صحيفة المثقف

تجليات مستنبطة من تدبر فريضة الحج

ونحن في الايام العشر الاولى من شهر ذي الحجة لهذا العام، فلابد ان نفحاتها الكريمة باعتبار ان (لله خواص في الازمنة والأمكنة والأشخاص)، تدفعنا للتدبر والتأمل في مقاصد هذه الفريضة العظيمة.ولعل أهم استدلال نخرج به من فرض الله سبحانه وتعالى الحج على المسلمين، هو أن هذه الفريضة الجليلة تتجاوز في مدلولاتها العقدية مجرد ألاداء الشكلي لمناسك عبادة الحج، الحسية منها، والمعنوية، بمعنى انها ليست مجرد السعي بين الصفا والمروة، والطواف بالبيت العتيق، ولا مجرد الانقطاع عن المعاشرة، وترك بذيء الكلام، والرفث، والفسوق، ونحر الضحايا، والحلق أو التقصير وغيرها من مناسك الحج وحسب، وإنما المراد منها لاشك انه أبعد من ذلك. فالمطلوب هو تحقيق منهج السلوك القويم الشامل، المتمثل بالاستقامة المطلقة لله، وما يستوجبه هذا الامر من ترك الانخراط في الجدل العقيم في أمور تافهة، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تقدم ولا تؤخر شيئا لمعالجة واقع الحال المسلم، الذي ينبغي ان يكون كله حسنا، وخاليا من السلوكيات الخاطئة، بحيث يتمكن من ان يحقق وحدة الصف المسلم مناسكاً ومجتمعاً، على قاعدة(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما انا من المشركين). ولعل ذلك التصور المجمل هو ما يمكن ان نستجليه من معاني بهية، كلما ابحر العقل المؤمن في تجلي مغزى حصر فريضة الحج بأيام معدودات، حظيت بقسم الخالق بها لعظم شانها عنده بقوله(والفجر وليال عشر)، كأن المراد بذلك، إقامة مؤتمر تعبد سنوي، يتجسد في ورشة عمل ايمانية جماعية، تستهدف تدريب المسلم دورياً من خلال ممارسته مناسك الحج فيها، على تجديد ايمان المسلم بكل اركان الإسلام، ومناقبه الفاضلة، لكي تكون المحصلة عند ذاك ما يمكن وصفه، بمؤتمر تجديد الوعي الإيماني، وتعميق السلوك المسلم على قاعدة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِ‌جَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ‌ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: ٢٧]، لاسيما وأن أغلب المسلمين اليوم باتوا ينصرفون إلى تأدية العبادات، ومنها عبادة الحج، بشكلية طقسية باردة، أفقدت العبادات مذاقها الروحي، وجمدت بعدها التواصلي الاجتماعي. فلم يعد الحج يمثل نقطة إشعاع للتعبد، وحافزا على السلوك القويم في صقل شخصية الحاج المسلم، العائد للتو من الديار المقدسة، إلى معمعة الحياة بايجابية بائنة، بحيث يكون في ضوئها مجللاً بكل قيم الفضيلة في تعامله اليومي مع الخلق عيال الله، الذين قد لا ينتفعون بشكل مباشر من العبادات، باعتبار أنها أداء فردي خالص للمسلم يلقى الجزاء عليها عند الله يوم الدين، وانما هم انما ينتفعون من منعكساتها الايجابية في الحياة العامة.

ولعل المطلوب من المسلم الحاج اليوم، وفي أجواء الجفاف الروحي التي يعاني منها مجتمعه المعاصر، أن يلتفت إلى ممارسة فريضة الحج بالشروط والضوابط التي حددها الله، وقررتها سنة رسوله؛وعكس تجلياتها البهية على الواقع، لكي يكون شهر ذي الحجة هذا بعشره الأوائل منه، بمثابة موسم تدريب سنوي لرفع كفاءة الأداء الأخلاقي، والسلوكي للمسلم الحاج بالضرورة في كل جوانب الحياة، وتجسيد للسلوك الإسلامي الراقي في الحياة العملية اليومية، بما يعين المجتمع المسلم على تجاوز ضغوطات الحياة المعاصرة، وما يرافقها من المثبطات الموبقة.  

هكذا إذاً ينبغي ان يكون الحج ورشة عمل سنوية جادة للمسلم، يراجع من خلالها اي انحراف في سلوكه ليتجاوزه، ويجدد ايمانه ليعمق صلته بربه، حتى تكون شخصية المسلم الحاج عندها، متسقة تماما مع ذاتها، ومع دينها، ومجتمعها، بما يمكنه من ان يؤسس بالمحصلة لمجتمع فاضل، خال من كل المشاكل التي نعاني منها اليوم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم