صحيفة المثقف

ليلة.. أن تكون مواطنا من الدرجة الأولى.. شهادة

لأنه ببساطه قلق لايشبه قلق الناس الذين يعيش بينهم، حيث رمته أقداره للعيش " هناك".

 بين" الهنا" الذي تجذّر بقلقها وبين " الهناك"، قلق يتجاوز الوجود حتى يصبح أحيانا وعند البعض وسواسا قهريا،مرضيا. أسوق هذه السطور وأنا انظر الكائن المقتلع طوعا أو كرها من جذوره، وهو لا يعرف حقا هل يفرح أم يحزن؟ ليلة أن تمنحه حكومة الدولة التي جاء اليها، الجنسية الوطنية.. نعم.. الجنسية التي بها سيكون مواطنا من الدرجة الأولى، له ما للقوم وعليه ما عليهم.. له حقوق معلومة وواجبات مفهومة.

أتراه يفرح؟.

 طبعا، لأنه جاء لهذا الركن من العالم وهو شاب يزهو بشبابه، وسوف تكون أيامه الوفيره وسنينه الآتيات ضرعا سمينا، وسقفا يقيه حر الصيف وبرد السؤال من الآخرين، ستكون الجنسية بلا شك سياجا منيعا ودرعا حصينا، انها التعويذة الأكيدة في مغامراته التاليه...

 أتراه يحزن؟

ربما... لأنه أتى النعمة من خاصرتها، عندما تصلبت شرايننه بالكوليسترول ودمه أمتزج بداء السكر، وطال قلبه العطب الجزئي.. فهو مع هذه النعمة لايقوى على التلذذ بها، ولعمري تلك مصيبة لا تدانيها،إلا مصيبة لعنة هجر الأوطان والدهر والخلان.

آخرون مطمئنون لقدرهم، وكأنهم حفظوا درس الشيخ "بن خلدون " في ولادة وعزّ ونشوء وتدهور الحضارات، فآستكانوا للعيش في الحال، وغضوا الطرف عن المحال.

أما أنا، ولا أعوذ بالله مني، فقد كنتُ متأبطا رسالة الدعوة التي وصلتني من بلدية منطقتي، وإجازة سوق " اي والله.. إجازة السوق التي حصلت عليها، لأنها هنا في استراليا تساوي ثقل عشيرة شهود في بلداننا في إثبات هويتك المادية والرمزية معا ".

الرسالة تدعونا برجاء حميم للحضور الى مقر البلدية في الساعة السابعة مساءا لتسلّم جنسيتنا الأسترالية. بعد أن إستوفينا الشروط اللازمة للحصول على الجنسية، ومنها العيش في البلد لمدة سنتين متواصلتين، واجتياز امتحان لإختبار المعلومات عن البلد الجديد "استراليا" تاريخا وجغرافية وسياسية وحقوق وواجبات.. الخ، وبعده إجتياز المصادقة الأمنية على وضعك كأنسان سوي غير مرتبط بسوابق أمنية.

لم يكن المقر البلدي ببعيد عن داري، وصلنا، أنا مع زوجتي وبناتي الاثنتين نور وشمس واخوهن المدلل " ديفيد سراج" الذي سبقنا الحصول على الجنسية الاسترالية بحكم الولادة،

 في الوقت المحدد تماما وبأحلى صورة كنّا، حتى إننا سبقنا الضيفة التي دعوناها لحضور الحفل معنا وهي سيدة إسترالية تدعي" مارغريت" وهي المتطوعة التي تعلّم زوجتي اللغة الانجليزية في البيت أثناء فترة انقطاع زوجتي عن الدراسة بسبب الحمل والولادة، وقد استغربنا لإنها حضرت وحدها، ودون زوجها، رغم إننا نملك الحق القانوني لدعوة ضيفين، لكنها علّلت الامر، بأنهم لا يستطيعون ترك الأولاد لوحدهم ! " ونحن نعتقد أنهم مجتمعات مفككة وخالية من أوكسجين الحنين وحليب الأمومة الكامل الدسم، أو سطوة الأب الشرقي "!!!

 دخلنا الباب الرئيسي حيث لجنة الإستقبال المؤلفة من سيدتين بلغتا سن الحكمة بكثير، وهن يرحبن بنا ويقدمن الهدايا لأطفالنا ولنا أيضا، ولم يخطئوا في أيّ شيء، أعطونا البرنامج وكل المعلومات التي سوف نشهدها في الحفل بما فيها ملاحظة دقيقة جدا، وهي انني سُئلت فيما أذا أرغب أن أردد القسم على إيّ" كتاب مقدس" أؤمن به، فقلت لهم إننا لا نحبذ هذا، نريد أن نردد عهد الولاء دون أيّ إلزام ديني، فوجدت ووفق لرغبتنا هذه قد وضعونا مع مجموعة إخرى ولم نضطر للقسم أو نكون تحته..، كلّ شيء مرتب ومنظم ولا هفوة واحدة في رقم او أسم... هنا تذكرت طريفة صاحبي العراقي الذي روى لي قصة حصوله على هوية الاحوال الشخصية " الجنسية العراقية"، ولكن المعلومات تقول:

 الديانة :: بلا

العلامات الفارقة : مسلم !!

مفارقات كبيرة ومضحكة حتى أن المهنة تتبدل و يصبح الرجل ربة بيت... وهكذا.

وتذكرت أيضا طرفة عن تبدّل الأحوال والهويات، ساقها الممثل الكويتي الشهير عبد الحسين عبد الرضا إذ قال: " نمت كويتي وأصبحت عراقي " آبان غزو النظام الصدامي للكويت في عام 1991.

لكن الذي أمضى كالسهم حقا في ذاكرتي وأنا وعائلتي نحظى بفرصة التصوير مع ممثلة ملكة التاج البريطاني، التي بدت متواضعة وودودة جدا، " هو أنني تذكرت أهلي في العراق وخصوصا من الكرد " الافيلية " وانا لست منهم قوميا ولا مذهبيا،ولكنني أتابع مأساتهم في قضية الذين هجروا من قبل النظام البائد عن طريق التلفزيون العراقي الذي ينقل وقائع محكمة المسؤولين العراقيين في النظام السابق عن هكذا جرائم. حقا كان أحد قادة النظام السابق يتمتع بقباحة وبشاعة غير معقولة تماما، عندما سأله القاضي عن سبب تهجير الناس من أوطانهم وهم يقطنون العراق قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعقود، فأجاب ببرودة قاتل محترف : انهم متأمرون !! فقال له والاطفال والنساء، فقال : هم ايضا !!!، لم ازل أحمل في ذاكرتي صورة للعوائل لتي هُجّرت عام 1969 بحجة أنها من التبعية من الإيرانية، وتوالت هجرات الوطن اللافظ لابنائه، لم تزل شهادة أحد أبناء " الاكراد المهجرين " تطنّ في أذني وتوخز كل ضمير حيّ،عندما قال:- سيدي القاضي عائلتي تسكن العراق منذ 100 عاما ونحن عائلة معروفة في بغداد، جدي قاتل مع الجيش العراقي في حروبه الغابره واستلم ابي الراية وهم يمتلكون الجنسية العراقية منذ العشرينات والثلاثينات واخرها جنسية عام 1957، والتي كان يعتمدها النظام العراقي السابق في صلاحية الكائن العراقي للعيش والسكن في بغداد، واخوتي كلهم من يمتلكون شهادات عالية في الطب والهندسة وهم يعيشون الآن في دول متعددة معززين مكرمين !".نعم عوائل عراقية القوا بها صوب الحدود الإيرانية المزروعة يومذاك بالألغام القاتلة.. يسير العراقي الى حتفه مرتين : مرة حينما قتلوا فيه عراقيته وأخرى حين يتيه في حقول الالغام. هل سمعتم بشاه تذبح مرتين؟ بأيّة شريعة يموت العراقي في مدار التيه، وكأنه على موعد أزلي مع قدره.... منذ إسطورة الخليقة البابلية، ونحن ماضون للبحث عن نصفنا الآخر دون جدوى.

تذكرت حال الإنسان في خليجه العربي وهو يعامل بصفة " بدون" اي غير حامل الجنسية وكمواطن من الدرجة العاشرة !!، تذكرت الانسان في صحارينا المغربية والمشرقية وهو يكافح للحصول على هويته كأنسان، في أفريقيا يموت الناس كما تتهالك الجراد،  في فلسطين يموت الفلسطيني وحلم الدولة الوطنية ما زال سرابا. في كهوف وسجون وزنازين العرب، جيوش من البشر لم تتلمس الضوء بعد، تحلم بنهار يطلّ على قاماتهم الرطبة. تذكرت سكان أمريكا الاصليين " الهنود الحمر".. يا لذاكرتي المعبأة بألوان القهر

.....

 

دخلنا القاعة المخصصة للإحتفال بنا " نحن القادمون من الأقاصي والأصقاع والشتات". جلسنا ننتظر أقراننا من الذين حصلوا على ذات الفرصة،إكتمل العدد، وفي تمام السابعة والنصف بالضبط بدأ الحفل وكما خُطط له، وأصبحنا مواطنين استراليين بعد أن تناوب على تنفيذ فقرات الحقل بعض المسؤولين رجالا ونساءا وبكلمات مقتضبة جدا، لا تذكركَ بخطب قادتنا العصماء والمليئة بالفحولة الفارغة ! إستلمنا شهادة الإقرار بجنسيتنا الأسترالية وصار لنا القدح المعلى، والرفقة مع ممثلة التاج البريطاني ورئيس الوزراء " وكلنا استراليين ". قلنا معا "

From this time to forward, I pledge my loyalty to Australia and its people, whose democratic beliefs I share, whose rights and liberties I respect, and whose laws I will uphold and obey"" ومفاده بالعربية " من الآن والى المستقبل، أتعهد بوفائي الى استراليا وشعبها الديمقراطي المعتقد، وأن أحترم حقوقي وواجباتي، وأن أصون وأطيع القانون". لم يكن هناك ما يشير الى قائد أوحد لابد لنا أن نصفق له ولا حزب قائد ننذر انفسنا له، ولا وطن نتعهد بالموت دونه "، رغم أن القوم لهم ما يتباهون به طوالي المئتين عاما من تأسيس بلدهم.

 تذكرتك بيت شعر لشاعر عراقي يصور وطنه " وطن تشيّده الجماجم والدم... تتهدم الدنيا ولا يتهدم "!!

 هتفنا معا بحياة أستراليا ورردننا النشيد الوطني الأسترالي الخالي من الدم والجماجم والحروب، وقلنا لبعضنا في انكليزية مفككة ومكسرة وحسب إجتهادنا.. كلمة واحدة " كونجراجليشن".. تعني مبروك.."Congratulation"

الله كأن عبئا ثقيلا ازحناه معا نحن القادمون من اصقاع العالم " من الملكة المتحدة، واعني بريطانيا، جنوب افريقيا، البرازيا، الهند، ماليزيا، ايطاليا،كمبوديا، ايران، سنغافورة، نيجيريا،،ميانمار، الصومال، اثيوبيا، الصين، اليابان، زمبابوي، ودول افريقية صغيرة.. وكنّا العائلة العراقية الوحيدة في الحفل، خرجنا ونحن نتساوى مع أعرق استرالي في الحقوق والواجبات، خرجنا ونحن محميّين بجنسية وجواز سفر يبدو لي أن الجميع كان بحاجة اليه

خرجنا ولنا الحق الآن أن ننتخب من يمثلنا في قيادة المجتمع الأسترالي. يالله لماذا لا يحصل "الكردي الأفيلي"، والذي كان مُحَاربا من قومه بسبب المذهب وصار مطاردا من السلطة لا لذنب إرتكبه؟ والعربي والعراقي المتهم بإصوله الايرانية في العراق سابقا على جنسية العراق ولو عاش الدهر كلّه فيه!!!!

وانا بعد مرور سنتين صرت مواطنا، وربما ساكون رئيسا لوزراء استراليا بعد سنوات ليس كثيرة... أو شاعرها الذي يحمل " جائزة نوبل " بوصفه استرالياً من أصل عراقي...

وهذا التقليد الجميل والإنساني، لا ينسحب على البلدان دائمة الهجرة فقط بل على أعتى المتروبلات العالمية كباريس ولندن وغيرها.

 

الهروب من الهوية والآحتماء بالجنسية

في مئة سنة لا يستطيع "الكردي الأفيلي" الحصول على الجنسية العراقية !!؟، قبل التاريخ الميلادي والهجري بقرون، سكن العراق، السومريون والبابليون والأكديون والآشوريون، وهم الآن في الشتات يبحثون عن سقف إسمه وطن!!!!

في العالم اليوم والذي نسميه " قرية صغيرة" لابد من فض الإشتباك بين الهوية الإنسانية بإطارها الكوني الشامل وبين الهويات الجزئية " وطنية، قومية، إثنية، عرقية، طائفية، مذهبية، آيديولوجية.. الخ"

لابد أن نفكر تماما بالانتماء الى الهوية الأشمل لأنها بالتأكيد شاملة وممثلة للهويات الجزئية.

فما معنى أن تكون مواطنا عراقيا وأنت مازلت تكافح عبثا لاثبات هويتك العراقية لصد خروقات يعتقدها البعض سبّة وتهمة تمنحه الفرصة الكاملة للانتقام منك كعراقي ناقص الأهلية الوطنية.

وتلك علّة لا شرقية ولا غربية، بل تطال زوايا العالم بأسره.

 الحكومة الاسترالية مؤخرا أعتذرت بشدة من المواطنين " الابورجينيين " للظلم الذي لحق بهم من جراء سياسات الحكومات السابقة، رغم أن استراليا بلد متنوع الثقافات والأعراق ويصل عدد الثقافات فية الى 150 هوية ! ولكن الجميع يعيشون تحت شمس استراليا ووفق لقوانينها كمواطنين من الدرجة الاولى.

" بالمناسبة إن تعبير مواطن من الدرجة الاولة لا وجود له في دساتير الدولة المتحضرة ومنها أستراليا، بل هو من اختراع ذهنيتنا المكبلة بالدرجات الوظيفية والعبودية والتراتبية، التي إنسحبت على هويتنا كبشر قبل أي شيء اخر "

لذا فأن الهروب من الهوية الضائعة بين الوطنية والعرقية والدينية والمذهبية..الخ.. الى محاولة الحصول على جنسية وطن ما يمثل في رأيي حلا معقولا للانتماء الى مجتمع متعدد ومنفتح لتقويم الحياة الانسانية.

......

الفقرة الاخيرة في الحفل المسمى " citizenship ceremony " كانت تناول بعض المأكولا ت البسيطة والحلويات، وقد أثار إنتباهي دقة تقدير وأحترام القائمين على الاحتفال بالخلفيات الدينية والعادات والتقاليد لكل واحد منا " نحن الذين أصبحنا استراليين الآن".

هناك سندويشات بلحم الخنزير واخرى بلحم البقر وثالثة تخلو من اللحوم إحتراما " للنباتيين"

وكلّ شيء على ما تشتهي النفس " الأمارة بالسوء".

كلنا صرخنا بحب مرحبا بجنسيتنا الجديدة، رغم وضوح ملامحنا الوطنية الأصلية.. حتى أن " ضيفتنا الاسترالية " مارغريت" تعاملت معنا حقا كأستراليين كاملي الأهلية والصلاحيات، إذ ترجونا المشاركة في الاستفتاء الذي تقوم جهة أسترالية حول التوقيت الشتوي ومدى ضرورة العمل به..

يالله.. صرنا نشارك القوم تفاصيلهم الدقيقة ! والجنسية هي شفعيتنا في ذاك.

كم سيكون الأمر مريحا لنا في السفر والتطواف الى العالم كلّه لمجرد إننا نحمل الجواز الأسترالي. كم تحملنا الذل والإذلال سهوا أو عمدا بسبب جنسيتنا الوطنية وجواز سفرنا الوطني..

نحن إذن لا نهرب من وطن لأنه وطن.. بل نحتمي بجنسية وجواز تسوّر أرواحنا بالطمأنينة والسلام، وتحفظ أجسادنا من آفة الهتك والاستهتار والوصايا والمحرمات...

لا نهرب من ثقافة ولا من لغة ولا من لسان.. نحن نكسر أضلاع قفصنا الصدري، ونحصي آعوجاجّنا في " الحوّات" اللواتي كنّ كقارب مثقوب.. يلدن الأبناء ليذهبوا الى الحروب.. ينتظرن الأحفاد كي يرجعوا من الحروب...

حروب في حروب

......

تبادلنا الهدايا ونمنا لنصبح أستراليين !!!!!

يالله، متى ينام الكائن ليصحو على عش لا يفارقه....؟

يالله.. قلّ لهم أن يكفوا عن العبث بطينتك الأولى، ألم تخلقه على صورتك؟

ألم تخلقه في أحسن تكوين؟

نمنا وأحلامنا تطاردنا الى "هناك" ونحن "هنا"

فمتى نستفيق حقا على" هنا" أو "هناك" يشبهنا تماما؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1065  الاثنين 01/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم