صحيفة المثقف

الأنساق المضمرة في بنية النص الشعري .. دراسة في نصوص الشاعر الدكتور عمار المسعودي

amar ibrahimalyasiri

منذ عام 2000 وهو تاريخ صدور كتاب النقد الثقافي للدكتور عبد الله الغذامي والذي جاء بعد ثمان سنوات من صدور كتاب بنفس العنوان للمنظر والناقد الأمريكي فنسان . ب . ليتش، بدأ التنظير والتطبيق العملي في بلاد العالم العربي لهذا الوافد الجديد من اجل قراءة مغايرة للنص عما هو مألوف سابقا.

 تشتغل المنظومة النقدية الثقافية في كل تنظيراتها على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون عبر البيئة الثقافية والحضارية، وتتقن الاختفاء تحت عباءة النصوص على مختلف أجناسها، ثم تشتغل بصورة مذهلة في توجيه الجهاز ألمفاهيمي للثقافة وسيرتها الذهنية والجمالية المترسخة من خلال التلاحم الديالكتيكي مابين النص واليات التلقي المختلفة (1). وقد تأثر المنهج الثقافي بإستراتيجية جاك دريدا التفكيكية القائمة على التقويضية والتشتيتية والتشريحية، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، و تبيان المختلف أثراً وتأجيلا، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص سواء أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وتمركزها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك أيضا بعدة اتجاهات مثل الماركسية الجديدة، و التاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافيا عن كينونة التأنيث في مواجهة الفحولة المطلقة (2)، ونلاحظ في حفريات المعرفة لميشيل فوكو ميلا واضحا لهكذا نقود فضلا عن بورديو صاحب نظرية المادية الثقافية وآخرين غيرهم، أما من العرب فتعد كتابات ادوارد سعيد وعبد الله الغذامي خير مثال في هذا المجال .

وعليه فالنقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، والنسق مرتبط بكل ما هو مضمر من جهة وما هو غير مضمر من جهة أخرى وكذلك يعرف الدكتور طه الهاشمي النسق بأنه عبارة عن عناصر مترابطة متفاعلة متمايزة لها دينامية تشتغل على منظومات خارجية وداخلية (3) وتبعا لهذا فإن كل ظاهرة أو شيء ما يعتبر نسقا ديناميا، والنسق الدينامي له دينامية خارجية تحصل بتفاعله مع محيطه، وهنا نلمس تحولا جذريا ونوعيا يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، فالنقد الأدبي وعلى مختلف مدارسه الكلاسيكية أو مناهجه الحديثة معني بالنص مكتفيا على ذاته من حيث اللغة أو الدلالة أو المجاز وما إلى ذلك أما الثقافي فهو يشتغل على الأنساق المضمرة، يستند النقد الثقافي إلى ثلاث دلالات: الدلالة المباشرة الحرفية، والدلالة الإيحائية المجازية الرمزية، والدلالة النسقية الثقافية،والدلالة النسقية هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي او غيره، فمع التسليم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية، وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر كما في الصريحة، أو الوعي النقدي كما في الضمنية، أما الدلالة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية عالية التركيز تأخذ بمبدأ النقد الثقافي لكي تكتشفها ومن ثم أكمال منظومتها التطبيقية (4).

ولقد بينت العديد من النقود الثقافية على العديد من النصوص الأنساق المضمرة فيها، فقد كانت تطبيقات الدكتور الغذامي النقدية على العديد من نصوص الشعر الجاهلي مستكشفة لثيمات مضمرة عديدة ومنها الفحولة والتي ناقش فيها تحولات الفحولة الشعرية إلى الفحولة الثقافية التي شعرنت الذات ثم شعرنت كل القيم معها ويستند فيها لنصوص عمرو بن كلثوم وجرير وغيرهم الذين أحلو للانا مقاما أساسيا متجذرا يعتمد خطابها على الأنا اعتمادا مصيريا الى درجة يصبح فيها النص هو الجملة الثقافية ليس للشاعر فحسب إنما للثقافة ككل، وكذلك بين الغذامي انساقا مضمرة أخرى تشتغل على صنع الطاغية والشاعر النرجسي وهي مركزيات نسقية لابد من تعرية مضمراتها بصور مغايرة (5)، ثم اتسع الفضاء ليد نقود ثقافية للعديد من الشعراء المحدثين .

ومن الشعراء الذين تضمن العديد من خطاباتهم الشعرية انساقا مضمرة الدكتور عمار المسعودي الذي يشتغل خطابه الشعري على إرساء مفاهيم كونية وصوفية منفلتة عن المهيمن اللاهوتي في تشكلاته لمدينته الفاضلة التي يرسمها لذاته فنراه يقول في نص " سمني على مشاويرك " من مجموعة " ما يتعطل من الأسئلة " :

" أقود السحابة من ثوبها صوب حقول بعيدة من نورك

من دخانك يسمع النهر صلصلة عروقي "

ثم يقول في مكان أخر من نفس النص: "

"من نورك

من دخانك

ابدأ بعرش السعادة "

إن هذا الخطاب المعلن يخفي في داخله نسقية مضمرة تشتغل على هيمنة لاهوتية يفترضها الشاعر على المتلقي من اجل خلق أكوان جديدة متشكلة على الأجواء الأيدلوجية و التاريخانية للذات الباثة للنص محاولة جعلها مركزا تنويريا في الوعي الجمعي للذاكرة الثقافية، وهذا ما نجده في مجموعة الأولى " ساعة يلمع الماس " وفي نص " ألم أكثر من هذا " حيث يقول:

 " بحجارة لا يصلى عليها اصلي

بحجارة لا يصلى عليها ارمي ذنوبي

بحجارة مرة أجد متسعا حلوا منك "

ويقول في مكان خر من نفس النص :

" سأنصب رأسي ملكا

وجسدي مملكة

وأسير ......... وأسير"

ثم نرى انقلابه المفاجئ و عودته غير المتوقعة إلى فضاء الثقافة الدينية بعد أن أنسلخ عنها حيث يقول

"أتراجع ؟أنت تتقدمين أكثر أيتها الروح حين تنزعين رداءات الملكة"

ويبقى الشاعر عمار المسعودي يعيش هذه الجدلية من الصراع الوجودي واللاهوتي وهي سمة لازمت العديد من شعراء السبعينيات من القرن المنصرم مثل رشدي العامل و عقيل علي و آخرين .

 ثم نرى انفتاح منجزه الشعري على آفاق شعرية جديدة تطرح قطيعتها النهائية مع خطاب النهايات أو موت التاريخ ولكنه يختلف عن المعنى الذي يتجسد في " نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما) أو " صدام الحضارات لهنتغتون " حيث يتم تسييد الرقم على الاسم وفناء التاريخ على التاريخ وما بعد الإنسان على الإنسان، وهذا الأنساق المضمرة تتجسد في نصه " كرات العالم " من مجموعة " يختفي في القرى" حيث يقول :

" صامت هامش الزمن

وساكن لساني

فكرة تبعدني عن التداول

ومثل تفاحة تأنف أن تمسها

الجاذبية بنزواتها "

ويقول في مكان أخر في نفس المجموعة وفي نص " جغرافية" نفسي محارات مقلوبة

ارسم

بها

خرائط

للنفاذ "

وهذا ما يطرحه الناقد أحمد دلباني في كتابه المعنون "ديوجين يكسر مصباحه - من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي" قائلاً " ماذا سيفعل الثوري هل يجابه السديم بخطاطاته الجاهزة ويلقن التاريخ درسا في لا جدوى المكر والسخرية بمصائر البشرية"ونلاحظ أيضا أن الشاعر المسعودي تجاوز التبشير باليوتوبيا التي بناها لمدينته المفترضة إلى تفكيك بنية الهيمنة ونقد المركزيات بل وكشف ألاعيب اللوغوس ومركزية الشاعر المطبوع " وهو الشاعر الذي لا زال يرى في القوالب الجاهزة المعطاة قبليا منتهى الإبداعية " (6)، وهذا المضمر يتضح لنا من خلال نصه " رماد الحلاج " من مجموعة " يختفي في القرى" حيث يقول

 : " متى أذن

نطوف لا كصنمين في ساحة النبوة

بل نهرين يتقاذفهما العالم

ببراءته "

فهو هنا ومن خلال مأساة الحلاج يتماهى معه ضد كل الشعر ألصنمي المؤسساتي معلنا أيضا رفضه لكل التقاليد الشعرية البالية، والحقيقة أن الأنساق المضمرة وبكل تمفصلاتها تبقى متنوعة في فضاءات النصوص وتبقى مرجعيات الناقد الثقافي هي الميكانزم المهيمن أيضا في اجتلاب ما يراه مناسبا من بنية المضمر إلى بنية المرئي .

 

عمار ابراهيم الياسري

....................

 المصادر

1- محمد الاميري، النقد الثقافي بتصرف عن حفناوي بعلي

2- نفسه

3- طه الهاشمي، محاضرة في مفهوم النسق

4- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي

الغذامي المصدر السابق

6 - احمد دلباني، يوجين يكسر مصباحه

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم