صحيفة المثقف

النخب العربية وقضية العراق: أزمة فكر أم مأزق خطاب؟

آثارها طويلاً وأفقدتها في الغالب  دينامية المبادأة والفعل، لكنها في العراق لا بد ستعاني معضلة قد تختلف في إنعكاساتها عن كل مر بها من هزائم وإنكسارات .

 وإذا كان الإعلان عن هذا،لا يفعل سوى وصف الواقعة دون تبيان الأسباب أو التقرب منها، فإن مركزية السؤال ستبدو وكأنها أصبع أتهام يجد موضعه و مكانه إنطلاقاً من حيثية ما تطرحه هذه القوى على نفسها بإعتبارها " قوى التغيير "  التي أخذت على عاتقها " إنجاز مرحلة التحرر الوطني " ووضع معارك الشعوب على رأس أولوياتها، فهل كانت تلك القوى متساوقة مع ما طرحته من مقولات كشفتها مخاضات ومسارب وعرة؟ أم أن بوصلتها فقدت صحيح الإتجاه منذ البداية ؟

المتتبع لمواقف تلك النخب وعلى إمتداد تاريخها " الطويل "، سيجد ولا شك أنها كانت تتجه في الغالب الى الوقوع أسيرة سحر الخطاب ومجانية إطلاقه على مرتكزات العمل وصعوبة مسلكه، وذلك لعجزها عن الفعل أولاً، و للحاق بما تسميه " نبض الجماهير " ثانياً، كي لا تخسر " شعبيتها " إذا تورطت بطرح مواقف مغايرة ذات بعد ورؤية مختلفين عما هو سائد، ولما كانت الشعوب العربية  تبحث دائما عن  " المخلص " المتجسد بصورة البطل الفرد الذي سيهزم أعداءها ويقودها للنصر، وهي الصورة المترسخة  في المخيال الشعبي نتيجة ترسبات عميقة ذات منشأ معتقدي وإجتماعي متوارث، لذا قد لا تجد هذه القوى غضاضة في التضحية بمبادئها وقيمها مسايرة  للشعوب في نظرتها "للمخلص " المتوهم .

وقد إمتلأ الموروث العربي بسيرة البطل الفرد نصير الضعفاء  وملاذ الخائفين،ثم إتسعت أطراف الصورة هذه وتم ربطها وإسقاطها على شخصية ولي الشأن الواجبة طاعته كما تكرست في المفهوم الديني والتي شرعتها مجموعة من الإجتهادات والأحاديث عن " المستبد العادل " وإشتقاقاتها الفقهيه في " من قويت شوكته وجبت طاعته " وغيرها من مقولات جعلت مشروعية الحاكم تنبع أساساً من قدرته على الإمساك بمقاليد الأموروتحقيق الغلبة والقهرأياً تكن الوسائل المتبعةّ .

 ولا يختلف الفكر الإجتهادي  في الجوهرإلا في بعض أشكاله وتمظهراته، فالمخلّص ذو المنشأ الإيماني عند طائفة، الذي توكل مهام قيادته الزمنية الى ولاية فقهيه يتفق على إجتهادها وجدارتها، هو المعادل الموضوعي - في بعض أوجه الفكرة الإجتهادية- للخليفة أو الحاكم المتموضع زمناُ ومكاناً والذي تعد معارضته ضرباً من المروق يستوجب العقوبة  .

وإنطلاقاً من هذه القواعد أسست دعائم الفكر السياسي العربي وحددت ثوابته وإتجاهاته في مجمل ما تمخض عنه من نتاجات فكرية وبنيوية طبعت الكثير من الحركات أو الأحزاب السياسية.

قد يكون لهذا الفهم،علاقة بما يعانيه الفكر العربي عموماً فيما يخص مسألة الديمقراطية وحكم المؤسسات بديلاً للحكم الفردي حيث يمكن رصد تلك الظاهرة بقراءة إجمالية في نظم العلاقات واللوائح الداخلية لتلك الأحزاب والحركات، ومع وجود تمايزات في منطلقات بعض القوى حددت بنتيجتها مسألة العلاقة مع الأنظمة، إلا أنها إلتقت جميعها في متجه واحد صبت مياهه في سواقي الأنظمة على إختلاف مشاربها، لذا فمن النادر أن يلحظ هناك من وضع مسألة الحريات هدفاً رئيسياً لتوجهاته بعيداً عن كونه في السلطة أوخارجها بالرغم من حجم اليافطات الشعاراتية المرفوعة في الأدبيات والخطاب .

تلك هي السمة السائدة التي حكمت مسلكية الغالبية العظمى من الأحزاب والتنظيمات العربية - الإسلامية منها او القومية أو اليسارية - على ما في هذه المصطلحات التصنيفية من تعسف فكري، إذ أنها تشيرالى هيمنة طاغية للأديولوجيا المتقولبة على حساب دينامية الفكروعطاءاته المتجددة، كما أن التسمية ذاتها لم تعد تعبرعن محتوى كانت له حرفيته فيما مضى من مراحل، وفي هذا المرتكز البنيوي،فأن تلك القوى إنما تتخذ معاييرالأنظمة وتستنسخ عنها أساليب رؤيتها وتقييمها،في الفكر كما  في الخطاب.

 وتتطابق الصورة في مواضع كثيرة، فإذا كان للأنظمة ملكها أو رئيسها الأوحد، فللتنظيمات الإسلامية  أميرها أو شيخها أو مرشدها الروحي، وللقوميين قائدهم الملهم المهاب وهكذا، من هنا تشهد مواقفها عموماً حالة من الإنتقائية والإلتباس، إذ أنها في الوقت التي تناهض نظاماً أو قضية في بلد ما، فأنها تؤيد دكتاتورا أو قوى سياسية في بلد آخر تحت حجج وتنظيرات شتّى، وفي هذا المشهد تبدو كمن ترسم نوعاً من الكاريكاتير السياسي في عديد سلوكياتها ومواقفها  .

قد لا تكون هناك غرابة في أن تتبع الشعوب ما ألفته حيث بقيت موجبات الطاعة تفعل فعلها عند الحاكم والمحكوم على حدّ سواء، لكن خطاب النخب التي من المفترض أنها إنتدبت نفسها لمهام التغيير وإخراج المجتمع من تلك الدائرة، ينتظر أن يشكل  خياراً آخر،لا يفضي الى  تتبع السلوك عينه  بتبني خطاب الحاكم من دون أن تترك لنفسها حرية التمايزوالإختلاف، فأين الخطأ فيما ذهبت اليه تلك القوى، أكان في المحتوى أم في الخطاب ؟

قد لا يختلف الأمر كثيراً، فإذا كان الموروث - الذي ينهل من مصادر متينة يصعب زحزحتها - قد ضرب بقبضته على المضامين الفكرية، فأنه قد أرخى بظلاله كذلك،على الأشكال التعبيرية لتلك المضامين، وتتجلى خلاصته بمنطق مذهل في تبسيطه وأحاديته : مادام " القائد "  قد إرتأى ذلك فهو لابد مصيب، هذه القاعدة التي حكمت مواقف بعض القوى السياسية العربية وربطتها  بهمروجات " صدام " وإدعاءاته، كانت تدخل بنوع من أوهام جمعية تنظر بإتجاه واحد عجز في الغالب عن البحث في الأسباب الحقيقية للهزائم والإنكسارات أوأعفى نفسه من مسؤولية بحثها، تاركاً تلك المهمة المتشابكة " للقائد " الفذ الذي لعب دوراً في حصولها، وهو بدورة سيعزو ما حدث الى مؤامرات خارجية ترفدها مساندة أعداء داخليين يرفعون مطالب خارج أوانها عن حريات وحقوق أنسان وديمقراطية وغيرها من الشعارات " المستوردة " ، وهكذا تدور طاحونة الدماء مفترسة كل مصادر القوة والمنعة عند هذا البلد العربي أو ذاك، فتدمر بلدان يقف فيها الإنسان جائعاُ مسحوقاً، كي يستمر" القائد " في مقارعة الأعداء ويخوض معارك " دون كيشوتية " تأتي بالمزيد من الهزائم لنبحث بعدها عن " بطل جديد " أو نجد أعذاراً للبطل المهزوم .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1260 الجمعة 18/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم