، أو ابادر الى كسر اجنحتها وارجلها، واراقبها وهي تحاول التملص بلا جدوى ثم تهلك ببطء، اما اذا كنت غاضبا – والاسباب وفيرة –  عندها اخنقها بسبابتي وابهامي حتى تتخشب، ولا اعرف لماذا يتيبس جسمها حين تفارق الحياة بهذه الطريقة، ولن اطيل عليكم، فقد كان ذهني يتفتق كل يوم عن ابتكار طرق جديدة في التعذيب، وكم كنت اشعر بلذة طاغية وانا ابني اهرامات صغيرة من رؤوسها الحمقاء .

- كيف تبدل هكذا ؟

- كان يحبها كثيراً

- القبرات؟

- ويطعمها بيديه

- القبرات؟

- لا الببغاوات    -

كنت اتصور نفسي ذا جسد هرقلي – وهرقلي تلك، سمعتها من استاذنا الاعرج وهو يصف رجل بجسد ضخم وعضلات جبارة، يقتلع ابواب الحصون ويصرع الوحوش-  وقد نبتت لي ذراعان قويتان وصوت اجش، فيخاف مني كل من رآني وأهزم جيشاً، وبذلك كله، حاولت مراراً اقتلاع باب بيتنا المتهالك أصلا،أو صرع ذلك الكلب اللعين الذي يطاردني كلما رآني، فلم افلح سوى باقتلاع باب قن الدجاج والفتك بديكنا الأحمر- الرئيس بلا منازع – بقنبلة  حجرية، مما جعل آبى ينتقم مني شر إنتقام، عالجني بخيزرانة على ظهري، وحرمني من طعام الغداء، رغم أن أمي طبخت الديك ذاته الذي كان لي فضل القضاء عليه

- تريد أن تصبح بطلاً يا قصبة ؟

- انظروا إليه، فزاعة الطيور هذا

- يتوهم نفسه قوياً

- احترسي عليه من الريح يا إمراة   -

 حتى زوجتي انفجرت ضاحكة وهي تراني أتبختر أمامها عارياً، بجسمي المحمول على قصبتين تشبهان الساقين، وأضلاع تصلح دعاية لمكافحة الجوع، أو لتهديد الأطفال الذين لا يشربون الحليب المجفف، بسوء العاقبة ، ومع ذلك عدت نفسها محظوظة بالقبض عليّ والزواج مني – تصوروا -  فالشهرة التي كنت أجيد سبل الوصول إليها، رافقتني غالباً،وقد دخلتها أول مرة، لمغامرة قمت بها في يفاعتي، حين استطعت اللحاق بحصان جامح والامساك به، صحيح انه كاد يحولني إلى كيس عظام وهو يجرني وراءه كعربة مهترئة، وكان ذلك سيحدث فعلا، لولا قرم شجرة عتيقة التفّ عليه حبله، فتوقف حضرته ساخرا مني، وهكذا قيض لي أن اصبح " بطلاً "، وإن كان بعض المشككين الذين تمتلئ بهم الأزمنة ولهم في كل مكان مكان، ينكرون ذلك متسائلين : كيف لمثله وقف حصان ؟ وظل الأمر موضع شكّ ينغص عيشي، لكن شهرتي في العدو – لا كراّ ولا فراّ كما تظنون – بل هكذا لوجه الله – شفعت لي وقيل حينها : جائز .

 ما ضعت بعدها وانا انظر الى النساء القابعات خلف المثل العليا،والمحنطات وراء واجهات المحال التجارية واشتهيهن، فيؤلمني ذلك القرصان المتمترس في كهف الظلمات منتظرا حصته في غنيمة اللذة، وعند إغتسال النجوم، يتحولن فجأة الى نساء من بلاط يلمع، وزوجتي التي كانت بينهن، حين امتطيت صهوتها، استللت رمحي وصرت أطعن واطعن،حتى اخذت تصهل وتحمحم، فأكتشفت حينها بانها ليست إمرأة من مطاط، وان عظامي اصطكت وتلعثمت ممزوجة بالعواء .

ويحك، اتريدني " ارفع " من ذلك ؟-- شهق اللص الذي طلب مني في ليلة داكنة، ان ارفع يدي ليسلبني ما معي، وتركني مغمورا بالمياه السفلى، --

راح صيف واتى صيف، ومرّ شتاء خلف شتاء، زنحن ننتظر " سارتي " وأنا، فلا المطر جاء، ولا الحوض إمتلأ، وبقيت الارض قاحلة جرداء .

- ربما هي عاقر؟

- فليتزوج غيرها

- وإن كان منه ؟

- اتقصد عقيم ؟

- اقصد منه –

وامتد حبل طويل طويل، من كلام غابر، ونحن ننتظر، علّ الله يرحم وياتي المنتظر" ربي هب لي من لدنك وليا" فاستجاب الله والعمر خريف . أينعت حبة في جدب الحقول، وقطرة تكورت فتحولت حلماً  تعلقت الامال به وانتعشت، فطارت وسبقتنا،لنراه رضيعا وطفلاً ثم شاباً وعريساً تزف اليه اجمل العرائس من نسل عشتار، ويرقص له الفرات طرباً، فهو جلجامش المنيع، شريك العذارى في رغباتهن وصاحب عفتهن . الاشهر التسعة مرت سحابة فرح وميلاد عظيم، طهر روحينا وزادها صفاء، فحسبناها معاً لحظة بلحظة،

- ولد، ولد، ولد  

- مبروك ايتها الام

- باركه ايها الاب

اختنقت بعبرتها ولم تستطع الرد بغير ابتسامة متعبة، لكنها تتالق اشراقاً، سرك عظيم يا رب، ووعدك اعظم ن فصرخة طفل تجعل الدنيا هي الجنة، والعمر غصن أخضر يزهو بما حمل .

- ارضعيه يا امرأة

- دعني استمتع بصراخه لحظة

- هو جائع

- ونحن ايضا --- قالت هذا والقمته الحلمة الوردية مداعبة، فامتلأ فمه العذب برحيق السعادة وفاض الخير طوفانا، على حليبها نشأ مكتملا يخنق الأفعى وهو يمرح .

 نافذته العالية تواجه الشمس، والمهد يربض قربها مستكيناً حنوناً، اما سرير الوالدين، فيهجع مطمئناً لا يعلم ما يدور .

كانت تزوره كل صباح، تلك العابثة اللعوب، تحط على النافذة المفتوحة، كأنها رسول القدر، فتملأ فضاء الغرفة بزقزقتها المرحة، وصغيرنا يضحك لها، يناغيها، يحاول التقاطها بيديه الغضتين، يزحف نحوها، يجاوز المهد، يقترب  منها، يحاورها، يختلفان، يتفقان، يطيران معاً، والام ساهية .

كنت اصنع سوراً للحديقة التي اكتظت وردا وغناءاً، سوراً ابيض بلون القلب الغارق حباً للناس والزهور ولتلك القبّرات الوديعة المغردة، ولم يدر بخلدي انها قاتلة .

النافذة عالية بعلو فرحتين، والأرض قاسية قساوة الدنيا ---

ما سمعت سوى صرختين امتزجتا بواحدة،  لطفل وام .

وما رأيت سوى حطامين صارا واحداً، لأم وطفل ----

وقبرّة قاتلة ----   

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1220 الجمعة 06/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم