صحيفة المثقف

شاعرية الغربة وأمل العودة .. قراءة في ذات الشاعر ومكنونات كلماته ..

هو لايعرفني ولكني أعرفه  ..  فبالرغم من تلك المسافة الشاسعة التي تفصل بيننا إلا انني لم اشعر يوما  انه قد غادر مكامن القلب والروح .

يحيى السماوي ذلك الفتى السندبادي الذي رحل الى بغداد الحلم قادما من "بادية السماوة" .. إلتقيته في سبعينيات القرن الماضي وهو لمّا يزل طالبا ً في كلية الاداب / الجامعة المستنصرية وكان ذلك اللقاء في إحدى مقاهي الصالحية ببغداد يوم كانت تلك المنطقة الجميلة تعجّ بالحركة خاصة وأن مبنى الاذاعة والتلفزيون تحتضنهما ، فكانت تلك المقاهي  "ملتقىً" للمثقفين والفنانين والهواة على حد سواء . كان ذلك اللقاء سريعا ..وعن طريق أحد الأصدقاء الذين تربطهم بالسماوي زمالة الدراسة ويجمعهما حبهما للشعر الذي جعل منهما خصمين وندين على مدارج قاعة المستنصرية اثناء المباريات الشعرية التي كانت تعقد بين فترة واخرى وأذكر أنّ يحيى السماوي قد أطلّ على مسرح القاعة بأبيات لفت اليها انتباه الجمهور حين  قال :-

 لأنَّ عينيك بعمق الكاسْ      

صرتُ ابا نؤاسْ

 

لأنّ عينيك هما حدائقُ الأحلامْ

 صرت انا الخيّـامْ

 

لأنَّ عينيك بلون ِالسماءْ

صرتُ مياها ً

فابعـثيني للعطاشى ماءْ

 

لأنّ عينيكِ تحبّانِ السنا

وتكرهانِ الحربَ والظلامْ

غنّيتُ للعشق ِ وللسلامْ

       

وعندها  دوّت القاعة بالتصفيق فكانت تلك القصيدة على ايامها فاتحة لبروز شاعر اسمه يحيى السماوي ، ولم أره بعد ذلك إلآ انني كنت متتبعا أخباره حتى فوجئت يوما بأنه قد ترك البلاد وسافر بعـيدا حاملا معه صرة الترحال عله يجد مرفأ " آمنا ً " لزورقه المتعب ..

لم يكن السماوي الوحيد الذي غادر البلاد فقد سبقه العشرات من شعراء وأدباء وفناني العراق بسبب ذلك الضغط الهائل من معسكرات النظام البائد ، وهناك في الأقاصي من بلاد الله الواسعة حطت تلك الاقلام لتكتب من جديد وبإبداع كبير شهدت لهم اروقة الصحافة والاعلام في تلك البلدان .

فكانت الغربة والهجرة سببا ً في نهوض الهمة العراقية كطائر الفينيق عندما نهض من بين الرماد والخرائب .

يحيى السماوي كانت بدايته في بداية السبعينيات مع ديوان / عيناك دنيا / تلاه الديوان الثاني / قصائد في زمن السبي والبكاء / بعدها بسنوات امتدت حتى عام 1993 اصدر ديوانه / قلبي على وطني / ثم / جرح باتساع الوطن .. والملاحظ لعناوين دواوينه الاربعة الاولى انه  اختارها من نزف جراحاته وهول ما أحاطه من نكبات ، نكبة الوطن وحمل حقيبة   السفر ليهيم في رحاب الغربة القاسية فقد اختار استراليا وطنا ً للاقامة فيه قادما ً من السعودية التي عمل فيها  في الصحافة  لفترة محدودة ، وبعد ذلك الانقطاع يعود

السماوي ليصدر ديوانه السادس /عيناك لي وطن ومنفى / يضم بقايا رماد حروفه المكونة من ثلاثين قصيدة  تجمع بين الشعر العربي الموروث والحداثة ، وهذه مختارات من شعره الذي احتوته  دواوينه الشعرية ويلاحظ أنّ شاعرنا قد أغرق نفسه بلجة الحزن على الوطن والتماهي فيه حتى امتزجت روحه معه يقول: 

 

   عجبتِ لانَّ "  بعضا" من عناء ِ

    يكاد يغص ـ  ياليلى  ـ بماء  ِ ؟

 

فكيف بعاشق في دار منفى

  يكاد يغص حتى بالهواء ِ ؟

 

الى أن يقول في اخريات القصيدة .:

وليلى لم تكن ليلى ولكن 

 اكنّي باسمها خبزي ومائي

 

وبيتاً في السماوة وهو طينٌ

   ونخلا ً ينحني فرط الحياء

 

ويقول  أيضا:

 لاني أحبكِ دون حـدّ ِ ..

لاني تحديت فيك ِ

 التحدي ..

 

لانك عندي بساتين عشق ٍ

وأنهار وجد  ٍ

وأقمار مجدِ :

 

يقولون عني

عزيز ٌ أذلَّ الهوى مقلتيه

فضاع على زهر ثغر ٍ وخدّ ِ ..

 

يقولون .. لكنْ

رضيتُ التحدي ..

لأنك كالماء والخبز

كالشعر عندي !

 

وفي أبياته التالية يتذكرالعراق في المحنة زمن الديكتاتورية فيقول :

تعبنا ياعراق ُوأرهقتنا

رحى الايام ..  أدْمَنّـا  الحدادا

 

أرى عشرا ً   مضين َ  ولا صباحٌ

يزيل بنور   طلعته السوادا

 

وهكذا يمضي السماوي متنقلا بين جراحاته وآهاته التي ينفذها على الورق فتشع قصائدَ من ألم الغربة ..  وفي لقاء جمعه بالشاعر المغربي ابراهيم قهوايجي باح السماوي له بمايعتلج  في صدره من انين .. ولأهمية هذا اللقاء تعال قارئي نطوف في مجتزآت منه ..  ففي سؤال /ماذا اضافت تجربة المنفى من خصوصيات معنوية وفنية لابداعك الشعري قال :

اهم ما علمني اياه المنفى انه جعلني اكتشف طعم ونعمة البصر حين تصاب عيوني بالعمى .. أما مالذي اضافه لتجربتي الشعرية فأنه أبعد حبل المشنقة عن عنقي وأبعد الشرطة عن حنجرتي وجعلني اغفو على مقربة من اطفالي لا تفرغ للكتابة عن وطن قلت فيه :

ثلثا دمي ماء الفرات   وثلثه

 طين بدمع العاشقين مذوبُ

 

وقلت فيه أيضا:

لولا خشيتي من سوء ظن ٍ

 وماسيقال  عن فقدي  صوابي

 

لقلت أحنُّ يابغداد حتى 

 ولو لصدى طنين ٍ من ذباب ِ

 

وفي سؤال اخر / حدثنا عن طقوس كتابة القصيدة لديك اجاب:

القصيدة كالحب والمرض , تأتي دون موعد مسبق ..  وسأكون كاذبا لو قلت ان للكتابة الشعرية عندي طقوسا ..  فقد تفاجئني القصيدة وانا اقود سيارتي ، او وأنا على وسادتي احاول اصطياد عصوف النعاس ..   بل كثيرا ماتوقظني من نومي لاكتب ماتشاء ..  سبق لي ان كتبت قصائد على علب سجائري وحدث والله ان كتبت مقاطع عديدة على راحة يدي

 

واخيرا ماذا تعني لك الكلمات التالية:

 

العراق ؟

 أجاب:

السماء الثامنة التي جعلها الله أرضا ..

 

الشعر؟

أجاب: الابجدية التي منحتني وطنا من ورق وشعبا من كلمات ، والمرض الذي يمنحني العافية .

 

المنفى؟

أجاب: حبل المشيمة الذي يربطني برحم العراق ..

 

هذا هو شاعرنا الكبير يحيى السماوي الذي أهدى الى روح أمه ديوانه الاخير"شاهدة قبر من رخام الكلمات " فكتب في إهدائه :

 

الى روح الطيبة امي وقد غفت اغفاءتها الاخيرة قبل ان اقول لها تصبحين على جنة ..

 

             أحمد فاضل

        بغداد / العراق

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تركيم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم