صحيفة المثقف

قراءة نقدية في قصيدة حُـلـم ولا أبهى للشاعر يحيى السماوي

hyam qabalanأشْرَكتُ فيك ِ .. ولسْتُ بالمُتأثّـم ِ

فالشِركُ في الأحلام ِ غيرُ مُحَـرَّم ِ

خاط َ الكرى جَفني ونادَمَ مُقلتـي

حُلُمٌ بمِثـل ِ نعيمِـه ِ لـم أحلـم ِ

حُلمٌ وددتُ العمرَ فـي فردوسِـه ِ

لا صحوَ إلآ حين يُنصَبُ مأتمـي

يَمّمْتُ حزمي نحو شرفـةِ بيتِهـا

بعفافِ قِدّيـس ٍ وشـوق ِ مُتيّـم ِ

وجنوح ِ مخبول ٍ وحكمة ِ عاقِـل ٍ

وبعُسْر ِ محروم ٍ ويُسْـرِ مُنعَّـم ِ

فوجدتها بين اثنتين ِ ... عرفتهـا

من عِطرِ أنفاس ٍ ومِعْضدِ مِعصَم ِ

ومن انزلاق ِ لحافِها عن خصرها

فرط َ المَلاسَة ِ دون باقي النّـوَّم ِ

ذُعِرَتْ فأطبَقَ فوق زنبق ِ ثغرهـا

ثغري فلم تصـرخْ ولـمْ تتكلّـم ِ

وسّدْتُها صدري بحضن ِ سحابـة ٍ

هَرَبا ً بها بين الثـرى والأنجُـم ِ

وغسلتُ بالقبُلات ِ مَهْبَط َ جيدِهـا

غسْلَ الندى للورد ِ غيـر ِ مُلثّـم ِ

معصومة ُ النهدين ِ لـم يلثمْهمـا

إلآ حريرُ الثوب ِ فـوق المِحْـزَم ِ

أثِمَ القميصُ فكـاد يجـرحُ وردة ً

حمراءَ أنضرَ من خدود ِ البُرعُـم ِ

فرّتْ يدي رغما ًعلـيّ ومَسّـدتْ

ياقوتة ً .. لكنْ : بعِفّـة ِ مُحْـرِم ِ

وشمَمْتُ ريحانا ً وعِطرَ سَفَرْجَـل ٍ

ففمي وقلبـي يمرعـان ِ بمَغنَـم ِ

لو تعرفُ الزهراءُ شوقَ ظميئِهـا

لرحيقِ كأس ِ زهورها لم تفطِـم ِ

بخلتْ وتدري أنّ خبـز سطورِهـا

زادي بصحن صبابتـي وتهَيُّمـي

دخلتْ بساتيني فأنْضَـجَ خطوُهـا

التينَ والزيتونَ قبْـل الموسِـم ِ !

قدسيّة َ العينين ِ ناسِكـة َ الفـم ِ

رفقا ً بسادِنِك ِ الأسير ِ المُغـرَم ِ

لا تحـذري نـاري فـإنَّ لهيبَهـا

لا يسْتَطيـبُ ضرامُـهُ إلآ دمـي

خَطَبَتْكِ أعماقي فحاضـرُ مَهْرِهـا

قلبي وأحداقي .. وغائِبُهـا فمـي

إنْ تطلبي الرُّطَبَ الجنيَّ وشهـدَهُ

هزّي بمبسمِك ِ المُطَيَّب ِ مبسمـي

النارُ جائعـة ٌ .. فهـلْ أطْعَمْتِهـا

أشواكَ أمسي في الزمان ِ الأقدم ِ ؟

زفَّ الهوى قلبي إليك ِ فزغـردتْ

روضٌ وباركت ِ الطيـورُ ترنّمـي

لا توصدي المحرابَ عن مُتبَتِّـل ٍ

والنهرَ والينبوعَ عن صَبّ ٍ ظمـي

قد جئتُ منهلَكِ العذوبَ مُضَرّجـا ً

بالجمر ِ رفقا ً بالظميء المُسْلِـم ِ

حسبي حججتُ فهل يجوز لناسِـكٍ

صلى الوداعَ بغير شِربة ِ زمزم ِ ؟

***

يحيي السمـاوي

 

يحيى السماوي الشاعر القدير المحلّق بين حلم وأرض،، تحايا لهذه الزمهريرة الحبلى برائحة امرأة وبحجّ ناسك متبتّل، يهوى الجمال والنار مستعرة، وها هي القصيدة تولد من رحم المأساة، من "رحم الحلم" الخالي من الخطايا،، والسؤال الذي يراودني : هل يحاسب الشاعر على آثامه وخطاياه في الحلم ؟؟

أشْـرَكتُ فيك ِ .. ولـسْـتُ بالـمُـتـأثّم ِ = فالـشِركُ في الأحلام ِ غـيرُ مُـحَـرَّم ِ

 

خاط َ الكرى جَفـني ونادَمَ مُـقـلـتي = حُــلُــمٌ بـمِـثـل ِ نـعـيـمِـه ِ لـم أحـلـم ِ

حُـلـمٌ وددتُ العـمـرَ في فـردوسِـه ِ = لا صـحوَ إلآ حين يُـنـصَبُ مأتـمي

" أشركت فيك ولست بالمتأثّم" : والدفاع عن الاثم ليس رهينا بالحلم فقط وانما بالحياة فمنذ أن تلذّذ آدم بالتّفاحة تحمّل الانسان لحظة الخطيئة , يحمل الاثم على ظهره وكأنه الوطن، وهنا أيها الشاعر الآتي من السماء لتسقط سهوا على الأرض ويختلط الاثم في حلمك مع التراب النازف المعجون بدم الخطيئة، أنت تطرق قضية خطيرة في قصيدتك باعترافك عن المحرّم قبل الحلال، وأسأل هل يا سيدي اقتراف الاثم في الحلم غير محرّم وفي الحقيقة محرّم ؟ وهنا تلبس لغة الخطايا ثوبا من العفاف على " كرسي الاعتراف" أيام الآحاد أمام الكاهن، هي الخطيئة التي تحمّلتها النفس منذ حواء وآدم فهل علينا أن نتحمّل الخطيئة حتى آخر أيامنا ؟؟ ومن المعصوم عن الخطأ،، ولمن الكمال،، فالكمال ليس الاّ لله وحده ونحن التعساء على هذه الأرض ندفع ضريبة الندم والكرى والحلم بدخولنا الى الجنة .

قد أكون قد خرجت من مضمون القصيدة لكنني في لبّ الموضوع لأننا ضعفاء عن قول الحقيقة فنلجأ بضعفنا الى الحلم بخوف ورعشة القديسين من رحمة السماء حتى ونحن ندرك أننا لا نمارس اثما بل هو الحلم الذي لا نحقق فيه رغباتنا الاّ بالتصوّر والخيال :

يَـمّـمْتُ حزمي نحو شـرفةِ بـيـتِهـا = بـعـفـافِ قِـدّيــس ٍ وشــوق ِ مُـتـيّـم ِ

وجـنـوح ِ مخبول ٍ وحكمة ِ عـاقِـل ٍ = وبـعُـسْـر ِ محروم ٍ ويُـسْـرِ مُـنـعَّـم ِ

فوجدتها بين اثـنـتيـن ِ ... عرفتها = من عِطـرِ أنفاس ٍ ومِعْضـدِ مِعصَم ِ

هذا الوصف للقديس بشوقه المتيّم اليها لا يكتمل الاّ بتوظيف الشاعر لمفردات لغوية قد تبدو سهلة وبسيطة لكن لها دلالاتها بالدفاع عن جنوحه " مخبول،حكمة عاقل، عسر محروم، يسر منعّم، عفاف قدّيس، " رد فعل الشاعر حين تتحرك الذات الصغرى فيه ليحاسبها قبل قدومه الى بيتها .

فوجدتها بين اثـنـتيـن ِ ... عرفتها = من عِطـرِ أنفاس ٍ ومِعْضـدِ مِعصَم ِ

ومن انزلاق ِ لحافِها عن خصـرها = فرط َ الـمَـلاسَـة ِ دون باقي الـنّــوَّم ِ

ذُعِـرَتْ فأطبَقَ فوق زنبق ِ ثغـرها = ثـغـري فـلم تصـرخْ ولـمْ تـتـكـلّـم ِ

وسّـدْتُها صدري بحضن ِ سـحابة ٍ = هَـرَبا ً بها بـيـن الـثـرى والأنجُـم ِ

وغسلتُ بالقبُلات ِ مَهْـبَط َ جيدِهـا = غـسْـلَ الندى للورد ِ غـير ِ مُـلـثّـم ِ

يستمر بحلمه وبخوفه الذي يتهاوى حين يراها وهي التي عرفها من عطر أنفاسها وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد لينزلق اللحاف عن خصرها، واستسلمت حين (أطبق فوق زنبق ثغرها / ثغري فلم تصرخ ولم تتكلّم)،،وببراعة نلمس في وصفه عملية الشوق بتقديم المؤخّر حين يطبق ثغره (الفاعل) فوق ثغرها ولم يكن أي ثغر بل " زنبق ثغرها"،،ليوسّدها صدره " بحضن سحابة" وانزياح باللغة فقد كان يستطيع الاكتفاء بالحضن لكن السحابة قوّت المعنى الذي أراد ليهرب بها بين النجوم بعيدا عن الأرض حيث مكان الحلم فيغسل جيدها بقبلاته كالندى الساقط على الورد وهنا يزيل عنه جرمه بالاثم باسقاطه غسل القبلات على الندى حين يغسل الورد..!

معـصومة ُ النهـديـن ِ لم يلـثمْهـما = إلآ حريرُ الـثـوب ِ فوق المِـحْـزَم ِ

أثِـمَ القـمـيصُ فكاد يـجـرحُ وردة ً = حمراءَ أنضرَ من خدود ِ البُرعُـم ِ

ومن أروع الصور الشعرية هذه اللوحة البديعة بتصويره " نهديها المعصومين عن الخطأ" ويضيف " الاّ" ليؤكّد بتولية وعفة هذه الأنثى التي لم يلثم نهديها الاّ حرير ثوبها، فيكيل الشاعر للثوب التهم الذي كاد أن يجرح الوردة الحمراء بخدودها المتبرعمة ...التورية في هذين البيتين تخلعنا من الواقع لنشهد الحلم ونتابعه .!

فـرّتْ يدي رغما ًعليّ ومَـسّـدتْ = ياقوتة ً .. لـكنْ : بعِـفّـة ِ مُـحْــرِم ِ

وشمَمْتُ ريحانا ً وعِطرَ سَفَرْجَل ٍ = ففـمي وقـلـبي يمرعـان ِ بمَغـنَـم ِ

لو تعرفُ الزهراءُ شوقَ ظميئِهـا = لرحيقِ كأس ِ زهورها لم تـفـطِـم ِ

بخلتْ وتدري أنّ خـبـز سـطورِها = زادي بصحـن صبابتي وتهَـيُّـمي

دخلتْ بسـاتيني فأنْضَجَ خـطـوُها = الـتـينَ والزيتونَ قـبْـل الـمـوسِـم ِ!

قـدسـيّـة َ العـينين ِ ناسِـكـة َ الـفـم ِ = رفـقـا ً بسادِنِك ِ الأسير ِ المُـغـرَم ِ

لا تحـذري ناري فإنَّ لهـيـبَـهـا = لا يـسْـتَـطيبُ ضـرامُـهُ إلآ دمي

نلاحظ أن لهجة الشاعر وصوته في القصيدة يستمر كالمدافع عن حلمه حيث يقول: " فرّت يدي" وكأنه ليس المسؤول عن يده وكأن يده لم تتحمّل هذه الياقوتة لتمتد اليها تمسّدها،ويضيف لكن " بعفة محرم" كبرهان لدفاعه عن دخوله الى بستان من السفرجل والريحان وهو الظمآن لرحيق كأسها وزهورها التي لم تفطم بعد،،وحين دخلت بساتين شعره نضج التين والزيتون قبل موسمه واختيار الشاعر (للتين، وللزيتون) لم يكن عشوائيا، بل هنا علاقة ما بين الفطام وحليب التين وما بين الطفل الذي ينمو بتجذره تحت ظل زيتونة والتي هي مصدر الغذاء والعطاء والهوية .

" رفقا بسادنك الأسير المغرم" يطلب منها أن تترفق به هو أسيرها : هنا تتبدّل الأدوار فقد كان في أول القصيدة هو من يملك زمام الأمور والآن بدخولها بستانه هي التي تتحكّم بخطواتها فيطيب له أن لا تحذر من ناره لأنه لا يستطيب الاّ دمه،وفي الحالتين بوصفه لها " قدسيّة العينين، ناسكة الفم " يأيتينا الى دهشة المشهد لهذه التي تدخل اليه ولم تطأ قدماها بساتين الهوى قط وانما هي كالناسكة التي لم يلثم ثغرها الاّ هو .

خَطَبَـتْكِ أعماقي فحاضرُ مَهْرِها = قـلبي وأحداقي .. وغائِـبُها فـمي

إنْ تطلبي الرُّطَبَ الجنيَّ وشهدَهُ = هزّي بمبسمِك ِ المُطَيَّب ِ مبسمي

النارُ جائعـة ٌ .. فهـلْ أطْعَـمْـتِهـا = أشواكَ أمسي في الزمان ِ الأقدم ِ ؟

زفَّ الهوى قلبي إليك ِ فزغردتْ = روضٌ وباركت ِ الطيورُ ترنّمي

لا توصدي المحرابَ عن مُـتبَـتِّل ٍ = والنهرَ والينبوعَ عن صَـبّ ٍ ظمي

قد جئتُ منهلَكِ العذوبَ مُضَرّجا ً = بالجمر ِ رفقا ً بالظميء المُسْـلِم ِ

حسبي حججتُ فهل يجوز لناسِـكٍ = صلى الوداعَ بغير شِـربة ِ زمزم ِ؟

هل سيتم الحلم؟؟ المهر جاهز وماذا يملك الشاعر غير القلب والأحداق  حتى يكتمل المهر يطالبها هو الآن بأن تهزّ بمبسمها مبسمه، ناره جائعة فهل تطعمه من أشواك الأمس ؟

ويدخلنا في موكب عرس بطقوسه التي تليق بناسك يحج الى مزار،، فكنا أمام موكب بعرس مهيب حين زفّ الهوى قلبه اليها فزغردت الروض " وباركت الطيور ترنّمي" ان شاعرنا في النعيم واختار له المكان بطقوسه التي يهواها فيخرج عن المتعارف عليه ويكون الشاهد على هذا الزفاف الطيور والروض والنهر والينبوع، هو المكان الذي يأتي اليه ليطفىء لهيبه " مضرّجا بالجمر " وانزياح لغوي رائع منك شاعرنا فالمضرج بدمه للقتيل والجمر من بعده الرماد، فما يزال في حالة من الظمأ التي تدعو الترفّق به ليقول :

"حسبي حججت فهل يجوز لناسك / صلى الوداع بغير شربة زمزم"

للناسك أن يحجّ وأن يطفىء جمرته المحترقة وها هو يؤكد أنه المسلم الآتي الى بئر زمزم لينهل منه ماء صافيا يسترد به ذاته الأخرى حين يعود من الحلم الى الواقع .!

الشاعر يحيى السماوي : كان حلما، لكنك لامست بالحلم الكثير من القضايا التي لا نجرؤ على النقاش فيها بالواقع فهل الاثم ان كان في الواقع كنا سنتحرّر من عبودية الحرف لنطلق لنا العنان بوصفه هذا الوصف البديع الجريء كما فعلت .. أعتقد أن المنافي تؤسس لشعرائها دولة جديدة لا يدخلها الاّ المبدعين الرافضين لطقوس هذا الزمن ولأردية الخيام والقبلية!

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم