صحيفة المثقف

نحو علم نقد تجريبي

ربما يمكننا القول - في وقتنا هذا وبفضل الارث النقدي الكبير الذي انتج خلال العقود الاخير - بوجوب ظهور النقد الادبي العربي بمظاهر تطبيقية ثابتة، بمعنى ان تكون الابحاث النقدية ذات شكل علمي ثابت وغير خاضع للفردية، يقول (وندل هارز 1990) (النقد ليس موضة، ولقد ابدل بنظريات ادبية في معظم الجامعات، الادب الذي يكتب صار يركز على نماذج ثابتة . (1) ولا يحتاج هكذا امر مهم الا لخطوة الى الامام في اجراء مراجعة وفحص وتصنيف وتدقيق لما انتج من نقد ، يقول (احمد علي محمد 2007) (إن الممارسات النقدية التحليلية أو التطبيقية لا تزال في كثير من الأحيان أسيرة المناهج الغربية من نفسانية وبنيوية وتفكيكية، إذ أمضينا وقتاً طويلاً ونحن عاكفون على مدارسة النصوص الأدبية ولا سيما القديمة منها بإحدى طريقتين : إما الاعتماد على مفرزات النقد الغربي، وإما تقديم قراءات ذوقية متحللة من أي تحديد منهجي، والواقع أن تلك الممارسات لا ينقصها سوى المراجعة العقلية الفاحصة، وقد آن الأوان لإجراء مثل تلك المراجعة، بمعنى لا بد من تقويم تلك الممارسات لبيان محصولها الفني والفكري (2). هكذا مراجعة تجعل من نقد النقد ضرورة ملحة لأجل تطوير النظرية الادبية وليس امرا تكميليا كما قد يعتقد .

لا بد لعمل ادبي رصين ان يستند الى فكر وفلسفة عميقة وواقعية بغض النظر عن البحث في مقومات وعناصر الشيء الجميل الخارجي، او ماهية الاستجابة الجمالية الحاصلة في نفوسنا تجاه الشيء الجميل، فان هناك امورا تبلغ حدا من الوضوح يمكن من اعتبارها مستندا عقلائيا معتبرا.

الامر الاول: ان لدى النوع البشري بجميع انتماءاتهم وتصنيفاتهم تمييزا وجدانيا اجماليا للجميل عن غيره، على الاقل بالاتفاق على جمالية الاشياء عالية الجمالية، وفي الواقع هذا الامر يوجه تساؤلات محرجة لفكرة نسبية الجمال.

الامر الثاني: رجوع الاستجابة الجمالية الى انظمة ومكونات شعورية وفسلجية موحدة لدى البشر رغم الاختلاف والتنوع الكبير في الاشياء الجميلة، ويمكن فهم العملية فسلجيا بتكون عملية التذوق من عناصر حسية وعناصر ذهنية تتفاعل في مستوى تحليلي اعلى في مركز للتذوق في الدماغ ، ومن هنا يمكن فهم عملية التذوق الحسي للاطعمة على انها جزء من نظام او جهاز تذوق عام يشمل عملية تذوق للحسيات والذهنيات .يقول (ماجد محمد حسن 2004 ) (أن التجربة الأساسية في مجال الجمال هي التجربة الحسية، لذلك يرى البعض أن الإدراك الجمالي هو في جوهره حدس، وليس تصوراً، وتقوم طبيعة الحساسية على بعد الاستقبال، بمعنى أن الإدراك الجمالي يحدث نتيجة للأثر الواقع على الحواس من قبل الموضوعات المعطاة (3)

الامر الثالث : بروز عناصر مدركة في العمل الجميل تحظى بقبول عام على انها عناصر جمالية كالاثارة والادهاش والابهار والتمكن من تمييز عناصر للفنية تمكن من تحقيق التعريف، ولا ريب ان نظرية التعريف مقومة للبحث الجمالي والنقدي بحيث ان عدم وضوح التعريف والاختلاف فيه يعد ازمة فيهما .

ان الشرعية التي حظيت بها الاعمال الفنية الغير مألوفة، ما كانت تحصل لولا تجاوز الفهم العام المألوف للجميل، وانما كان الاعتماد في تلك الشرعية على الاحساس الذوقي لجمالية تلك الاعمال، والتي دفعت بالنقد والنظرية الجمالية الى تفسير تلك المظاهر الجميلة غير المألوفة، وفي ضوء هذا الفهم، يكون واجب النقد ليس فقط بيان مظاهر الجمال في الاشياء الجميلة المتفق عليها ـ، وانما اعطاء تفسير لمظاهر الجمال في الاشياء الجميلة غير المألوفة، بمعنى اخر ان النقد هو جسر العبور للوعي والتفكير العام بما يخص فكرة الجمال . يقول ماجد محمد (فما تدركه الحساسية، باعتباره حقيقياً تدركه على هذا النحو حتى حين يراه العقل ليس حقيقياً، وعلى هذا فأن مبادئ وحقائق الحساسية تؤلف مضمون الجمال، وهدف الجمال هو بلوغ كمال الإدراك الحسي(4) ان هكذا فهم لعملية تحسس الجمال وعملية تفسيره ستساعد كثيرا جدا في تطوير الذائقة العامة والقدرة على تحسس الجمالي، وايضا ستساعد وبقوة على تطور فكرة الجميل في الوعي الانساني .

ان فكرة الاعتماد على معرفة تجريبية في ادراك الجميل تنطلق من فكرة ان الاحساس بالجميل اعمق واوسع واكثر تطورا من الادراك العقلي وتحليله، بمعنى اخر انها تستند الى فكرة ان ادراك الجمال ليس من وظيفة التفكير ولا التحليل وانما هي من مجال اخر منفصل . يقول هربرت ماركيوز " أن النهج الجمالي يقيم نظام الحساسية باعتباره مناقضاً لنظام العقل. وإنه في إدخاله هذا المفهوم الى فلسفة الحضارة، فإنه يتجه الى تحرير الحواس والتي بدلاً من أن تدمر الحضارة، فإنها تقدم لها قاعدة أشد إحكاماً وتزيد الى حد بعيد من ممكناتها. " (5)

ان فكرة النقد التجريبي تنطلق من معاملة النصوص كظواهر انسانية وليست مجرد اعمال فكر واستجابة لمتطلبات، وانما هي عمل انساني عالي المستوى متحرر من الزمان والمكان وان كان في مادته وموضوعه ومحتواه تأثيرات لهما . من هنا يكون واجبا لأجل تحقيق نظرية ادبية اصيلة الانطلاق من النص وليس الانطلاق اليه يقول (احمد علي محمد (إننا في النقد العربي بحاجة إلى التجريب النقدي، ولا أعني بالتجريب تجريب الأدوات المنهجية المأخوذة عن الغربيين أو غير الغربيين، بل أعني أن تكون هنالك ممارسات تجريبية تنطلق من النص الأدبي متفهمة سماته الفريدة وعلاماته الفارقة)(6)

من كل ما تقدم وبالخصوص ما اشرنا اليه من وضوح وتميز الادراك الجمالي وعناصر الجمال الخارجية والاستجابة الجمالية الداخلية، يكون بالإمكان بلوغ درجة مقبولة من المنهجية المستوعبة للأبداع، المعتمدة على حقائق مستخلصة بشكل علمي تجريبي من الاعمال الفنية، لأجل تحقيق نظرية ادب عربية اصيلة يقول احمد علي محمد (لقد تردد عند النقاد أن تراجع النقد التطبيقي العربي الحديث كان بسبب افتقار الممارسات النقدية الحالية إلى نظرية أدبية أو نقدية، والسؤال من أين تنشأ مثل هذه النظرية ؟ صحيح أن الفكر يوجد النظرية، ويوجد المنهج، غير أن الممارسات التجريبية هي التي تؤسس الفكر وتكتشف النظريات، ولا أدري كيف نريد بلوغ النظرية من دون تجريب، ومن دون ممارسة نقدية تستهدف اكتشاف الظواهر الفنية ومعالجتها بأسلوب نابع من صميمها ومن طبيعتها؟ (7)

 

.................

المصادر

1-

Chapter 6 of Wendell Harris's Literary Meaning: Reclaiming the Study of Literature (1996), and p.187 of Bernard Bergonzi's Exploding English: Criticism, Theory, Culture (1990).

from :

http://www.textetc.com/criticism.html

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم