صحيفة المثقف

الابداع العربي والمنفى

said alsheikhلم يحدث ان اقحمت القصيدة العربية في حالة من الالتباس فيما يتعلق بمشهدية المنفى كما هو حاصل اليوم على يد شعراء الحداثة العرب.. منهم من لا منفى له وتجده لا ينفك عن استحضار المنفى في كل قصيدة جديدة، حتى نظن ان كل شعراء الحداثة اليوم هم منفيون خارج اوطانهم يتسكعون وينامون على الارصفة، وغالبا في الصقيع كإشارة الى المناخ الاوروبي.

يتحاذق بعض الشعراء ويؤكدون ان المنفى هو في الروح ولا يمكن اختصاره بمساحة جغرافية. وكأن بأطياف غير مرئية تأتي لهذه الروح وتذهب بها الى اقاصي عوالم خيالية تتشابح بصناعة الالم.

لم تشهد مسيرة الادب العربي في عصور سابقة اي حضور للمنفى اذا ما تجاوزنا الاضاءة المتكررة عند الكثيرين من الكتاب والشعراء وبمديح فائق للفكرة المحكمة حول الارتباط والاستئناس بالمنزل الاول كتعبير عن الوطن. لم يكن المنفى كأدب خالص موجود بصراحة كما هو الحال اليوم حيث يتمدد ويتطاول على مساحات واسعة من الاعمال الادبية والفنية حتى يطغى ويصبح عنوانا بارازا لكثير من المبدعين ومنهم من لم يغادر ازقة حارات مدينته.

على ان ادب المنفى هو نتاج اوروبي بامتياز ازدهر ما بين الحربين عندما سادت الانظمة العسكرية الشمولية، وعلى هدْيه بعد ذلك سار ادب امريكا اللاتينية عندما اعتلت الانظمة الديكتاتورية سدة الحكم في تلك البلاد. وعليه فأن هذه التجربة ظلت صادقة وحارة لارتباطها بالواقع على عكس التجربة العربية التي ظلت في معظمها نتاج اصطناعي لم يمسه التلقيح الطبيعي. ربما وبشكل ضئيل ان هذا التلقيح قد تسرّب الى مادة السرد التي تناولت الحديث عن اشكاليات المجتمعات متعددة الثقافات وبرز المنفى فيها بشكل عرضي وبما توفر للمبدع من اطلاع على ادب المنفى في ثقافات اخرى.

في الحديث عن المنفى العربي يغفل الكثير من النقاد على ان نفي المبدع لم يتم بشكل قسري معلن من قبل السلطة بل برغبة ذاتية فيها الكثير من دوافع متوهمة عن واحات حرية التعبير، وهذا النفي هو ايضا عملية حركة اجتماعية واسعة يشارك فيها خليط طبقي هربا من الحرب كما يشير المنفى العراقي، او فرارا من اوضاع اقتصادية متردية كما يشير المنفى المغربي الذي استوعب ايضا هؤلاء الذين وجدوا في  الفرنكفونية وطنا ان غادروه الى اوطانهم الاولى شعروا بالغربة وحق عليهم جحيم المنفى. 

لم تشر البيانات ان مبدعا عربيا واحدا نال حق اللجوء في بلد اوروبي بسبب مواقف معارضة قد وجدت في اي مُؤلف من مؤلفاته .. ان معظم حالات اللجوء الى اوروبا كانت ولا زالت تُقبل على اساس الهروب من ويلات وجحيم الحرب.

لكل ذلك اجد نفسي اختلف مع المبدعين العرب الذين يعيشون برغد في الغرب وتحوم حول ارواحهم ملائكة رحيمة، ونجدهم في جلّ كتاباتهم قد جعلوا المنفى قِبلة صلواتهم وراحوا يجلدون انفسهم بجحيم المنفى المتخيّل وهم يتأوهون بين عذاب واستعذاب، بينما الجحيم الحقيقي هو ماثل هناك في البلاد التي خلفوها وراءهم.

لا يصح القول ان المنفى يظل منفى بما له وبما عليه. لا بد للتجربة ان تنحفر بوعي كامل وتقدم نفسها بكل صدق وبلا بطولات. فعندما يتواجه الجحيمان، جحيم المنفى وجحيم الوطن فان المبدع يظل بينهما هو الضحية وهو الجلاد.

 

* كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في السويد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم