صحيفة المثقف

الطبيب العراقي الأستاذ عز الدين شكارة في ذمة الخلود

amir hushamأنتقل الى جوار ربه الكريم يوم الخامس عشر من شهر أيلول/سبتمبر 2013 استاذ الطب والأطباء في العراق الدكتور عز الدين شكارة. واِن كان المرحوم قد توفي وهو بعيد عن وطنه الأم في أرض غربته في بريطانيا، الاّ أنه كان قريبا الى عراقه من خلال عمله الدوؤب، وهو الذي ما أنفك يبحث عن أفضل السُبل ليعبّر عن رأي أو يبدي نصيحة بُغية التطوير لواقع الخدمات الصحية في العراق. فقد كان الفقيد حريصا دائما على حضور أجتماعات ومؤتمرات الجمعية الطبية العراقية العالمية مثلا في بريطانيا، ونذكره جيدا وهو يحمل دفتر ملاحظاته الصغير ليسجّل ما يمكن أن يعينه فيما يريد أن يقوله لأبنائه اطباء العراق وهم بأمسّ الحاجة الى مداخلات جيل الأساتذة.

ولد المرحوم عز الدين شكارة الأعرجي في عام 1929 وقد كان والده من رجالات القانون حينذاك في العراق. ولقد درس الطب وتفوّق فيه حتى تخرّج من كلية طب بغداد عام 1953 فعمل أول ما عمل في المستشفى الملكي ببغداد وفي ردهة أمراض الجملة العصبية.  وفي تدرّجه الوظيفي استلم شكارة أدارة مستشفى الديوانية في جنوب العراق وذلك عام 1959 فبدأت عنده مرحلة جديدة مزج فيها ما بين علوم الطب والأدارة، فكان فيهما قديرا ومنذ سنواته الوظيفية الأولى، حتى أصبح يوما في سبعينيات القرن الماضي رئيسا لقسم الباطنية في كلية الطب بجامعة الموصل حيث تم أنتخابه عضوا في مجلس جامعة الموصل نفسها نيابة عن زملائه المدرّسين والأساتذة في كلية الطب. وقد أصرّ على التخصص في الطب الداخلي أو علوم الباطنية وخاصة في طب أمراض الجملة العصبية، فكان له ذلك عندما سافر الى بريطانيا فدرس وتدرّب في لندن ثم عمل في أدنبرة عاصمة أسكتلندا الجميلة حتى تمّكن من أن يكون عضو كليتها الطبية الملكية عام1964. وما كان منه الا أن عاد الى أرض وطنه ليلتحق في خدمة تدريس الطب في كلية طب الموصل شمال العراق وقد كانت حينذاك تابعة لجامعة بغداد، حتى أذا تأسست جامعة الموصل كيانا قائما بذاته عام 1967 رأينا الدكتور عز الدين شكارة يلتحق على ملاك جامعة الموصل ليواصل خدمته الطبية السريرية لمرضاه ويدرّس الطب لطلبته في ذات الوقت.

وما على مَنْ يقرأ السيرة الذاتية لهذا الهمام المرحوم  الطبيب الأستاذ عز الدين شكارة الاّ أن يستنتج التالي:

1. أنه كان رحمه الله من الذين يسعون لوضع ضوابط للتعليم الطبي تأخذ بعين الأعتبار طبيعة المشاكل الصحية التي يعاني منها مجتمعه. أضافة الى أنه كان من الساعين لأن يكون الطبيب المقتدر علميا، اداريا ناجحا في نفس الوقت لضرورة اِحداث التغيير في زمانه في حال وضع صحي متغيّر وعلوم طب متطورة. وهكذا تراه وقد عمل كل ما في وسعه لتأسيس المراكز الطبية العلاجية المتخصصة بما كان ضروريا وقتها لخدمة الناس. فقام شكارة بتأسيس عيادة مرض السّكر المتخصصة في الموصل، ومركز العلاج الطبيعي ومركز الكلية الأصطناعية أضافة الى تنظيمه للعيادات الطبية الخارجية لغرض تطوير مهارات طلبة الطب والأطباء المتخرجين حديثا من خلال الدمج بين التدريب وتقديم أفضل الخدمات الصحية .

 وبصدد التعليم الطبي كان للمرحوم باع طويل في تأسيس التقاليد التعليمية الطبية المهمة وذلك من خلال أصراره على وضع جداول أسبوعية لأجتماعات سريرية تعليمية يشارك فيها أساتذة الطب وطلابهم بما يغني المهارة ويزيد من الخبرة دون ان ينسى أن يعدّل من مناهج تدريس الطب لتتضمن ما يشير ويفصّل في موضوعة السلوك المهني للطبيب أضافة الى دروس العلوم الأساسية.

2. أن الأستاذ شكارة كان من المهتمين بالبحث العلمي وشؤونه على أن يكون ذلك من واجبات الطبيب في مقتبل عمره الطبي بل وحتى في سنوات دراسته للطب. وهكذا شجّع الأستاذ طلبته في جامعة الموصل للتعرّف على أساسيات البحث الطبي وأولياته لتستمر الخبرة وتُغنى التجربة. وما كان منه الاّ أن يكون القدوة في ذلك فيركّز على أيجاد حلول من خلال البحث الطبي لمشاكل الصحة التي يعاني منها مجتمعه، فنشر بحوثه في موضوعة التسمم بالزئبق العضوي مثلا عندما كان هذا الموضوع شاغلا للناس في سبعينيات القرن الماضي. وأذكر هنا أن الأستاذ شكارة كان قد نشر بحثا عن الأعراض العصبية لهذا النوع من التسمّم ساهم في أجلاء أبعاد مهمة في الموضوع. أضافة الى بحوثه المعروفة في الطبابة الباطنية بصورة عامة ومنها بحثه في أمراض القلب وشرايينه في الموصل والذي نشر عام 1972 وبحثه حول مرض التصلب المتعدد العصبي: أسبابه وأنتشاره في العراق والذي نشر عام 1966. كما ونشر المرحوم بحوثا ومقالات مهمة عديدة في مجالات التعليم الطبي كان له من خلالها مساهمات مشهودة في مؤتمرات متخصصة بالطب وأساليب تعلّمه. 

3. أن فقيدنا الدكتور شكارة كان من المهتمين باللغة العربية كلغة علم. وقد لا يكون ذلك مفاجئا أذا علمنا أنه نشأ في بيت يهتم بالأدب واللغة أيما أهتمام. وفي ذلك يشير الدكتور المرحوم حسين علي محفوظ المفكر العراقي وهو يصدّر لكتاب " طب الجهاز العصبي"  والذي كان الأستاذ شكارة قد ألّفه بالعربية قائلا: "كان في أسرته القرشية المطلبية الهاشمية الطالبية العريقة المعرّقة أعيان جلّة خدموا الدنيا والدين في تاريخ الأسلام. كان في بيته العربي القديم أدباء وشعراء، كانوا أمراء الكلام وأمراء البيان، وكان فيه شجعان وفرسان كانوا أبطالا صناديد". وهل قلت كتابا مولّفا باللغة العربية في علوم الجهاز العصبي؟ نعم هو كذلك وقد أصدرته وزارة التعليم العالي العراقية حينذاك في عام 1994 ليطبع في مطبعة دار الكتب التابعة لجامعة بغداد. ولا أدّل على عظمة الجهد المبذول تأليفا لمثل هذه الكتب من قول الأستاذ شكارة نفسه وهو يقدّم لكتابه الثمين (كان قد أهداني رحمه الله نسخة منه العام الفائت عند حضوره المؤتمر العلمي للجمعية الطبية  العراقية العالمية في لندن): "لقد بذلت جهدا كبيرا في أنتقاء الترجمة المناسبة للتعابير والمصطلحات الأجنبية الى العربية وذلك لوجود التباين الكبير في ما ورد في المعاجم المختلفة من ترجمة لبعض تلك المصطلحات. ومع أنني كنت قد اتخذت المعجم الطبي الموحد الذي أصدره أتحاد الأطباء العرب مصدرا أساسيا للترجمة، الاّ أنني وجدت أن من الضروري في أحيان كثيرة الأستعانة بمعاجم طبية وعامة أخرى وخاصة (معجم حتي الطبي) و(المورد) كما وأستعنت في مواقع كثيرة بما جاء ببعض المعاجم الأنكليزية وخاصة معجم أوكسفورد. ومما زاد في صعوبة الأمر، هو أن المعجم الطبي الموحد جاء بتراجم مختلفة لبعض المصطلحات في طبعاته الثلاث مما أضطرني –والحديث للأستاذ شكارة- الى مراجعة ما كنت كتبته وتغيير المصطلحات لتواكب آخر طبعة في المعجم. ومع وجود كل هذه المعاجم فقد وجدت صعوبة في أيجاد مرادفات لبعض المصطلحات اتي لم يأت ذكرها في أي معجم مما أضطرني الى نحت بعض الكلمات المترجمة بنفسي". 

 رحم الله فقيد الطب والأطباء الأستاذ عز الدين شكارة الذي قال عنه المفكر حسين علي محفوظ يوما " كان طبيبا رفيقا رقيق، يجمع بين الطب والرفق، والصداقة والصنعة، والعلم واللطف في التشخيص والوصف وتحديد الدواء والعلاج ومداراة المريض العليل".

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم