صحيفة المثقف

معترك محموم

وبعد أن أتى الدخول المدرسي على البقية الباقية من صبر وتصبر جيوب الآباء، الذين ملوا حديث الكتب و"الكرطابات" والدفاتر، والمراجع، والأقلام، والمقررات. بإختصار بعد أن سئم الناس شبح الأدوات المدرسية التي حاصرتهم في كل مكان،  في الأسواق، والأزقة والأحياء السكنية الشعبية والراقية، والمحلات التجارية الفاخرة والمتواضعة، وتحول الكثير من العاطلين إلى باعة كتب، وإستبدل الحرفيون مهنهم ليتاجروا بالكتب والمقررات رغم أمية السواد الأعظم منهم. وقبل أن يستفيق الجميع من غبطة العطلة الصيفية وسخونية مصاريفها، ودوخة الدخول المدرسي وأقلامه وكتبه وما عرفته أثمنتها من إرتفاع واكب اموجات الغلاء في علوها وقسوحيتها. وقبل أن تنزاح روائح شهيوات سيدنا رمضان عن مناخرالناس والتي حاصرتهم في كل الأسواق، والأحياء، والأزقة الضيقة وحتى  بيبان "الديور" وداخلها، ومع "مطيشا" الطماطم وغيرها من ضروريات الشهر الكريم. وفي غفلة من الناس. وفجأة اختفت كل تلك الشهيوات المتنوعة من شباكية وبروات وحرشة وملاوي، وبدأت التوابل والفحم والتبن والعلف تحتل اماكنها في تناوب وتوال غريب، وإمتلأت الدنيا بروائح من نوع آخرى مصحوبة بتبعبيع الأكباش، معلنة الحرب ضد المغلوبين.

الأكباش موجودة بكثيرة وتنوع وكفاية- حسب اتصريحات وزارة الفلاحة المعتادة في كل سنة- وقد غطت كل الفضاءات والساحات، وهي ومغرية بألوانها وأشكالها، وأثمنتها هي الأخرى متنوعة ومتفاوتة من منتوج سردي سمين إلى آخرى بلدي معلوف أو رعوي؛ وبين هذا وذلك يقف الكثير ممن هم على باب الله ـ وما أكثر الذين لا يملكون ثمن أي نوع منها- مسلوبي الإرادة أعينهم مفتوحة بصيرة واياديهم مغلولة قصيرة، لكن أغلبهم لا يملك غير أجرته الكسيحة التي ما كانت تسد رمق العائلة في الأيام العادية قبل أن تبهدلها مصاريف المناسبات المتلاحقة. وفي خضم هذا التيه واللاملاذ، وهذه الحياة المكتظة بشبقية وهواجس الاستهلاك الطارئة، لا يجد الإنسان المغربي، نجم المعارك المأساوية، المنذور للاطمأنينة إحباطاتها، الحامل لرايات اليأس والمآسي والقلق، الباحث عن الكبش الأقرن الذي تنتظره الزوجة والأولاد، إلا الاستسلام لشركات الكريدي المتخصصة في تلقف بؤس "الغلابة" بأذرع  مفتوحة ـ على الآخرـ لتقدم العطايا الحاتمية، والهدايا التكريمية اللامحدودة وكل أنواع السلفات التي هي مرة "مضوبل" ومرة أخرى مثلثة أي ثلاثة في واحد مصحوبة دائما بالهدايا المغرية.

ليس الخطر أن يفعل هذا الكرم الحاتمي فعله في الأفراد والأسر فحسب، بل الخطر كل الخطر أن يتعدى ثأتيره من فئة محصورة فيشمل الغالبية العظمى من المواطنين حيث يعتقد الجميع على أن "الكريدي" هو الحل الأمثل والوحيد لكل المشاكل الاقتصادية التي تعترض مسار الحياة، ويبقى الخطر الأكبر حين يستسلم الجميع لإغراءات شركات القروض وكرمرها، فتندفع الجماعات للاقتراض كحق ومكتسب، ولا تستفيف مما تلبسها إلا بعد أن يكون الطوق قد أحكم قبضته، وأصبحوا رهينة متطلبات المقرضين وشروطهم، راضخين لقواعدهم، أسرى لبرامجهم، فإذا تعثرت خطوات الدفق مرة، أو تأخر التسديد عن موعده، ولم يبق أمام المقترض إلا الأداء ( والله غالب) أو السجن، فهذه الشركات ـ لطيبتها ـ تقترح جدولة الديون، أي تسديد الديون المترتبة من ديون أخرى جديدة تغرق المقرَض في كابوس جديد قديم ينظاف إلى جملة الكوابيس المحاصرة لأفقه المزدحم بالاحباط والألم والمعاناة الدائمة، فلا يسع هذا الكائن البائس اليائس حينها  إلا أن ينشد مع قيس بن ذريح أبياته بيته المشهور:

        

  أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ........ ويجمعني والهم بالليل جامــع

حتى إذا قضى العيد أنشد مع المعتمد بن عباد وبتصرف:

 بالأمس كنت بالأعياد مسرورا .......فجاءك العيد وانا ب"الكريدي " مأسورا

مع الإعتذار للمعتمد .

              

حميد طولست

 [email protected].

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1226 الخميس 12/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم