صحيفة المثقف

غيلان وينابيع الشعر الصافية .. العودة الى الذات مجموعة "لاأحد هنا..لا أحد هناك" نموذجا

فالشاعر يصغي الى صوته الداخلي، الى جوهر وجوده ليخلق منولوجيا حواريا، متحولا من دايولوج" dialogue" الصخب الخارجي مع العالم، الى الانصات الى الذات، الى جدل الروح الإبداعية غير المشروطة بأغطية ومسميات خارج نصية.

الشعرالحقيقي يضعنا دائما في مواجهة صاخبة مع العالم، ومع أسئلة عصيّة  مع ذواتنا ومع الله والتاريخ معا .

ليس الشعر عمارة هندسية أو منظمومة فكرية، ولا هو بحث في اللاهوت، أو حكم قيمة  الشعرليس قاضيا ولا متهما يدافع عن نفسه في لجّة هذا العالم  .

الشعر حب وبراءة واكتشاف .. هو فطرة  صلبة، وأسئلة لا تكف عن النزيف، سلسلة من الخسارات، والشاعر رئة يتنفس منها العالم هواءً نقيا، ضرع  سمين  يشرب العالم حليبه الكامل الدسم والشك، يقضّ مضاجع الملوك، وعلى أيقاعه يرقص العبيد جذلين بحريتهم..

ليس هناك مسافة بين الشعر والشاعر، فالشعر كيان ملتهب، والشاعر كائن لا شأن له بفحولة الناعقين، وحنجرته ناصعة لا أثر للنحاس فيها ولا صدى لجلود الطبل التي تهدلت في حضرة السلاطين ..

الشاعر فرد والشعر قبيلة، الشاعر أكبرُ من كاهن وأجل من نبي كاذب... والشعر مدونة الاصغاء لصوت الذات . الشعر نزيف الروح ساعة المواجهة وهو إبن اللحظة الماكرة " اللحظة الميتافيزيقية  على حد تعبير غاستون باشلار الذي يقول" الشِّعر هو ميتافيزياء لحظية. يجب أن يعطي، في قصيدة قصيرة، رؤيةً للعالم وسِرَّ نفسٍ وكائن وأشياء – الكل دفعةً واحدة. وإذا كان يتبع، في بساطة، زمن الحياة، فهو أقل من الحياة، ولا يمكن له أن يكون أكثر من الحياة إلا بتثبيت الحياة، إلا بأن يحيا، في مكانه، ديالكتيك الأفراح والمكابدات. إنه، إذًا، مبدأ تزامُن ماهوي، حيث يفوز الكائنُ الأكثرُ تفكُّكًا والأكثر تشتُّتًا بوحدته." . انا انتصر للشاعر الانسان غير المقنن سواء بعروض  الشعر ام بعمود الحياة وخيمتها الجاثمة على المخيلة.

 

أين غيلان من  هذا ؟

لست  قاضيا كي أجلد القامات لتنحني للشعر ؟

كيف يمكن للقراءة الشعرية أن تستقيم في حضرة غيلان الملتبس بين الإجتماعي والابداعي في وحدة لا نستطيع فك عراها إلا بما تمنحنا حياة غيلان ذلك التوافق الهارموني العجيب مع شعره ... هنا تصح قراءة غيلان الإنسان والشاعر معا . غيلان إبن اللحظة الهاربة،  فاذا كانت اللحظة الشعرية ميتافيزيقة، فالشاعر وحسب باشلار  أيضا "  هو، دليل طبيعي للميتافيزيائي الذي يرغب في فهم قوى الاتصالات اللَّحظية كلِّها، وحماسة التضحية، من غير أن يترك لازدواجية الذات والموضوعة الفلسفية الفظَّة أن تقسمه، ومن غير أن يترك لثنائية الأنانية والواجب أن توقفه. ويُنشِّط الشاعر ديالكتيكيًّا. ويكشف في الوقت نفسه، في اللحظة ذاتها، عن تضامُن الشكل والشخص. ويثبت أن الشكل هو شخص، وأن الشخص هو شكل. ويصبح الشعر، هكذا، لحظةَ علَّة صورية، لحظة القوة الشخصية. عندئذٍ يهمل ما يحطِّم وما يُفكِّك، ويهمل مدةً تتبعثر أصداء. إنه يبحث عن اللحظة. ليس في حاجة إلا للَّحظة. يخلق اللحظة.". لذا سوف  أبحر مع  هذا الكائن المائي، الذي تفرد منذ " اسمه" فهو غيلان فقط !! هل عرفتم شاعرا قبل غيلان  يختصر وجوده الفيزيقي بكلمة واحدة ؟؟  إذن هو من فصيلة  الشعراء الذين يدعون الآخرين  للترفق على الارض من وطيء  أقدامهم " خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد" كما يقول المعري . واذا كان المعري في نظري هو شيخ المتمردين  في نصه الشعري والنثري معا " فهو القائل "ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهة‏،وحق.لسكانِ البسيطةِ أن يبكوا‏،يحطمُنا ريبُ الزمانِ كأننا زجاجٌ ولكن لا يعاد له سبك‏ ".

فانا أرى غيلان متمردا  شريدا أيضا، وليس صعلوكا،  لما لهذا المصطلح من إرث  ملتبس  في الحقل السسيو ثقافي العراقي تحديدا،إذ  تكسب وأعتاش عليه  الكثير من  أنصاف الشعراء . وغيلان عندي اقرب للمعري  في بحثه عن ينابيع المعرفة وهو  مبعث للسؤال دوما .  وكما يقولون عن المعري " الناس تاهت في مذهبه، فمنهم  من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه ملحد ورووا أشعارا أصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، كما انه لم يقل الشعر كاسبا ولا مدح احدا راغبا"

كذا هو غيلان لايمكن أن تحدس هويته وفقا لمعايير توزيع  الهويات الآن.. في ثقافة عراقية ملتبسة وقلقة. ولكن غيلان يبعث  على الإطمئنان حين يكون الرهان على الإنسان والشعر، فهو لا يكف عن الإنسانية والانتصار للإنسان، وهو ينتصر للشاعر منتجا، ولعل مجموعته " لا أحد هنا .. لا أحد هناك " تمثل ذروة النضج النصي لمفهوم الشعر الخالص في تقديرنا .. وذا ما اتفقنا مع" فون " في عبارته  الشهيرة والتي غدت مصطلحا ادبيا وهي " الاسلوب هو الرجل" فاننا نجد الشاعر قد  أنجز شعرا يشبهه، شعرا يقيم  حوارا عميقا مع الذات، ممثلا لأسئلتها  وخيباتها وانكساراتها، ممثلا للضعف الانساني النبيل، غير منتصر للبطولات

أزعم ان في نصوص المجموعة وفرة شعرية واضحة ورؤية شمولية لقلق الكائن وجوديا ..

بهذا الإستهلال سوف أدخل الى عالم غيلان الشعري  فقط، غيلان  الأثر النصي. في مجموعتة الجديدة " لا احد هنا .. لا احد هناك، أتعقبه  بكل ممكناته، أتعقب ذراه وهضابه، أتعقبه وأشم تراب نصوصه  كقصاص الاثر في صحراء، علما أن هذه المجموعة  جاءت بعد  مجموعتين هما " تراتيل السومري، خريف  يطرق الباب ولا يدخل "

 

الشعر والبساطة

كثير من الشعراء في العالم يحلمون بان يكونوا بسطاء، حياتيا ونصيا .. وهذا لا يتوافق إلا إذا كان الشعر متوافقا حقا مع رؤية الشاعر الشاملة  للعالم . والشاعر غيلان هذا الكائن المتمرد الأزلي والمتشرد طوعا وكرها  يتنفس  في حياته عبر الشعر والتمرد والغليان،إنه  من نمط  الشعراء الذي يصح  بهم القول " شعراء التجربة الحياتية " أو  كما يقول شاعرنا الكبير  سعدي يوسف عن غيلان، " إنه  شاعر مجنون يسلك طرقا مختلفة في قول الشعر، وهو  أمير الارصفة ". وهذه  إشارة الى غيلان المتمرد والمتشرد حياتيا  وغيلان صاحب " مجلة الرصيف " التي اصدرها عام 1981 في بيروت وكانت مشاكسة كغيلان.

 

 

 

 

الشعر وينابيع الذات العميقة

يبدأ الشاعر مشواره الشعري في مجموعتة الجديدة مع نقيض ظاهريا له في الجنس، أهو امرأة أم وطن .. أم قضية أخرى  ..  لاندري .

يقول في نص " مقدمة" وهو ما يجعلنا نقف مراقبين للتحولات التي تطرأ على الحياة النصيّة للشاعر من خلال كمية البوح الشعري .

"سأكتب  لكِ ..." لماذا يؤنث غيلان المُخاطب ؟ هل لأن علاقته بالانثى يشوبها الإرتباك؟ هل أن الأنثى هي الأكثر صدقا لتقديم الذات ؟ هل العلاقة بين الأنا والآخر تماهت في صيغة تغريب واغتراب، فحولة وانوثة، سيد وعبد،  ثنائيات متعددة لذات منقسمة، متشظية..

لكن الفشل سوف يصاحبنا عندما نتابع النص "المقدمة" ليشيء لنا بكائن نصف مخذول، منفي ّ، كائن  متحول.

ثنائيات يقحمنا الشاعر في مفتتح بيانه الشعري لا نقوى على تصديقها شعرا سوى إنها فخاخ مزمنة، تورمت على زمن الشاعر الروحي وتقيحتها الأماكن .

" سأكتب لكِ فليس من شفيع لي غير الحروف، يا حقل الوضوح  يا دائنة الجميع

ومديونة لي" .

" يا شاسعة مثل الحرية، وضيقة كيوم سداد الديون "

" يا شمس يومي التي انتظر تغربين، وانا اشرق عليك من شقوق  المنفى، يا منفية فيّ .. وانا المنفيّ فيكِ"

حتى يذهب بنا الشاعر الى التحول المفهومي في العلاقة مع الاخر" إنثى، حبيب، وطن"

يا عرقا كلما اقتلعوه نما في شراييني

يا نديمي يوم ولدت ويوم أموت، ويوم  أشرب كأس التحولات"

يا لهذا البيان من فضح لسر كينونة الشاعر ووثيقة إدانته .. فالشاعر لا يستطيع أن يكون مقنّعا . أليس الشاعر لغزا؟نعم هو اللغز وهو السؤال.

إن غيلان يوهمنا نصيا أنه يخاطب وطنا متعينا إسمه البلاد، ولفرط حذاقته لا يجرؤ على  تسميته، ليس عجزا وإنما حبا، فهو " بلادي يا بلادي .. يا بلادي"

في المقدمة يتحول الشاعر الى بلاد ووطن ..

في النص الثاني من المجموعة سوف نتطلع الى نص " رأيت" كأن الشاعر خارج  توا من حقل  الا أدرية الى حقل  الرؤيا" كلما أدخل مدينة  أُولد حرا، فينكشف  الفقر،  حرارة روحي تطرد  الكسل فينكشف المعنى"

فاننا عندما نتبع  الشاعر في ترتيب نصوصه . فلم نجد هناك من إعتباطية في تقديري لهذا الترتيب في مجموعة شاعر يمتلك رؤيا واضحة وهذا قد يأتي من لاوعي الشاعر وليس  من وعي وقصدية .فبعد المقدمة ونص،" رأيت" : الذي يؤكد الشاعر حدوسه من : معادلة الروح التي تطرد الكسل، والاسماء دغل الحياة " يصيح الشاعر منتفضا

إعطني منجلا أضع حدا لسلالتها..

ليصل الى غابة من الألم يلخصها بالقول"

 كنت أحاصر تلال َ الخذلان

فرأيت جان  ينفض عن ثوبه

العراق"

لم يكن وجود "جان" هنا وهو جان دمو الشاعر المتمرد المتشرد الكبير، وأحد أعضاء  جماعة كركوك الشهيرة في تاريخ الثقافة العراقية وهم " انور الغساني وجليل القيسي وجان دمو وسركون بولص وصلاح فائق وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي ويوسف الحيدري والاب يوسف سعيد" وان وجود  " جان دمو " في مجموعة غيلان  لم يكن  محض صدفة او إعتباط إشاري، انه نتاج  حاضنة  مشتركة في وعي  ولا وعي الشاعر غيلان الذي ينتمي الى الهامش الفاعل دائما مبتعدا عن المركز اللامع  البراق . ..

جان رمز لمرموز، جان كناية لفعل تحول في علاقة الشاعر والشعر، وهو يحاول البحث  عن  شفعاء، وقد  ورد ذكر " جان دمو " في أكثر من نص في المجموعة .

بعد هذه النصوص المفعمة بالسؤال الوجودي العام، نرى أن نصوص الشاعر ستميل  الى التركيز على الخاص، الرجوع الى الذات، ففي نص" ستعثرين " سنجد ظلالا للندم والبكاء  وهما ما يشير الى الذات " ستبكي الحروف ببسالة المنتحر وتدفع في عروقك  الندم الذي هجرته في السابعة، إذ كسرت ساعة العيد وفرحت لموت أمي"و"ما أجمل الخسارة حين تملأ الجدران مثل فم الضحية، ستعثرين على أكاذيبي في المدرسة وكراهيتي للمعادلات والتاريخ وحبي المجنون للجغرافيا، إذ رسمت خارطة الجنة صغيرا وبلت عليها، كما بلت كبيرا على أيامك التي جمعت يداي".. في النص ذاته يعلن الشاعر رجوعه الى مملكته الروحية والانسانية معا بصرخة  يعيد فيها صدى المسيح " مملكتي ليست من هذا العالم " ليعيد الصدى " انا لستُ من هذا العالم".. أهي قطيعة الشاعر مع  العالم حقا أم فخ  آخر من فخاخ غيلان ؟

...ماالذي تحتاجه القطيعة فعلا  ؟ تعالوا نسافر مع الشاعر في نص " محطة" كأنما الشاعر يصرّ في الابتعاد عن الصراخ الخارجي ليتوحد مسافرا الى روحه غارفا من ينابيعها الصافية . فتبدأ الاسئلة " هل من قطار يقلني الى صمتكم  ؟؟ الى اين يمضي  الناس إذا؟ ويختم النص  برغبة عارمة للتحرر من المحيط " أعطني  عود ثقاب، أريد نارا

أجفف عليها قميصي الذي بللّه الندم"

بهذا النص  الاستفهامي يضع  الشاعر العالم كله على كف عفريت مفترضا أن التدوين هو سيرة نار تتناوب سعيرها الأرواح والأجساد  معا "

أيُّ ندم يقحمنا الشاعر الرائي  به؟؟

الندم الذي يرمي الشاعر اليه موجود  في النص التالي " غرباء" "  وتفرقوا .. كلُّ يحملُ حطب احزانه،كأن المدينة خلت من عود ثقاب"

... يا للغرابة.. الشاعر يريد أن يحرق المدينة والندم معا أنه رثاء المحيط  الحاضنة . وهنا في نص غرباء أشم عودة غيلان الى ضرع السياب الشعري وكأن غيلان يتماهى مع  نص " غريب على الخليج " لقد  تناص غيلان مع الشاعر الكبير بدر شاكر السياب بمهارة واضحة ولكنه لم يفلح ان يخفي تقاسيم وروح السياب الشعرية على نصه، ولاغرو في ذلك فغيلان يعترف صراحة بأبوة السياب الروحية له . وأعتقد إن إستعادة روح  السياب هنا موفقة تماما لانسجامها مع روح الشاعر الذي يشعر بالغربة  ذاتها والذي أحسها السياب في الخمسينيات من القرن المنصرم.. إنها دورة استحالة الأرواح الشعرية إذن.

يمضي الشاعر رحلته للغور مع ذاته رافعا أصابع الإحتجاج على العالم بأسره، ففي نص" مصباح  معلق في فم الميت"  يستهل غيلان نصه " هكذا وجدت لغتي، كان سريري يكتظّ بالنمل  والناس  قشّ"  رحلة النص  تنكشف عن شك وخوف  من اليقين المؤدي الى الهلاك " ساعدني أيها الرب  كي  أوقد مسلك الشك، فهذا النمل يملأه اليقين فيغيضني" الشاعر مهووس بالشك، الطريق الذي لا يفضي  الى الإستكانة والدعّة حياتيا ونصيا. أما في نص "مدينة" وهو النص الذي أعلن  فيه الشاعر انعتاقة التام من المدينة، القفص الكبير .. انه نص الرثاء  للمحيط بأفقه المكاني " في عجائب الخوف تتشرد جثة وتضيع عيون، تائها في غرف مغلقة بقفل الله، أودّع سكانها عند كلّ باب " وفي مشهد مثير يضع  الشاعر المدينة " المكان" في حالة إنسنة الاشياء " في عجائب  الخوف تمشي الهدوم ويُعرض الناس في زجاج الكلام"  إمعانا من الشاعر في ضخ أكبر قدر من الكوميديا السوداء على المكان .. لتصل القطيعة تماما بقسوة المكان على الشاعر أو الذات الانسانية النافرة وغير المدجنة " في عجائب الخوف لا يراد للشاعر أن يخلد الى النوم" وكأن المدينة حفلة صاخبة بأقنعة تنكرية والشاعر يريد تثبيت ذاته حتى عبر النوم، وما يمثله النوم رمزيا من موت الكائن أو رجوعه الى كينونته الإنسانية والتحرر من الواقع  الموضوعي .

في نص التغيير الصارم الذي أهداه الى الشاعرالمبدع وديع سعادة، يشيء بتغييرات صارمة فعلا، القطعية الحادة مع الزيف وموت الكائن " لا أحد سيقبل  عملك ولن يكون بإمكانك الذهاب الى المتحف،، أريد أن أنام " وكأن جرحا سيابيا آخر ينكأه غيلان " متى أنام وأحس اني على الوسادة" هي  غربة الشعراء إذن.

التغيير الصارم لدى غيلان وهو الذهاب  الى الذات مع  وعورة المسلك ووحشته " سيكون الطريق الى ذاتك وعرا كخيط  العنكبوت وأعماقك صندوق أسود لطائرة منكوبة"

أيّ قدر يسوق الشاعر للإفصاح عن أسئلته الوجودية .. هو دائم القلق، دائم الاستفهام والشك والاحتجاج، شعور مفجع بالغربة " لا احد هنا  لا أحد هناك" وحشة وقلق وخوف يصل الى الهلع " وجع الأعماق أعمى مصاب بالشيزوفرينيا، تارة يُهشمني بعصا بحثه كحجّار محترف، وتارة يبعثر ذاكرتي أمام جحافل الغربان" .. خسارة الشاعر وخواء المحيط تدفعه لاعادة البحث " لا احد  هنا، أقرأ له تفاصيل الخسارة، ولا احد هناك أبدأ به  من جديد ولو بخسارة لاحقة" .. ليرتفع صراخ  الأنا المكلومة بالجراحات العميقة كما يشير نص" رذاذ" لست نجما، أنا مصادفة تتقاطع فيها الفؤوس النادرة، لا تكوني رهينة أقول لنفسي" .. بعدها يتفتق  لجام الروح ليمضي الشاعر الى ذاته طارقا بابها " أطرق باب أعماقك رغم شكي الغزير، أطرق بابك دون جدوى فأرفس بابي بقدم الخسران  وأطوف حولي، انا كعبة لم  يزرها أحد " . هذا النداء الخفي والشجن المكثف قاد الشاعر الى الاحتماء  بروحه  بتجربة صوفية تشبة تجربة  الحسين بن  منصور الحلاج وطوافه حول ذاته واغترابه عن مجتمع أوصله الى الموت بابشع  الطرق .

في النص الذروة كما اراه " أنا لست معي" وهو تتمه  لبيان الشاعر في العودة الى ذاته، حيث يتجرد  الشاعر من الخواء الجمعي ويسعى لأن يكون صرخة في الأثير " انا لست معي، وليست معي أمي ولا أبي، لا رغيف الخبز ولا شاي الصباح، ليس معي الصديق والصاحب ولا حتى الذكريات، أنا لست معي، لا عائلة حملتها على كتفي عبر الحدود، ولا أخي ولا أختي معي، لا البيت العتيق معي ولا الأغنية اليتيمة، لا الهناك  ولا الهنا معي، لايوم الولادة معي ولا العراق، كنت هواءً تتنفسه الطرق، وتلك الصرخة التي تسمعُ كانت لي، لم تزل تبحث في هذا الركام عن صدى"

لقد  مضينا مع الشاعر متفحصين أهم المهيمنات النصية التي تدلنا الى رحلة الشاعر الى أعماقه  الصافيه ..الى روحه،الى ذاته.. الهجرة الى الروح  ما كان يسكن غيلان في هذه المجموعة التي أزعم أنها من أدسم ما كتب ومن أقرب  النصوص الى الروح الشعرية الصافية  والتي عاد بها غيلان بعافية شعرية مكتنزة، وهذا بتقديري هو سر الشاعر الحقيقي الذي ينبعث كالفينيق دائما . إن نصوص غيلان نصوص إنسانية مليئة بالنقص والندم والخيبة والخسارات والتشرد والرثاء، لا بطولة ولا فحولة فيها، فيها آهات وحرقة إنسانية عالية، وهي سمات لم تتوافر في الكثير من نصوص غيلان السابقة . فخسارات غيلان تقف أمامها الذات وحدها مراقبة ومقومة وغير منتكسة، حيث  نرى في نص " الخسارة" "إيه إنها الخسارة  لا الأسماء ولا الأماكن تشفع لي .. إنها الخسارة، وحدها الذات تجمع أجزاءها من حواف الفؤوس"  نصوص غيلان مترعة بالعذاب الإنساني، وهي صنو التحولات الفكرية والنفسية له. وستبقى نصوص المجموعة  مثل "جنون" "بقرة نافقة" ليل" بحيرة الغرقى"الوحش" "البائع القديم" تسير في الخط العام لنصوص المجموعة، معنيّة  بالانتصار للذات الإنسانية في مقارعة وحش الحاضنات المكانية والتي تُعدّ كالوحوش الكاسرة التي تقض مضجع روح  الشعراء وتسلبهم جنونهم العذب، هذا الجنون النبيل الذي يريده الشاعر للحفاظ على  روح طرية وعذبة ومعافاة.. تحتفي بقلقها وأسئلتها وتذهب الى النوم .

من يمنح الشاعر نوما هانئا؟؟ فأذا ما نام الشاعر فلا توقظوه  لانه يحلم عنكم..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1263 الاثنين 21/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم