صحيفة المثقف

خرسباد: الضحية الثانية بعد (نمرود)

zouher sahebوقع اختيار الملك (سرجون) على منطقة جميلة، توافر منظراً رائعاً لسلاسل الجبال الشّمالية المغطاة بالثّلوج، وتحيط بها سلسلة من الغابات الكثيفة خضر اللون، وتقع بالقرب من قرية (خرسباد) الحالية، على بعد (15) ميلاً إلى الشّمال الشّرقي من نينوى، لتشييد عاصمته الجديدة في العام (717 ق.م) من سني حكمه، وذكر في ذلك: "لقد بنيتُ عاصمتي الجديدة بجهود جميع الشّعوب التي أخضعتها لإرادتي، وجلبت لها خامات البناء الجميلة من شتى أرجاء المعمورة، وأسميتها (دور شروكين) أي حصن (سرجون) بإيحاء من الإله (آشور) والإلهة (عشتار)، وكذلك من إحساس صادق نابع من أعماق قلبي". فكانت (دور-شروكين) التي اتخذت اسم الملك، بمثابة القلعة الملكية الحجرية الضّخمة المنيعة، بأبعادها الكبيرة التي فاقت كل ما سواها، وأبرزت في عيون النّاس صورة عمرانية للنظام الكوني، وفي الوقت نفسه رمزاً للأمبراطورية الآشورية القوية. إذ كتب الملك (سرجون) على (صفوف) الحجارة التي شيد بها عاصمته نصاً ما يزال بليغاً في دلالته: "سرجون ملك العالم، أقام مدينة أسماها (دور شروكين) وبني داخلها قصراً منقطع النّظير".

695-sahib

غَطّت مساحة المدينة زهاء ميل مربع واحد، يؤلف شكل مربع غير منتظم، ويحيط بها سور حجري ضخم مدعّم بالأبراج الدّفاعية المزدحمة، الموزعة بصورة نسق معماري جميل، ولها سبع أبواب كل منها حملت أحد أسماء الآلهة الآشورية الرّئيسة، على غرار بوابات العواصم الآشورية الأخرى، وحدّثَ مهندسو الملك ثلاثة من أشكال هذه البوابات، بأن كسوا سطوحها الخارجية بالجداريات الخزفية الملونة، وتلخص مشاهدها نظام الوجود على وفق مقولة اللاهوت الآشوري. وأُطّرت جميع البوابات وكذلك مداخل قصر الملك بأشكال الثّيران المجنحة، ذات الرّؤوس البشرية، وكانت وظيفتها بمثابة الملاك الحارس Lamassu ذي القدرة الكونية (فوق الواقعية) لحماية الملك وساكني المدينة من خفايا القدر المُتخم بالأخطار المُحدقة. وقد اكتشفت البعثات العلمية (26) شكلاً سرياليا من تلك الكائنات الأسطورية المركبة، يزن كل منها (40) طناً من الحجر أو الرّخام.

نُظّمت شوارع المدينة الجميلة: على هيئة نظام (Grid) الذي أبدعه المهندسون الآشوريون، ويتألف من منظومة خطية من الشّوارع العريضة المتعامدة، الذي اقتبسه بعد ذلك الرّومان في تنظيم مدنهم وعاصمتهم المشهورة (روما). شَيدَ الملك قصره على دكة أو مصطبة ارتفاعها (50) قدماً، وإلى جواره حارة المعابد وبرج المدينة المدرج (الزّقورة). في حين احتل قصر ولي العهد الزّاوية البعيدة عن القصر الملكي. وقد أكمل الملك سرجون بناء عاصمته بعشر سنوات، ولم يذق حلاوة الإقامة بها سوى عام واحد، إذ قتل في إحدى المعارك الخارجية أو ربما اغتيل في العام (705 ق.م).

وبرغم تشابه النّظام المعماري لقصر الملك (سرجون) في خرسباد، مع نظام القصر الشّمالي الغربي في نمرود للملك (آشور-ناصر-بال) الثّاني في احتواء كل منهما على مجموعة الوحدات المعمارية التي تؤلف ما يعرف باسم (البابانو) و(البيتانو)، تفصل بينهما قاعة عرش الملك، إلا أن الخطاب الفكري الذي يبثّه كل منهما مختلف عن الآخر، فمقولة قصر (نمرود) كانت تعبيراً عن الفتنة القوية للدولة الآشورية، في حين يشفّر قصر (خرسباد) عن صورة للعالم الذي يحكمه الملك، بمساندة الآلهة العظام، الذين وزعت وظائفهم طبقاً للتراتبية الكهنوتية، فكانت لهم سبعة معابد كرست لعبادتهم، وبنيت اسفل مصطبة قصر الملك العالية.

شَيدَ الملك (سرجون) قصره على مصطبة يصل ارتفاعها إلى سبعة عشرة متراً كما أسلفنا، وذلك نوع من آليات الإظهار المعمارية التي يتفرد بها ذلك المبنى الملكي من سواه في تاريخ العمارة العراقية. ونحن نجد في ذلك شيئاً من التّعالي للروح الملكية الأرستقراطية عن ملابسات الحياة الاعتيادية، وكذلك يُؤشر الارتفاع إلى خاصية تحصينيه دفاعية عن الملك وهو في عقر داره، وفي ملمح آخر وافرَ ارتفاع القصر عن مجاوراته من الكتل المعمارية مظهراً جمالياً، بأن أكسب شرفات القصر نوعاً من الشّاعرية وهي تطل على المساحات الخضر الملونة بالزّنابق البرية متنوعة الألوان التي تحيط بأسوار القصر من جميع الجهات.

احتل المقر الملكي السّرجوني مساحة واسعة من الأرض، وجوهر نظامه المعماري يتألف من ساحة فسيحة مكشوفة .. محاطة بعدد من الغرف، وتم تكرار تلك الوحدة المعمارية بنحوِ متجانس ومتناسق عدة مرات، فأنتجت ثلاثين ساحة تنفتح إحداها على الأخرى بنحوٍ مُحكم، ومائتي غرفة، كي تفي بوظيفة إدارة الأمبراطورية وإعداد الجيش، وخزن الغنائم الكبيرة التي يحصل عليها الملك من حملاته العسكرية الظّافرة.

تُعد قاعة العرش التي تشكل المركز في البنية المعمارية للقصر من أكثر الوحدات المعمارية تعقيداً، لأنها تتألف من عدد من الغرف الفارهة، التي زُينت جدرانها بجميع أجناس الفن التّشكيلي، التي تقص مشاهدها الأعمال الخارقة للملك، على وفق تراتبية تاريخية شغلت جميع سني حكمهِ، إنه فن الإعلان والضّرورة الجمالية، الذي يجب أن يُقرأ من زائري القصر من الوفود الاجنبية. في حين زيّنت واجهة هذه القاعة بمشهد أسطوري متفرد في خاصيتهِ الفكرية والرّسالة التي يبثها، ومهارة إخراجه التّقنية، وينبني على فكرة البطل الأسطوري الآشوري الذي يحمل ذكريات (كَلكَامش)، وهو يستعرض قوته اللامحدودة بأن (يخنق) بإحدى يديه أسداً مذعوراً، في حين أُطِّر من الجانبين بنحوٍ متناظر بزوج من الثّيران المجنحة، ليتشظى الخطاب الذي يبثهُ المشهد نحو المُتخيل الذي بإمكانه السّيطرة على المخاطر المقبلة من العالم الخارجي، وربما كان ذلك كفيلاً بتهدئة القلق السّايكولوجي في داخلية الملك، من مخاطر القابل من الأيام وما تخفيه من مفاجآت غير سارة.

حَصرَ الملك (سرجون) معابد الآلهة الآشورية الرّئيسة السّبعة، في الزّاوية الجنوبية الشّرقية من عاصمته الجميلة، بعد أن كانت تنتشر بنحوٍ عشوائي وكثيف في أماكن شتى في المدن البابلية والعواصم الآشورية الأخرى، ولعل فكرة (سَجن) المعابد وكهنتها على تلك المساحة الجغرافية الصّغيرة، يؤكد هيمنة سلطة الملك بوصفه الكاهن الأعلى للإله آشور، على سطوة الفكر الكهنوتي وتقليص نفوذه في خاصية القرارات التي تتخذها الدّولة.

أَلقّت ظلال ما وراء الطّبيعة ظلالها بنحوٍ مؤثر، على السّتراتيج المتحرك في الفكر الاجتماعي الآشوري، فبرغم سطوة الملك على كل شيء في ميكانزمات إدارة الدّولة. تواصل الآشوريون مع أسلافهم من المبدعين السّومريين، في تتويج معظم مدنهم بأشكال معمارية ذات صفة دينية عرفت بالزّقورات، التي تعد من أهم إبداعات الفن التي تتفرد بها الحضارة العراقية من سواها من الحضارات الأخرى.

تعد زقورة عاصمة (سرجون) دور شروكين، من أهم الزّقورات الآشورية، لأنها تتميز بحالة جيدة من الحفظ، فبرغم عدوانية عوامل الطّبيعة بقيت أربعة طوابق منها بحالٍ سليمة، من تكوينها الكلي الذي وصل إلى سبع طبقات. التي لو جرّدناها من نواتها الطّينية وغلافها الفخاري، لشكل هيكلها العظمي نسقاً من الحزم الخطية الهندسية الملتوية والصّاعدة بحركة حلزونية نحو أفق الماورائيات اللامحدود، وشأنها في ذلك شأن خطوط (الأرابسك) الملتوية التّواءه قدسية، متحركة نحو الأعلى دائماً، بوصفها رسالة نحو العالم التّخيلي، لا تحدها حدود المساحات المتاحة للنحت.

عرفَ الآشوريون الزّقورة بأنها: سُلم الأرض-السّماء البهي، بوصفها واسطة الاتصال والتّواصل بين عالمي ما وراء الطّبيعة وسكان الأرض، إذ صُممت لتسهيل هبوط زورق السّماء، فلم يألوا جهداً بتهيئة مكان جدير باستقبال آلهتهم المُفترضة. فمعبد التّرحيب ينتصب فوق قمة البرج، ويتصل بالأرض بسلالم، تصعد بواسطتها مواكب الزّوار وتهبط، لتؤلف خطاً دائم الاتصال بين الأرض والسّماء. بغية تقريب المسافة بين الصّور المثالية الخالدة العليا، والصّور الفانية الأرضية السّفلى، للتخفيف من قلق الإنسان الوجودي في أحسن الأحوال.

كان على المهندسين الآشوريين اختيار المكان المناسب للبناء، وتسويته بنحوٍ منتظم، نظراً لما تحمله كتلة البناء من ثقل كبير على الأرضية، وتشير القياسات المنضبطة لأبعاد استدارة طبقات البناء، وحركتها الموسيقية الإيقاعية في تعاليها خارج الفضاء البشري، إلى تطور علمي ملحوظ في علمي الرّياضيات والهندسة ببنية المعرفة الآشورية.

بُني الهيكل الدّاخلي لزقورة (خورسباد) من اللبن، فكان على الشّعوب التي أخضعها (سرجون) لإرادته أن تعمل جاهدة في تشكيل المليارات من كتل اللِبن الهندسية المنتظمة. ففي (دور شروكين) يذهب يوم ويأتي يوم جديد والبُناة تعمل، وبعد الاحتفال بالإنجاز الذي تحقق، لا بد من التّفكير بأناقة المنجز المعماري، إذ غُلِفَ بدن الزّقورة الطّيني بكساء من الطّابوق (أشهب) اللون، بلغ سمكه ثمانية أقدام، يتخلله نسق جميل من الطّلعات والدّخلات، بينها وبين ضوء الشّمس وكذا نور القمر، نوع من الحوار الجمالي، حين تمايز سطح البناء بموجة شاعرية من الضّوء والظّل، وكأنه أحد السّطوح البصرية للفنان (فيرمير).

فنظام الشّكل المعماري كان ثمرة لجهود هندسية وتقنية، ممنهجة ومؤسسة ومنظمة فكرياً، فبغية تسليح جسم البناء وتقويته، استعاض المهندسون الآشوريون عن (شيش) الحديد، بأعداد كبيرة من حبال الكتان الغليظة، كانت تخترق لُب البناء على مسافات منتظمة. ولغرض تفادي ظاهرة التّمدد والتّقلص في التّكوين المعماري، النّاتجة من الاختلاف الكبير في درجات الحرارة بين الصّيف والشّتاء، والليل والنّهار، وضع المهندسون المبدعون صفوفاً من الحصران (البارية) بين طبقات البناء، إذ تطلّبَ الفعل المعماري بكليته، سيطرة علمية على قوانين الارتكاز والتّوازن، وكذلك التّحكم المنضبط بحركة الخطوط وشاعريتها الإيقاعية، وهي ترتفع في الفضاء، إذ يقوم ضغط الماورائي في الأعلى، على العالم الأرضي بقاعدته العريضة في الأسفل.

كان الارتقاء للزقورة السّومرية، التي تُعد المرجع الشّكلي للزقورة الآشورية يتم بثلاثة سلالم، أحدها محوري يتعامد مع الضّلع الأمامي للزقورة، ويصل بكل جرأة إلى الطّابق العلوي، والأثنان الآخران جانبيان يلتقيان بالسّلم المحوري في الطّبقة الأولى من البناء، ووظيفة هذه المنظومة من السّلالم، هي لإعطاء مواكب (الزّوار) الكبيرة نوعاً من الرّاحة المنظمة، حين ترتقي البناء صاعدة إلى الطّابق العلوي في الاحتفالات الدّينية المهمة.

لم يَرُق نظام ارتقاء الزّقورة السّومرية العقلية الآشورية، فعملت على تحديثهِ بنظام جديد، يتم الوصول به إلى قمة الزّقورة التي بلغ ارتفاعها خمسين متراً، وتساوي في ذلك عمارة معاصرة من خمسة عشر طابقاً، بواسطة سلم حلزوني يلتف حول جسم البناء بنحوٍ حلزوني، بدءاً من الأرض وحتى الطّبقة السّابعة. وتلك هي عظمة الفن العراقي في حوار الحضارات الذي يشهده الفكر المعاصر، ذلك الفن المتخم بتحولات الأساليب وآليات إظهار منظوماته الشّكلية، الذي رفد الفكر الحضاري العالمي بالمزيد من التّجديد والمفاجآت الشّكلية، التي أغنت بنيته بصفات التّجدد والنّشاطية وحيوية التّحولات الشّكلية، التي لا يمكن حصرها بحدود زمانية مُحددة.

حَرصَ سكان مدينة (دور-شروكين) على المظهر الجمالي لزقورتهم الخالدة، بأن غَرسَوا أمام واجهتها الأشجار الباسقة، وذلك فعل جمالي ساعِ إلى إيجاد علاقة جمالية بين الطّبيعة وتكوين الزّقورة المُصنّع. كما لوّنوا واجهات طبقاتها السّبع بالوان متعددة: كالأبيض والأرجواني والقرمزي والفضي والذّهبي والأخضر، متوجة باللون الأزرق الذي يكسو قمتها، بوصفه رسالة رمزية نحو عوالم الماورائيات، ومن بعدها بالدّلالة ذاتها في رسوم الواسطي، وفي لون (السّبع عيون) في بيوتنا المعاصرة. إنها فكرة سامية، وعالم مثالي، وأشكال أنيقة وصافية، وألوان هادئة لتكوين ساكن، حيث الكمال والفضيلة الذي هو بمثابة نداء نحو القوى الماورائية، بغية نيل استعطافها ونيل رضاها، لإغداق الخيرات على ربوع الدّولة الآشورية.

تُعد بوابة المدينة في الثّقافة الآشورية بمثابة الميناء البري الذي يلتقي به الآشوريون مع الآخر المختلف، إذ تُفعّل خاصية المكان مجال المثاقفة والاتصال مع الآتين من أماكن شتى، فتتلاقح الثّقافات وتغتني إثر هذا الحوار الثّقافي. وفي الوقت ذاته كانت بوابات العواصم الآشورية أشبه بالمظهر الذي تطل بها الحضارة الآشورية على العالم، فمن شكل البوابة وتكوينها المعماري وضخامتها وزينتها الرّمزية، يمكن تعرف خفايا الحضارة التي تُخبّئها.

من أجمل بوابات مدينة (دور-شروكين) هي بوابة الإله (سن) الحجرية، وتتكون من برجين ضخمين، نُحتت واجهتاهما بصورة نسق من الحنايا المتداخلة بنحوٍ إيقاعي، بما يشبه بوابات المعابد في المعابد البابلية والآشورية، ويزين كل منهما في الأسفل، إفريز خزفي أزرق اللون صُمم على نحوٍ متقابل ومتناظر، ويحصر في داخله عدداً من الأشكال الرّمزية ذات الدّلالات المتحركة في الفكر الاجتماعي الآشوري. ويُفضي البرجان إلى مدخل مقوس بنحوٍ شاعري، يُؤطره من الأعلى إفريز خزفي مقوس، يضم بداخلهِ نسقاً من أزهار البيبون، ويؤطر المدخل من الجانبين شكل نخلة ذهبية اللون، وبغية تحريك صمت خطوط البوابة الحجرية العليا، فقد توُجّت بصف من أشكال الأهرام المدرجة الصّغيرة الحجوم.

تُعد بوابة (خرسباد) بمثابة المرجع الشّكلي لبوابة عشتار في بابل، وتعدّان من أهم المنجزات الفنية الآشورية والبابلية، كونهما تُشعران المتلقين من كل العصور، بعظمة حضارة بلاد الرّافدين، من بين الحضارات العالمية الأصيلة، فلم يكتشف حتى الآن ما يماثلهما في العواصم الإغريقية أو الفرعونية، لأنهما أزاحتا تلك الحدود المصطنعة التي صَنفّت أجناس الفنون التّشكيلية إلى أنواع، إذ أنهما خلطتا العمارة بالرّسم والنّحت والخزف. وتلك آليات إظهار معاصرة، جمعت بين قوسي النّصر الآشوري والبابلي وشبيهيهما في مدينتي برلين وباريس.

تتحرك على سطح البوابة الآشورية ومضات من الضّوء والظّل، بفعل تفاوت مستويات السّطح البصري المعماري، بين التّسطيح الذي يُميز المشاهد التّزينية التي تتمظهر بها، والعمق المنظوري الذي تغور به الحنايا الهندسية عميقاً على سطحي برجيها، وكذلك تقدم مستوى البرجين، عن مستوى المدخل. وكل ذلك يمثل نظاماً معمارياً منضبطاً، وإظهارات تقنية خاصة جداً في تبسيط الأشكال بغية تقوية التّكوين، ليس من فعل تأكيدها الخطوط الهندسية فحسب، بل الحجوم أيضاً، فكل شيء فيها كان جسماً مختزلاً إلى مشيدات هندسية، لم يكن التّركيز فيه على المعنى، بل على التّنظيم الشّكلي المتناغم لهذه التّكوينات، إنه التّعبير عن قوة الخيال النّاشطة في الفكر الآشوري، المعبرة عن دلالة النّقاء الرّوحي للماورائيات، والمتحركة بصورة مفاهيم في الفكر الدّيني الاجتماعي.

يُكرر الشّريط الخزفي الأزرق أشكاله الرّمزية أسفل البرجين على جانبي مدخل البوابة، وكأنه أشبه بطبعة ختم أسطواني، إذ يشاهد موكب غريب يقوده الملك مع أسد ونسر وثور وشجرة تين ومحراث. "قد يرمز الأسد ملك الغاب إلى قوة الأمبراطورية الآشورية، ويحكم النّسر متسلطاً في السّماوات، ويشير الثّور إلى تلقيح القطعان، وشجرة التين إلى خصوبة البساتين، والمحراث إلى ازدهار الزّراعة" (بارو، 1980، ص115). وبرغم صعوبة فك مغاليق التّشفير الدّلالي الذي يبثهُ إفريز الرّموز الخزفية في بنيتهِ العميقة، بسبب عدم وضوح المفاهيم المتحركة في اللاهوت الآشوري، تنتظر محاولة (بارو) المزيد من الاكتشافات لتأكيد مصداقيتها.

تجتاز سطح البوابة الحجري أبيض اللون نوعاً من (القواطعية)، إذ تتخلله شبكة من الأشرطة لازوردية اللون، التي تؤطر مدخلها، ونهايتها العليا. لتعمل على تجزئة سطحها البصري إلى مساحات هندسية متنوعة الأشكال، فاللون الخالي من الكثافة والأثر الفيزيائي للضوء، لم يجسد وحده ملامح المدى التّشكيلي، لأنه مُفعّل بسلطة الخطوط في تحديد جغرافية المساحات اللونية.

يدور داخل تلك الأشرطة اللازوردية شكل زهرة الرّبيع البرية (البيبون)، التي مُثلت بفروع بيضاء اللون ونقطة مركزية صفراء، استعارها أو لنقل استدعاها الفنان الآشوري من بين حشود مفردات الطّبيعة، وأحالها على شكل رمزي، تكرر مئات المرات على سطح البوابة. فالمشهد المتكثر مع القراءة البصرية التي تدور وتتخلل المشهد التّصويري، الذي يؤكد بدايته ويغيب نهايته نحو اللامحدود من التّأويلات، هو نوع من الفعل السّحري يُفعّل ظاهرة الخصب في الطّبيعة وتجدد الحياة، وإعادة بناء الوجود في حالته (السّرية)، فلم يعد لرمزية زهرة الرّبيع من دلالة في بنية النّص-البوابة- إلا بقدر تأويلها لتعكس حالة إنسانية سعيدة.

ازدحمت المنجزات الفنية الآشورية بصورة شجرة النّخيل، برغم فقر البيئة الطّبيعية الآشورية لهذه الشّجرة الخيرة، بنحوٍ يفوق ظهورها في الأعمال الفنية السّومرية التي لا يخلو متر واحد من أراضيها من ظلالها. تلك مفارقة لم نجد لها تبريراً في الوقت الحاضر، سوى غرائبية هذه الشّجرة في موجودات الغابات الآشورية، الأمر الذي جعلها مجال اهتمام الفنانين الآشوريين، الذين أغنوا معجم الأشكال الرّمزية الرّافدينية بالمزيد من الاستعارات الشّكلية.

بفعل تلك القدرات العجيبة في (صيرورة) النّخلة، أدخلها الفكر الآشوري نسق الفن، فتعدّت طبيعتها بمسافة طويلة، إذ أصبحت رمزاً مؤثراً في التّلقي الاجتماعي للأفكار، فاكتسبت تعددية الدّلالة، بعد أن كانت (واحدية) القراءة في عالمها الطّبيعي. فالفكر الآشوري لم يكتفِ بإدراك الجوانب الحسية للأشياء، بل سَما عليها، إلى الحفر لاكتشاف ما تخبّئهُ تلك المظاهر من (أفكار) في خاصياتها الجوهرية، فأسس من حيث لا يحتسب معجماً مفاهيمياً معادلاً في الكم والكيف لأنساق الأفكار المتداولة في بنية فكره الاجتماعي.

فمهندسو بوابة (دور شروكين) لم يمثلوا النّخلة على بوابتهم الخالدة لغرض الحصول على تمثلات مشابهة، بل لتأويل قوة تُبقي الفكرة التي يمثلها شكل النّخلة حاضرة دائماً. فصورة (الشّجرة) ليست مقصودة لذاتها، بل لتشفيرها عن أفكار تنتمي إلى مستوى آخر غير منظور، بوصفها تأويلاً لحزمة من الأفكار التي تنشد التّجدد والخصب والخير في ربوع مدينة (سرجون) السّعيدة.

 

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم