صحيفة المثقف

تساؤلات بشأن إسلامية المعرفة

وان لكل قضية جانبين يناقض أحدهما الآخر، ولا شيء أصدق من شيء، لكنه قد يكون أفضل منه بالقياس الى منظور الفرد) حسب ما يقول أحد إعلامها (بروتاغوراس). فكانت المشكلة المركزية لها مشكلة معرفية، ويعود الفضل للفيلسوف الأثيني سقراط ثم تلميذه أفلاطون ومن بعدهما أرسطو في تحرير الوعي اليوناني من سطوة هذه الحركة التي أشاعت الاضطراب في الرؤية والشك والارتياب وفي العصر الوسيط نقض القديس اوغسطين دعاوى الشكاك الذين ذهبوا الى عدم قدرة العقل للوصل الى حقيقة مطلقة، فدلل على ان هناك حقيقة مطلقة لا يرقى اليها الشك. وكانت قضية المعرفة من ابرز القضايا التي واكبت الفلسفة منذ مطلع التفكير الفلسفي، وظلت على الدوام واحدة من المشاغل المركزية للعقل الفلسفي، كما نلاحظ في التراث الفلسفي للعصر الهيلنستي، والمدارس التي سادت فيه (المدرسة الابيقورية، المدرسة الرواقية، مدرسة الاسكندرية)، والعصر الوسيط، مع (آباء الكنيسة) و(الفلسفة المدرسية) و(الاسمية). ومنذ بداية عصر النهضة طغت مسألة المعرفة في التفكر الفلسفي الغربي على غيرها من مشاغل الفلسفة، وأصبحت هي القضية الأساسية، وما سواها من قضايا تتفرع عليها، ذلك ان المقولات والأفكار والمؤلفات المهمة في هذا العصر وما تلاه، اهتمت بالدرجة الأولى بالمعرفة وقواعد التفكير المنطقي السليم، كما نلاحظ في (الاورغانون الجديد) لفرنسيس بيكون، الذي يتناول أسس الاستقراء والمنطق التجريبي، و(الكوجيتو) الذي عرضه ديكارت في كتابه (مقال في المنهج). وفي عصر التنوير واصل الفلاسفة في مؤلفاتهم الاهتمام بمسألة المعرفة واعتبارها المسألة الأهم، مثلما نجد في كتاب جون لوك (محاولة في الإدراك الإنساني)، مروراً بكتاب (نقد العقل المحض) للفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، ثم الاتجاهات الفلسفية في القرن التاسع عشر، الى المدارس والحلقات الفلسفية في القرن العشرين، وأشهرها (حلقة فينا) التي أرست مرتكزات (الوضعية المنطقية) وبشرت بـ (التصور العلمي للعالم) من خلال مجلتها (المعرفة)، وسادت مقولاتها عالمياً في النصف الأول من القرن العشرين، ولما تزل رؤاها مصدر إلهام فلسفة العلم ومناهجها المتنوعة حتى عصرنا الراهن.

 

 المعرفة عند الإسلاميين

 بدأ الوحي الإلهي بخطاب (اقرأ) وتكرر الامر بالقراءة في الآيات الأولى التي خوطب بها النبي، واقترن الأمر بالقراءة بصفة العلم للباري تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم)، وتعليمه بالقلم (الذي علم بالقلم)، وكل ذلك يرمز الى ان قضية المعرفة والعلم تمثل بوابة تنفتح عنها كل قضايا التفكير الديني وغيره من ألوان التفكير الأخرى. وتكرر تداول مصطلحات (العلم، المعرفة، الإدراك، الفكر، التذكر، الفقه، العقل، الدراية، الحكمة، الشعور) ومشتقاتها في القرآن الكريم، فمثلاً ورد لفظ (المعرفة) ومشتقاتها في (71) واحد وسبعين موضعاً. وبالرغم من ان المحور المركزي للبحث والتفكير في الفلسفة الإسلامية هو (الوجود)، لأن الحكمة الإلهية كما وسموها، هي (علم يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو موجود) غير ان الفلاسفة المسلمين عالجوا حقيقة العلم والمعرفة، وأنواعها ومراتبها، ومصادرها، وحكايتها عن الواقع وقيمتها، وغير ذلك، في مباحث (النفس، والعقل والعاقل والمعقول، والمقولات، والكلي، والوجود الذهني)، وان لم يفردوا باباً خاصاً بمباحث المعرفة في مؤلفاتهم. وهكذا اهتم بقضية المعرفة علماء الكلام والمتصوفة والعرفاء، فبينما اعتبر المتصوفة المعرفة حالة ذوقية وجدانية مصدرها القلب والحدس والشهود، وان العلم يتحقق بلا واسطة. ترسَّمَ المتكلمون أسلوب الجدل، وتوسلوا للتدليل على مدعياتهم بالمظنونات والمشهورات والمسلمات، واعتمدوا المنهج العقلي تارة، والمنهج النقلي تارة أخرى.

 

 المعرفة عند الإسلاميين في العصر الحديث

كان الشيخ محمد عبده من أوائل الذين أشاروا الى طبيعة المعرفة في الإسلام ومصادرها، وتلاه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه المعروف (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية)، ومن بعده تلميذه الدكتور علي سامي النشار في (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) و(نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، لكن الجهد المميز في هذا المضمار هو جهد محمد إقبال في (تجديد التفكير الديني في الإسلام) الذي درس بعمق طبيعة المعرفة الدينية، وتجليات التجربة الدينية، والحيز الذي تحتله المعرفة الذوقية الشهودية في المعرفة الدينية. ويمكن القول ان كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) الذي ألفه السيد محمد حسين الطباطبائي، وكتب تعليقة موسعة عليه تلميذه الشيخ مرتضى المطهري، هو أول كتاب في الفلسفة الإسلامية الحديثة يخصص مساحة واسعة لبحث (المعرفة). فبعد ان فرغ الطباطبائي في المقالتين الأولى والثانية من بيان (معنى الفلسفة وحدودها، والعلاقة بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية) دشن بحثه بنظرية المعرفة، وأولاها أهمية متميزة، حيث جعلها تتصدر مسائل الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على ثلاثة محاور متسلسلة منطقيا، تبدأ بـ (قيمة المعرفة) يليها (مصدر المعرفة) وتنتهي بـ (حدود المعرفة). ومضافاً الى تقديم البحث في (نظرية المعرفة) وما يتصل بها من المسائل مثل (الادراكات) على غيرها، فإنها استوعبت حيزاً كبيراً من كتاب (أصول الفلسفة)، اذ انبسطت على معظم صفحات الجزء الأول، واحتلت صفحات الجزء الثاني بتمامها، فيما اشتملت الأجزاء الثلاثة الباقية من الكتاب على بقية المسائل الفلسفية الأخرى. وبذلك يغدو (أصول الفلسفة) أول مؤلف في الفلسفة الإسلامية الحديثة يعالج مسألة المعرفة بهذه الكيفية، ويخصها بعناوين ومباحث مستقلة مفصلة، وتتبلور فيه الصيغة النظرية لها، ويوليها هذا القدر من البحث والتحليل. كما تناول السيد محمد باقر الصدر قضية المعرفة في كتاب (فلسفتنا) في الفصل الأول، فبحث (المصدر الأساسي للمعرفة) وأشهر النظريات في تفسير المعرفة التصورية والتصديقية، ثم أوضح موقف الفلاسفة المسلمين حيال ذلك، وفي الفصل الثاني درس (قيمة المعرفة) واستعرض بشكل نقدي مسار الموقف الفلسفي الأوروبي إزاء قيمة المعرفة وإمكان كشفها عن الحقيقة، منذ النزعات الارتيابية المبكرة في الفكر الغربي الى العصر الحديث. وفي مرحلة لاحقة عالج السيد الصدر الأساس المنطقي لتكوين العلم ودرس البرهان الأرسطي، ونظريات المنطق الحديث في الاستقرار، وأساسه المنطقي القائم على الاحتمال، فكشف في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) عقم نظرية البرهان الأرسطية، كما عالج مصدر خطأ الفكر الغربي في تفسيره لنظرية الاحتمال، وقدم محاولة بديلة في تفسير حساب الاحتمال، شكلت أساساً لفهم آخر لنظرية المعرفة بكل تفاصيلها، اصطلح عليها (المذهب الذاتي للمعرفة).

 

 المعرفة عند الإسلاميين في ربع القرن الأخير

 لا يشك أحد في ان العقدين الأخيرين من القرن العشرين كانا من أشد سنوات ذلك القرن في المخاضات والإرهاصات السياسية والاجتماعية والثقافية في عالمنا، والمتابع لحركة الفكر الإسلامي في هذه الحقبة يستطيع ان يرصد عدة تحولات ومنعطفات مهمة، في مسائل: (فلسفة الدين، وعلم الكلام، والتأويل، وقراءة النص، وفلسفة الفقه، ومقاصد الشريعة، والنظام المعرفي). ففيما يتعلق بقضية المعرفة ظهرت جماعة إسلامية أشهرت مشروعها عبر معهد أبحاث، وعبرت عن نفسها بـ (إسلامية المعرفة) ومعهدها بـ (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) الذي تأسس سنة 1981، وهي ترى ان العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية علوم متحيزة، اصطبغت بلون المحيط الذي نشأت وتطورت فيه، وما يحفل به ذلك المحيط، من ملابسات، وقيم ثقافية، ومعايير منهجية، تستند الى قراءة أُحادية هي (قراءة الكون) فقط، وهذه القراءة تجسد حالة فصام حاد، لأنها تستبعد قراءة الوحي، التي تتكامل بها قراءة الكون، عبر منهج (الجمع بين القراءتين)، كذلك تعتقد جماعة (إسلامية المعرفة) بأن فلسفة (العلوم الطبيعية) و(العلوم البحتة) هي فلسفة وضعية قاصرة، أفضت الى منهج وضعي مادي، يفسر ما يجري في العالم على أساس الجدل بين الإنسان والطبيعة، من دون وعي لدور الله في العالم، وباختزال دور الباري تعالى يختزل الإنسان والعالم الى مجموعة موجودات وأشياء مادية لا غير. وتتلخص المرتكزات المنهجية لإسلامية المعرفة، حسب رأي دعاتها، بما يأتي: 1- صياغة النظام المعرفي الإسلامي 2- اكتشاف المنهجية القرآنية ولكي يتحقق ذلك، تعمل على: 3- بناء منهج للتعامل مع القرآن الكريم 4- بناء منهج للتعامل مع السنة النبوية المطهرة 5- بناء منهج للتعامل مع التراث الإسلامي 6- بناء منهج للتعامل مع التراث الغربي والتراث الإنساني وقد توسلت جماعة (إسلامية المعرفة) لبلوغ هدفها بعقد حلقات نقاشية وندوات ومؤتمرات، وإصدار دوريات، وكتابة دراسات وكتب، وتأسيس مراكز بحوث، ومؤسسات أكاديمية. وبموازاة هذه الجماعة كانت هناك جماعة أخرى تتشكل في إيران، وتعمل على تقديم صياغة مختلفة لفهم معرفي، يفسر طبيعة المعرفة الدينية، ويشرح آلية فهم الدين وكيفيته، والتأشير على خصائص المعرفة الدينية بالمقارنة مع سائر المعارف البشرية، ودراسة أبعاد العلاقة بين المعرفة الدينية وباقي المعارف البشرية، والكشف عن أسباب تحوّل وثبات المعرفة الدينية على امتداد التاريخ. وكان رائد هذا الفهم المعرفي هو الدكتور عبد الكريم سروش، قد درس ذلك في كتابه (القبض والبسط النظري للشريعة) وعبر عنه بــ (نظرية تكامل المعرفة الدينية). وتستند نظرية تكامل المعرفة الدينية الى الأركان الآتية: 1- الدين والمعرفة الدينية أمران متغايران (وليسا متعارضين أو متضادين). 2- الدين ثابت، ولا يطرأ عليه أي تغيير أو تحوّل. 3- المعرفة الدينية إحدى أنواع المعارف البشرية. 4- المعارف البشرية مترابطة ومتداخلة مع بعضها. 5- المعارف البشرية متحوّلة ومتغيرة. 6- تحولات المعارف البشرية تكاملية، وليست تراجعية وسلبية. وحسب رصدنا المشهد الثقافي في العالم العربي وإيران والإنتاج الفكري الإسلامي بالعربية والفارسية في السنوات 1980 ــ 2008 وجدنا ان اتجاه (إسلامية المعرفة) في العالم العربي ابرز اتجاه يسعى لصياغة نظام معرفي من خلال محاولات وكتابات عديدة، وهكذا لاحظنا اتجاه (تكامل المعرفة الدينية) في إيران هو الأبرز والأشد إثارة، فما زالت النقاشات التي تجاوز بعضها الآداب العلمية مستمرة، حول رؤى وأفكار هذا الاتجاه، خاصة وان صاحبها يؤجج السجال ويغذيه، من خلال تلاحق أطروحاته في (التعددية الدينية) و(البسط في التجربة النبوية). التحيز والتمركز في المعرفة لا ريب ان إسلامية المعرفة واحداً من الموضوعات المحورية في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد نادى بها جماعة من الباحثين والمفكرين المسلمين في البلاد العربية وإيران وباكستان وماليزيا واندونيسيا وتركيا والولايات المتحدة، وأخذت عدة مؤسسات على عاتقها النهوض بهذه المهمة، وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية، لدراستها، وبرز تباين حاد بين موقف المناهضين لها ودعاتها، بحيث طغت في بعض الكتابات حالة تشهيرية غير علمية، وأضحى كل واحد يتهم الآخر بما يحلو لـه، وأسرف بعض الكتاب في اتهام جماعة إسلامية المعرفة، فاعتبروهم تعبيراً مقنّعاً للحالة السلفية، وجردوهم من أية أهلية للبحث العلمي، وتعاملوا مع الإنتاج الفكري الوفير والمتنوع في هذا الموضوع من منظور واحد، وحكموا عليه بجملته بالأحكام ذاتها، ولم يميزوا بين مستوياته المختلفة. وبغية التعرف على موقف علمي يتجاوز الأحكام العاجلة، ويدرس إسلامية المعرفة دراسة اقرب الى الإنصاف والموضوعية، ينبغي دراسة الموضوع من أبعاده المختلفة، ومحاولة الكشف عن منطلقاته في التراث والمعرفة الحديثة، والبحث في مرجعياته ومداخله المتعددة. ففي استقراء عاجل نجد أكثر من موقف حيال إسلامية المعرفة، ففي الوقت الذي يشدد فيه عدة باحثين على ضرورتها الحضارية والمنهجية، ويعتقدون بأنها سبيلنا الوحيد لتوطين وتبيئة علوم خاصة بنا، تتناسب مع موروثنا وهويتنا وعقيدتنا، وتتطهر من الرؤية الوضعية للعلوم الغربية، ترفض مواقف أخرى هذا الفهم، وتحسبه تفسيرا مبسطا للمعرفة الحديثة، ووسيلة من وسائل التعبئة الإيديولوجية المقنعة بقناع معرفي. وتجد الدعوة الى إسلامية المعرفة مبررها في ان العلوم الإنسانية لا يمكن سلخها عن محيطها الحضاري الذي ولدت في فضائه الخاص، كما انه ليس بوسعنا نفي تأثير العوامل الإيديولوجية والثقافية والتاريخية والجغرافية في صيرورتها وتشكلها، وبالتالي تصطبغ هذه العلوم بصبغة معينة، تغدو فيها متحيزة وليست محايدة، ذلك انها تتلون بلون المحيط، وما يسوده من رؤية كونية، وفهم وضعي للكون والإنسان والحياة، وحسب الدكتور عبد الوهاب المسيري، فإن علمانية العلوم التي ظهرت في القرن السابع عشر عملت على فصل العلوم عن المنظومة القيمية، ونزع القداسة عن كل شيء، وسحب الأشياء من عالم الإنسان، ووضعها في عالم الأشياء، ثم انتهت بسحب الإنسان من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء، وبذلك يسود منطق الأشياء. ويحذر الدكتور حسين نصر من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو الى الاهتمام بالعلم المقدس، والمزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي. لكن الدعوة الى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الإبهام، ولا تخلو من هجاء ونفي لكل ما هو غربي، ويتمدد فيها مدلول المقدس، فيستوعب التراث، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مدلول يستقي مرجعياته من آثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب. اما محاولة تحرير المعرفة من التحيزات والرؤية الوضعية، فإنها بمقدار توظيفها الأطر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تفسير تأثير العوامل المادية في المعرفة، تتورط في تحيز من نوع آخر، عندما تتحول المقولات التراثية النسبية لديها الى مقولات مطلقة. ان التعاطي النقدي مع المعرفة الحديثة، والذي طالما أضحى موقفا هجائيا، يتوارى خلفه موقف تبجيلي يغيب فيه النقد إزاء التراث، فلا نعثر على دراسات نقدية جادة للتراث لدى الإسلاميين، بينما تتراكم الكتابات في نقد الغرب وهجاء حضارته وقيمه وعلومه، بلا تمييز بين وجوه الغرب «الحضاري، والمعرفي، والتقني، والثقافي، والتاريخي، والسياسي، والاستعماري». وربما كانت وحشية الغرب الاستعماري، والتاريخ البربري للامبريالية، في التعامل مع عالمنا، وكذلك ظهور النزعات المادية والعبثية في الاتجاهات الفلسفية والأدبية والفنية، هو الذي اسبغ على العلوم الحديثة الصورة الاستعمارية، وعدم التفكيك بين العلم والوجه الامبريالي العنصري للغرب. وتظل المعطيات الحديثة في العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، والعلوم البحتة، أهم مكاسب العصر، وكل ما أنجزه الغرب من تقدم ورفاهية انما هو ثمرة لامتلاكه العلم الحديث، ومثابرته المتواصلة على تنميته وتطويره، بينما يقبع في نفق التخلف من يفتقد العلم، ويبقى على هامش حركة التاريخ، مستهلكا ما ينجزه غيره. وليس هناك من سبيل للخروج من نفق التخلف إلا بمواكبة أداء العلم، وملاحقة الإبداع البشري المستمر في جميع حقول المعرفة، والتخلص من حالة الوجل والحساسية في التعاطي مع المعارف الراهنة، تلك الحالة التي تترسخ كل يوم في مجتمعاتنا، بسبب طائفة من الشعارات التعبوية والسياسية، والتباس مفاهيم (الغرب، والتغريب، والغزو الثقافي، والاختراق الثقافي، والغزو الفكري، والتبعية الفكرية، وغيرها)، والتندر بالعلوم الإنسانية الجديدة، وعدم إدراك أهميتها، ودورها في دراسة المشكلات الاجتماعية، وقدرتها على تفسير الكثير من الظواهر، واكتشاف النسيج المعقد للأزمات، ومعرفة العوامل المولدة لها. ان ضرورة استيعاب المعارف الراهنة واحدة من البداهات التي لا جدال فيها، لكن تحقق ذلك منوط بدراستها دراسة تحليلية نقدية، وهذا النمط من الدراسة يفضي الى استيعاب المعارف استيعابا نقديا، وهو شرط لازم لبناء أرضية الإبداع الذاتي، والمساهمة في إنتاج المعرفة. كما يجب دراسة التراث، والتوغل في مداراته، وغربلة مكوناته، والعمل على فهمه وتمثله، من دون الوقوع في أسره، والحذر من الانخراط في رؤيته، أي محاولة استيعابه استيعابا نقديا، وهذا هو الشرط الثاني للمساهمة في انتاج المعرفة، أما التعامل مع التراث بأسلوب يفتقر الى نقده وتفكيك عناصره، فإنه سيقودنا للهروب الى الماضي، والدخول في متاهات تبعدنا عن العصر، كلما توغلنا في عوالم التراث. ان غياب الموقف النقدي من التراث، وشيوع الوفاء التاريخي، وطغيان الحالة التبجيلية عند الجماعات السلفية، لكل ما يمت الى الماضي، من سلاطين، وصراعات، وفنون، وآداب، وعلوم، ومعارف، ورموز، ورجال، وعدم القدرة على إدراك التشوهات، والعاهات، والثغرات، والانتكاسات، في الموروث، نجم عنه انسداد الآفاق النقدية، وإحضار الماضي كما هو، وسطوته على الوعي، وإعاقته التفكير، وبالتالي العجز عن مواكبة متغيرات الحياة. ان الاحتماء بالتراث، واتخاذه ملاذا ابديا، واللجوء اليه في كل واقعة من وقائع الحياة، كفيل بأن يحوّل التراث من ملاذ الى سجن، ومن كهف الى نفق، أو بئر، يحجب من يحتمي به عن الحياة، ويغيبه عن العالم، ويمنعه عن المشاركة في صناعة التاريخ. أدلجة المعرفة وتديينها نخلص مما مضى الى ان دعوة إسلامية المعرفة تحيل الى تحيز وتمركز المعرفة وتنوع هوياتها ، وتثير هذه الدعوة سلسلة من التساؤلات التي يمكن إيجازها بما يأتي: 1- بينما تشدد إسلامية المعرفة على انها ترتكز على تحرير المعرفة من التحيزات والتمركزات والمواقف النسبية الارتيابية، تتورط هي في نسبية من نوع آخر، عندما تتحول لديها الابستمولوجيا الى ايديولوجيا، فبدلا من معرفة لادين لها، يغدو للمعرفة دين، بل تتوحد المعرفة مع الدين، وتنصب الجهود على تديين المعرفة، أو أدلجتها، وبالتالي تحيزها وتمركزها، فما الذي تعنيه الوثوقية والجزمية في أفكار ومقولات اسلامية المعرفة، وغياب الجرأة في إعادة النظر فيها أو مناقشتها ومراجعتها ونقدها؟

 2- لماذا يتجاهل مشروع إسلامية المعرفة الأطر الايديولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمعرفة التراثية بالخصوص، ويعمل على تعميم الأفكار والمفاهيم التراثية المنتجة في البيئة الإسلامية، وتأييدها لجميع العصور والأزمان، بالرغم من انها معرفة بشرية مشتقة من فضاء حضاري وثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي خاص بها، بينما يذهب الى تحيز ونسبية ومحدودية المعارف والعلوم البشرية المنتجة في بيئات اخرى، ويشدد على عدم إمكان سلخها عن محيطها الحضاري الذي ولدت في فضائه؟

3- ألا يفضي تجريد العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة من مناهجها وأدواتها ولغتها ومعاجمها الاصطلاحية ومرتكزاتها، الى نفيها وتفريغها من محتواها، وبالتالي ستنتهي عملية أسلمتها الى تناقض منطقي، باعتبار ان ماهية العلم تعني موضوعه، وان تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها كما قرر المناطقة من قبل، فإذا جرى تغيير موضوع العلم وأدواته ومناهجه يتغير محتوى العلم وينتفي، وان أسميناه بنفس الاسم السابق؟

 4- حين يصرح دعاة إسلامية المعرفة بان العلوم والمعارف لا تنطبق الاّ على حالة معينة وجغرافيا بشرية وثقافية محددة، وهوية خاصة، فانهم يجردون المعرفة من طبيعتها العامة الشاملة، أي ان المعارف والعلوم تتعدد وتتنوع لديهم تبعا لتنوع الهويات والخصوصيات الحضارية، لكنهم لا يتنبهون الى ان هذه المقولة تستبطن نفي ذاتها، اذ كيف تكون جميع المعارف محلية نسبية منبثقة من بيئتها، ما خلا (إسلامية المعرفة) فهي مستثناة من ذلك، أي انهم عندما يرفضون شمول المعرفة وعمومها، ويتنكرون الى ان المعرفة بحد ذاتها (حتى في العلوم الاجتماعية) لا هوية لها، فإنهم يفترضون معرفتهم ومقولتهم فقط عامة، شاملة، لا موطن لها. الا تنطوي هذه الدعوة على غموض والتباس، بل مفارقة وتناقض؟

 5- ان العلوم الحديثة تنبثق عن رؤية كونية جديدة، وهناك فارق شاسع بين الرؤية القديمة والحديدة، بنحو لا يمكن القول ان العلم الحديث يمثل تواصلا للإرث العلمي القديم، فقد انبثق العلم الحديث من رؤية الإنسان البديلة للطبيعة والكون والإنسان والحياة، وهي رؤية مغايرة لما مضى. لقد تجلت الطبيعة للعلماء في العصر الحديث بشكل مختلف، كما قال غاليلو: بأن الإله دوّن هذه الطبيعة بلغة الرياضيات، ولا يمكن لغير العارف بها ان يطالع كتاب الطبيعة. ان الباحث الحديث اكتشف طبيعة أخرى، كتبت بلغة ثانية، فعمد الى إتقان تلك اللغة، واستطاع قراءة الطبيعة، وحقق ما نراه من مكاسب معرفية. كان انسان الماضي يرى نفس هذه الطبيعة، لكنها كانت تتجلى له بلغة أخرى، بلغة الميتافيزيقيا، التي كان يقرأ بها الطبيعة، لذلك لاحظ فيها أهدافاً وغايات ومعطيات أخرى، الطبيعة واحدة لكن حاول كلا الطرفين ان يكتشفها، وتجلت لكل منهما بصورة خاصة، والتحول الذي طاول الرؤية الى الكون هو الذي أدى الى ظهور العلم الحديث، وقد تجسدت العقلانية الغربية بالمضمون ذاته، فحققت نتائج علمية وحياتية تدركها جميعا، أذن كيف نستطيع بناء منظور علمي حديث للطبيعة والكون والإنسان، مادمنا ننهل من الرؤية الكونية التراثية التقليدية؟

 6- هل تمثل إسلامية المعرفة عملية تعويض نفسي للمسلم، في عالمنا المعاصر، الذي لم يساهم المسلم في مكتشفاته واختراعاته ومكاسبه العلمية والمعرفية، فيتوهم عبر ذلك انه ممن أنجزوا العلم الحديث، وساهموا في إنتاج المعارف الحديثة؟

 7- أليست المحاولات المكرسة لتحليل ومراجعة ونقد التراث في أعمال إسلامية المعرفة محدودة جدا، بينما نرى في طائفة من الكتابات الصادرة عن دعاة إسلامية المعرفة اسرافا بتبجيل التراث، ومديح أعلامه، وهجاء العلوم الانسانية الحديثة، مع ان مثل هذا الموقف يحجبنا من التعاطي مع هذه العلوم واستيعابها، وتطويرها وترشيدها، كما ان الموقف النقدي من التراث يحررنا من الاستسلام لمشاغله ومداراته وقضاياه وهمومه، وبالتالي نتحرر من سطوته كمعيق للتفكير الخلاق المبدع؟

 8- لماذا تتخذ آثار ابن تيمية مرجعية شاملة لجماعة من الباحثين والدارسين المهتمين بإسلامية المعرفة، بالرغم من ان آراء ابن تيمية في العقيدة والتفسير وعلوم القرآن والفقه وغيرها، انما هي آراء خلافية، وقف منها طائفة من العلماء في عصره والعصور اللاحقة موقفا رافضا، بل مناهضا، فهي فضلا عن تاريخيتها وتعبيرها عن عصرها، لم تكن موردا للقبول العام. 9

- أليست (إسلامية المعرفة) قضية فلسفية ترتبط بالابستمولوجيا وفلسفة العلوم في المرتبة الأولى، كما ترتبط عضويا بمباحث نظرية المعرفة، غير ان الدراسات التي يكتبها دعاة هذه القضية لم تقاربها من منظور فلسفي، مضافا الى عدم استيعابهم النقدي لآثار الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء والمتكلمين والمناطقة، مع ان ميراثهم يشتمل على آراء تتسم بالغنى والتنوع في تفسير طبيعة المعرفة، ومصادرها، وقيمتها. وربما كان الاستسلام للموقف التراثي السلبي من الحكماء والمتكلمين والمتصوفة والعرفاء، هو الذي حال بين هؤلاء وصياغة رؤية حيال هذه المسألة البالغة الأهمية. فهل إسلامية المعرفة قضية فلسفية من دون مضمون فلسفي، وقضية ابستمولوجية من دون مضمون ابستمولوجي، وقضية معرفية من دون مضمون معرفي؟

 10- لماذا تغيب المراجعة النقدية لأفكار وتجربة إسلامية المعرفة، بينما تفترض إسلامية المعرفة انها مشروع نقدي يراجع التراث ويغربله، ويدرس الفكر الغربي وينقده، وهي لم تعمل على نقد إنتاجها، ولماذا لم يبادر المعهد العالمي للفكر الإسلامي بمراجعات نقدية حرة وجريئة لأفكاره ومقولاته ومشاريعه وبرامجه وإصداراته، لكي لا تتغلب عليه الحالة السكونية السائدة في أدبيات وفكر الحركات الإسلامية في القرن العشرين، وكيما يظل فكره ورؤاه في صيرورة أبدية، يتغلب فيها الصواب، ويتعمق المنحى العلمي الموضوعي.

 11- أيصح القول ان إسلامية المعرفة ما هي الاّ محاولة تهدف الى هيمنة الإسلاميين على ما تبقى من معطيات للعقل والخبرة البشرية، بعد هيمنتهم على معظم الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة، بمعنى ان إسلامية المعرفة حيلة فكرية لجماعات الاسلام السياسي، تسعى الى احتكار الحياة العلمية والفكرية والثقافية، واستبعاد الآخر من الميادين كافة؟

 12- لماذا لم تتشكل حتى اليوم النواة الجينية لعلم اجتماع اسلامي أو علم نفس إسلامي أو علم اقتصاد إسلامي.. الخ، بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على هذه الدعوة، ومعظم الكتابات لم تتبلور فيها رؤية نظرية واضحة حيال هذه العلوم، فضلا عن عدم انجاز أية محاولة جادة لصياغة وبناء علم إسلامي من العلوم الاجتماعية؟

 13- بالرغم من وفرة الإنتاج الفكري في الحوزات العلمية في النجف الأشرف وقم وغيرهما، وبالرغم من تنوع وغنى الأفكار الخلافية التي يزخر بها راهن التفكير الديني في الحوزات العلمية، غير ان المعهد العالمي للفكر الإسلامي لما يزل بعيدا عن ذلك، مع العلم ان فكرة (إسلامية المعارف والعلوم) واحدة من أبرز المسائل إثارة وأكثرها مناقشة، حيث يدافع المحافظون عنها، ويعملون على صياغة تصورات ورؤى وتبريرات بشأنها، عبر مؤسسات متخصصة في ذلك، بينما يناهضها المفكرون الاصلاحيون ويذهبون الى انها تستبطن تهافتاً وتناقضاً منطقياً وخداعاً.

 14- كنت أتمنى ان يتواصل المعهد العالمي للفكر الإسلامي مع المحاولات المبكرة لأسلمة المعرفة لدى السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين الطباطبائي، وتلميذه الشيخ مرتضى المطهري، ود. محمد نقيب العطاس، ود. سيد حسين نصر، و محمد أبو القاسم حاج حمد.. وغيرهم. مثلما كنت آمل ان يتسع صدر القائمين على المعهد باستيعاب بعض آثار أولئك المفكرين في إصداراتهم.

 15- لماذا تهمل في مشروع إسلامية المعرفة مباحث فلسفة الدين، التي تعالج ماهية الدين وحقيقته، وجوهر وصدف الدين، والذاتي والعرضي في الدين، ومجالات الدين وحدوده، وما يترقبه الإنسان من الدين، والعلاقة بين شمول الدين وكماله، بمعنى هل يمكن ان يكون الدين كاملا وافيا بغاياته وأهدافه الخاصة في الحياة غير انه غير شامل للحياة.. ولماذا لا تهتم بالاتجاهات الجديدة في قراءة النص، وتتعاطى مع الهرمنيوطيقا الحديثة وأدواتها في تفسير النص.. وأين موقع التجربة الدينية في مباحثها؟

16- هل يمكن تحديث التفكير الديني من دون السعي لتحديت علم الكلام وفتح باب الاجتهاد في أصول الدين، والسعي لصياغة ثيولوجيا تتحرر من مقولات اللاهوت التقليدي، الذي كرس صورة مرعبة للإله، مشتقة من نموذج الطغاة والخلفاء والسلاطين الجبابرة، والعمل على بناء علم كلام جديد، يصوغ لنا صورة رحيمة للإله، تخلصنا من العلاقة الصراعية المأزومة بين الله والإنسان، وتنقلنا الى نمط علاقة حميمي شفاف، يقوم على المودة والشفقة، ويستقي من روح العشق والمحبة، كما نرى في آثار وتجارب المتصوفة والعرفاء، ذلك ان الإنسان لا يستطيع ان يود إلهاً مرعباً؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1230 الاثنين 16/11/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم