صحيفة المثقف

بين الهند والعراق

بكل ما تعنيه مفردة استقلال، لايستطيع احد التدخل في شؤونها، وان حاول مد اصبع فيها، فسرعان ما يأتي الانتقام صاعقا، رغم انها تربت على ثقافة  لا تحبذ العنف ولا تلجأ اليه الا عند الضرورة،دولة التعددية كما يمكن وصفها– احزاباً واثنيات ولغات وثقافات – 350 لغة وعدد لايحصى من الاديان والقوميات والشعوب مختلفة الاشكال ومتفاوتة العيش، يتجاورفيها الغنى والفقر وطبقة البراهما مع طبقة المنبوذين على مابينهما من طبقات ومستويات،  لكن ذلك الموازاييك الهائل،  تضمه دولة واحدة مهابة  مطاعة،ليس فيها سوى جيش واحد وحكومة مركزية واحدة ولها سياسة خارجية واحدة كذلك، يجمعهم ولاء واحد اسمه الهند، أما احزابها وحركاتها السياسية، فهي تتنافس على السلطة بشعارات ومنطلقات وخطابا وسلوكيات توجهها بوصلة واحدة : الهند ولاشىء سواها .

العراق بلد مهلهل، لايتجاوز عدد نفوسه الثلاثين مليون نسمة – وهو رقم مجهري قياسا-  بالهند -  الديمقراطية فيه وليد عليل متعثر الخطى كما يبدو عليه، والخلافات تضرب كل شيء فيه – احزاباً واثنيات وطوائف – رغم انه لايحوي سوى لغتين رئيستين رسميا  – العربية والكردية – ولغتين رديفتين – التركمانية والكلدواشورية – فيه ديانة واحدة يتكلمها مايقرب من 95% من سكانه – مع بعض الديانات الثانوية -،هو على ذلك لديه ثروات طبيعية ليست قليلة وارضاص خصبة لكنها تحتاج الى تعاون دائم بين مكوناته، واعداء يطوقونه من كل جهة، يحتاج كف اذاهم الى  وحدة متراصة في الموقف والتصرف .

في الحسابات المجردة ، يفترض ان  المقارنة تميل لصالح العراق من حيث القدرة على تكوين دولة واحدة  بمشاكل اقل وتوجهات اكثر وطنية ، دولة قوية بما يكفي للدفاع عن استقلالها وحماية شعبها، خاصة انها توازي  في مكونات القوة ، ما يحيط بها من دول مجاورة ، فمجتمعها مستقر بالمعنى العام، لم يشهد حروباً أهلية قد تحملها ذاكرة اجياله، ولا انقسامات حادة في قضايا  وطنية عامة، أما الصراعات السياسية والانقلابات التي شهدها عبر تاريخه المعاصر، فلم تنعكس في الجوهر على بنيته الاجتماعية، اذ بقيت بمحتواها على مخاضات فوقية تتفاعل في السلطات الحاكمة التي كانت منفصلة واقعيا وممارسة عن المجتمع رغم محاولاتها التأثير فيه .

لكن الحسابات ذاتها كانت تؤكد – ولا تكتفي بالاشارة وحسب – بأن العراق لم يشهد يوماً استقلالا حقيقياً، فقد كانت احزابه وحركاته السياسية ومنذ بداية تشكل دولته الحديثة، قد رهنته الى الخارج، لقد استوردت افكارها وايديلوجياتها  وانظمتها الداخلية، ورسمت سياساتها وتوجهاتها – سواء كانت تلك الاحزاب حاكمة ام مطاردة – وفق جزئية العراق لا كليته، لذا لم تجد غضاضة في ان  يخطط لها ويشرف على انقلاباتها ضباط  وسياسيون غير عراقيين، وان تعلن ولاءات اخرى غالباً ماكانت على حساب العراق .

حينما سقطت الدكتاتورية التي فضلت دائما العرب على العراقيين، جاء التغيير عاصفا وبأيد خارجية تخطيطا وتنفيذا واشرافاً، وفي حالات كهذه، تميل الشعوب الى الاحتماء بمكوناتها الداخلية لمواجهة الخطر، لكن سياسيي العراق وانطلاقاً من ولاءاتهم القديمة، فعلوا غير ذلك، اذ كان معظمهم بمثابة وكلاء لهذه الدولة او تلك .

كل دول الجوار، فتحت وكالات سياسية في العراق، حتى اصغرها واقلها شأنا، ومع ذلك لم تجد صعوبة في ايجاد الوكلاء، تارة بإسم المشترك المذهبي وحماية الطائفة، وطوراً باسم القومية وحماية العروبة أو الشعب الكردي او التركماني  في العراق الذي يحاول جاهدا جمع اوصاله .

في مرشحين   جمعوا على عجل  عام 2005، وبضغوط من شتى الاتجهات، خيضت الانتخابات بقوائم مغلقة لايعرف اساسها ولا من وضعها، ثم لينكشف المشهد عن نواب من كل نوع اختلفوا لاحقا على كل شىء، لكنهم وعلى قاعدة : ربّ ضارة نافعة، خلقوا بعض الحيوية – ولو من باب التندرعلى مايفعلون -  ليس مهماً انهم شبعوا بعد جوع واكتسوا بعد عري وبنوا قصورا واقتنوا ثمين المركبات، المهم انهم قاموا بما تطلبته الديمقراطية بالمقاس العراقي .

كان عددهم 275 نائباً بتقدير نفوس العراق سبعة وعشرين مليوناً ونصف، وبواقع نائب واحد لكل مئة الف من السكان، أما لماذا هذا الرقم بالتحديد؟ وماحاجة البلد الى كل هذا العبء من النواب؟ فسؤال بقي طي الغيب .

ثم ما ان مرت اربع سنوات، حتى قفز العدد الى 325 نائباً بزيادة خمسين نائباً دفعة واحدة، رغم ان المعلن يشير الى اعتماد زيادة 2,8 كنسبة عامة، وهذا يعني ان نفوس العراق سيزيدون بنسبة لاتتجاو ز الثمنمائة الف نسمة على مجموع السكان، لذا يفترض بالزيادة على المقاعد ان لاتتجاز الثمانية مقاعد في احسن حال، لكن العبقرية السياسية في العراق، قفزت بها الى خمسين نائبا.

الحسابات المضوعية كانت تقتضي ان يسلك العراقيون سلوك الدول الديمقراطية العريقة التي يكون عدد النواب فيها ثابتا فيما ترتفع نسبة التمثيل نسبة للنائب الواحد ، فنواب الهند عددهم اربعمائة نائباً  منذ ان كان سكان الهند لايتجاوزون نصف عددهم اليوم، فماذا لو اعتمدت الهند  الطريقة العراقية؟

سيكون لديهم 1300 نائباً وبعد اربع سنوات سيتجاوزون هذا الرقم بكثير مع ارتفاع عدد السكان، وهكذا الى ان يصلوا الى عدد نواب بأرقام فلكية .

ماذا يعني كثرة النواب؟

رواتب مجزية ونثريات وسفريات ورواتب مرافقين وحماية وموظفين خاصين، مع حساب الراتب التقاعدي مدى الحياة، وهكذا تتكفل ميزانية الدولة بكل تلك الاعباء مقابل مزيدا من الخلافات وصعوبة السيطرة على هذا العدد من الاصوات الناطقة كل بأهوائه وولاءاته من شتى الاصناف، في مقابل مردود يقترب من الصفر، ذلك لأن النائب غير ملزم بحضور الجلسات  ولا يستأذن احد حينما يرغب بالسفر، وهكذا يعيش عالة على الشعب الذي انتخبه مع امتيازات لا تتوفر لأحد دون عمل وكدّ، كما يفعل رئيس الهند الذي يدير ذلك البلد العملاق بعمل متواصل قيل انه بلغ ثمانية عشر ساعة في اليوم، مع تقاضيه راتبا لايعادل نصف ما يتقاضاه اي نائب من نوابنا .

أما النواب الهنود، فهم يجوبون المقاطعات الهندية طولا وعرضاً – أو مقاطعاتهم على الاقل – يسمعون ويرون فينشرون الوعي ويساهمون في بث روح الوحدة  وحب الهند بين مواطنيهم، القوانين تشرع في وقتها، والخلافات تحصر في قبة البرلمان، ومع كل ذلك، لايكاد احدهم ينال من الامتيازات المادية، جزءا يسيرا مما يناله نوابنا، فهل من فارق بيننا وبين الهند؟؟

الفارق في قاعدة ربّ ضارة نافعة  مرة اخرى،  ففي بداية استقلال الهند عن بريطانيا، عاشت تجربة انفصال مروعة شهدت حربا  اهلية ذهب ضحيتها عشرات الالاف من مواطنيها .

الذين انفصلوا عن الجسد الهندي، كانوا بغالبيتهم الساحقة من المسلمين، فشكلوا دولة اخرى اطلقوا عليها اسم باكستان .

شقت الهند طريقها بعد الانفصال وبلسمت جراحها لتنهض من جديد كواحدة من اقوى دول العالم .

فيما لم تسر باكستان  طويلاً، فقد نشقت على نفسها هذه المرة، فتشكلت من رحمها دولة اخرى اسمها بنغلادش، وكانت الباكستان قد خسرت جميع حروبها ضد الهند، ثم انتقل القلق الى  الداخل الباكستاني، اذ سرعان ماخرج من بعض فقهائها  افكار متطرفة  ستشكل لاحقاً واحدة من المرتكزات الفكرية التي انضوت تحت لوائها اعداد متزايدة من المجموعات الارهابية،من ضمنها طالبان باكستان   التي شنت حرباً مدمرة ضد الشعب الباكستاني مهددة بالمزيد من الانقسامات والكوارث  .

فماذ كان يمكن ان يحدث لو لم تنفصل باكستلن عن الهند؟

ليس من المستبعد تصور النتيجة، فهي ستكون بلاشك مشابهة لما تعانية باكستان اليوم .

العراق كان على شفير تجربة مشابهة – ماتزال احتمالاتها قائمة – فالاكراد بقوا يرفعون راية الانفصال في كل مناسبة، تجلت بالعديد من المظاهر – المطالبة بانشاء جيش خاص – المطالبة بضم اجزاء كبيرة من الاراضي العراقية الى اقليمهم الذي يعيش وضعا خاصاً بمقومات دولة ناجزة الاستقلال، تهديدهم بعدم المشاركة في الانتخابات النيابية عام 2010 اذا لم يتم الحصول على مقاعد اضافية لمحافظات الاقليم، كذلك اذا لم يحصلوا على ميزانية اعلى تقتطع من الموازنة العامة، واذا تحرك جندي عراقي في مناطقهم او في المناطق المتنازع عليها من  دون اذن منهم – وهكذا يرتفع سيف الانفصال في كل مناسبة، ما يجعل السؤال يرتفع في كل مرة، ماذا سيحدث لو انفصل الاكراد؟ فيكون الجواب : رب ضارة نافعة – لكن لا احد يتمنى تلك الضارة النافعة فيما لو انتصر العقل  البناء على حساب الطموح المدمر .

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم