صحيفة المثقف

اليوتوبيا الرعوية للنص في مجموعة هكذا اعلق جنائني للشاعر صلاح حسن السيلاوي

amar ibrahimalyasiriشهد المنجز الشعري العالمي وعلى مديات تشكل الوعي لديه، ظهور نصوص شعرية حاكت الطبيعة وعلى مختلف تشكلاتها، وكانت النصوص المهمة فيها شهدت نوعا من التماهي الروحي والفكري وأحيانا البوهيمي من قبل صاحب المنجز والطبيعة، إن العودة إلى الطبيعة أو الهروب إليها أو حتى الالتصاق بها هي محاولة لبناء عالم مثالي مع هذا المكان البعيد عن صخب الحياة في المدن الكبرى وازدحام طرقاتها وأزقتها، وقد اعتمد هؤلاء الشعراء على قاموس لغوي مشتق من تلك البيئة الطبيعية التي أحبوها، وعاشوا أو تمنوا أن يعيشوا فيها، وأُطلق عليهم الشعراء الرعاة، أو الشعراء الرعويين، وأطلق على شعرهم شعر الرعاة، أو القصائد الرعوية.

ويعد الشاعر القديم ثيوكريتوس المولود حوالي عام 310 ق.م في جنوب إيطاليا من أهم شعراء الرعاة في زمانه، فقد كان شعره "تعبيرا عن رغبات ملحة أحس بها أبناء عصره الذين ضاقوا ذرعا بالحياة في المدن الكبرى و صخبها، فأحبوا الريف وتاقوا للحياة البسيطة وحسدوا الرعاة على حريتهم، يقول الشاعر ثيوكريتوس في أحد نصوصه الرعوية ("والآن يا نبات العليق المتسلق ليتك تزهر بنفسجا، ويا ليتك أنت أيضا أيها العوسج تحمل أزهار البنفسج! ليت زهور النرجس الخلابة تنبت فوق شجر العرعر)، ومن هنا نتحسس المفردات الرعوية وهي تتحول إلى دلالات منتجة للمعنى في فضاءات النص .

وقد جاء بعد ثيوكريتوس العديد من الشعراء الرعويين الذين تغنوا بالطبيعة، وأسهموا في تأسيس المدرسة الرعوية في الشعر العالمي، ومن أهم هؤلاء الشعراء: فرجيل (صاحب الإنيادة) ووليم بليك، وجون ملتون (صاحب الفردوس المفقود) ووردزورث،

ويرى بعض الدارسين للشعر العربي، أن الشعراء القدماء الذين عاشوا في البادية العربية وتغنوا بالصحراء والجِمال والليل والنجوم من أمثال: امرؤ ألقيس، وذو الرمة، وعنترة بن شداد، يعدون من الشعراء الرعويين، بل بعضهم يذهب إلى أن الكثير من قصائد البحتري وأبي تمام تنتمي إلى القصائد الرعوية.

وإذا انتقلنا للعصر الحديث، سنجد شعراء من أمثال: جبران خليل جبران (وخاصة قصيدته المواكب)، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، ورشيد سليم ألخوري، (الملقب بالشاعر القروي). ومحمود حسن إسماعيل (وخاصة في ديوانه أغاني الكوخ)، وحسب الشيخ جعفر، وعيسى حسن الياسري، وغيرهم.

وبطبيعة الحال تطورت للقصيدة الرعوية من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى أخرى، وخاصة في مجال التكنيك أو في مجال معمارية البناء الشعري.

وفي مجموعة "هكذا اعلق جنائني" للشاعر صلاح السيلاوي، يحاول الشاعر اقتفاء أثر الشعراء الرعويين، أو الانتساب إلى مدرسة الشعر الرعوي، ولكن من خلال منظورها الشعري الخاص، ومعالجتها الشعرية المختلفة، ضمن قصيدة النثر.

يقول الشاعر في قصيدة " هكذا اعلق جنائني والتي اتخذت المجموعة منها عنواناً لها :

طفولتي ...

يا تماثيل الطين المعجونة بدموعي

يا قرى النمل

وهي تسرق النوم

والعنب من أحضاننا .

لن نحتاج إلى تحليل اللغة في هذه القصيدة، لنكتشف أنها تنتمي للشعر الرعوي، أم لا؟ فكل مفردات القصيدة توحي بذلك، ولكن علينا أن نحلل الاشتغال ألعلامي في الصورة المرسومة في السطر الثالث (ياقرى النمل) الشاعر هنا لم يتغنَ بالطبيعة فقط بل اشتغل على الانزياح عن المعيار الشعري فقد اتخذ لقرى النمل معنى أخر غير المعنى الظاهر، معنى يشتغل على عدة تأويلات تتكيف مع بنية التأويل لدى المتلقي، ونرى في مكان اخر في نفس القصيدة:

يا عنبة التل

أوصي جذورك

إلا تخترق قلب أمي

يا أبي يا زمزم زمزميتي

ماذا حصدت من عنبر العمر غيري .

الشاعر هنا لم يجعل من مفرداته عناصر للتغني بالطبيعة فقط بل اشتغل على البناء الدرامي المتخم بالدلالة التي يفجرها الصراع بين عناصر الطبيعة وبين عالمه الذاتي، فهو يخاطب الطبيعة والتي هي الأم الأكبر أن تكون رحومة بأمه المباشرة، وكذلك حينما يذكر أباه نجده يتخذ من مفردات الحرب كالزمزمية بناءا دلاليا يشتغل على رفض الحرب التي أكلت من عمره الكثير والتي هي على الضد من الطبيعة التي تشير إلى الخصب والنماء .

وعلى الرغم من أن الشاعر خارج من جلباب الشعر الرعوي، إلا أنه يثور على كل السلف من الشعراء الرعويين السابقين فينقض ما حاولوا بناءه من قبل، ولعل عنوان المجموعة "هكذا اعلق جنائني"،  يشي بالروح العامة المسيطرة على قصائد الديوان كلها، تلك الروح المنبثقة من إحساس الشاعر والتي تقف عند مفترق الطرق الشعرية، ما بين القديم الرعوي الذي جسده الإباء والأجداد في قصائدهم والجديد الرعوي الذي يتطلع إلى إنجازه، ويحمل بصمته الشعرية فهو ابتعد عن التوصف الظاهر للطبيعة أو التغني بها أو التصويرات السابقة لمشاكل الرعاة وتطلعاتهم بل اشتغل على المنظومة العلامية للنص الرعوية محاولا خلق يوتوبيا جديدة للإنسان المتأزم بكل خيباته ورغباته المؤجلة فراه يقول في قصيدته رحيل ضمير:

هناك

على بعد شاة عن الذئب

كانت كلماتك تتسلق اعلى شجرة

وكان البئر عثرتك الدائمة

تعرف قمصان أخوتك الملطخة بأسمائهم .

وكذلك نلاحظ توظيف الموروث القرآني المتماهي مع مفردات الطبيعة من اجل خلق بنية درامية تشتغل على طرح أسئلة وجودية قلقة حول الذات المغتربة والاستلاب الروحي من خلال تشكيل عناصر البناء الدرامي ومنها خلق الصراع مابين الشاة والذئب، والبئر والأخر الذي يخاطبه الشاعر .

لقد استطاع الشاعر صلاح السيلاوي أن تُخضع عالم المفردات الرعوية لرؤيته الخاصة، وأن يتخلصَ من السلطة الرعوية للشعراء السابقين عليه، وتأسيس سلطته الخاصة، وقد استفاد الشاعر من التحولات المعرفية والتراكمات الجمالية للأمكنة التي عاقرها وخرج منها بأسئلة قلقة والتي تمت الاشارة سابقا.

إن قصائد الشاعر لم تعد ساحة صراع بين مفارقات الانتماء وتناقضات الاغتراب، في مستوى اللغة والشكل والمعنى عن المكان فحسب ؛ بل هي تظاهرة هائلة لاجتماع أنساق ذلك الصراع كافة، ولامتزاجها في حاضنة جمالية وفنّية تعمل دون كلل ودون رتابة، ورغم ذلك ظلّ وفياً لأطوار ذلك البدوي الجريح الحزين المتمرد الثائر، وإنّ الأصوات العديدة المتغايرة التي تكاثرت في قصائده وتبادلت الأدوار بقيت بدورها كفيلة بصيانة حيوية الإيقاع وضمان كسر الرتابة فنراه يقول في قصيدته يرعى ما يراه :

لست وحدي

أتصنت إلى عروق هذه الوردة

ثمة فلاح غاطس في النهر إلى إذنيه

وآفاق تضع

أذانها على أطراف السعف .

 ومن هذا كله نرى أن نصوص صلاح السيلاوي ترتقي وتشتغل ضمن معادلة مهمة هي، أنه كان حامل مخيلة رعوية مديدة ثاقبة الرؤيا والحساسية، وبصيرة تصويرية وتشكيلية خارقة، وظفهما في البناء الطوباوي لمدينته الجميلة؛ وأن هذا الخزين الشعري المتفرد لم ينهض امتيازه على أوهام حداثة نخبوية جوفاء، أو ألعاب تجريب مجانية انعزالية من جهة ثانية، بل على معادلة صنعت قسماته الشعرية الخاصة المعتمدة على الحداثة والتجريب الشعري بوعي متقدم والتي أفردت له مكانة عالية في المشهد الشعري العراقي منذ نهايات القرن المنصرم وبدايات الألفية الثالثة، كما ضمنت له صوتاً متميزاً راسخ السمات في حركات التجديد الشعري العربية والتي تشكلت منذ أواسط الستينيات ومطالع السبعينيات من القرن المنصرم.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم