صحيفة المثقف

الفن التشكيلي المغربي بين سجن الهوية ورهان الحداثة

يعتبر الفن من أرقى أشكال التعبير البشري على الإطلاق ؛ وذلك كونه ينبني على العقل والتأمل بغية خلق ما يصطلح عليه بالإبداع .

ومن جملة الفنون البشرية ارتأيت أن أتحدث عن الفن التشكيلي المغربي باعتباره فنا من الفنون التي عرفها العالم وما زال يتطلع إلى معرفتها فهو دائماً متجدد برواده ومبدعين من الذين ساروا على منوالهم أو اتخذوا منوالاً آخر بمحاولات جادة لفنانين داخل المغرب وخارجه.

لكن الملاحظ أن هذا الفن يشكو مواجهة الغرب ليس في المعنى بل في الكشف عن معنى المعنى، فإذا كانت محاولات الرواد الأوائل التعريف بهذا الفن والرقي به نحو الغرب حتى يعرفوا بأننا نحن المغاربة لدينا فونونا بصية وتشكيلية وجميلة .. وقد كان أمل الرواد الذين تكوّن جلهم في الدول الغربية كفرنسا في المنطقى الوسطى جنوب المغرب واسبانيا التي تكوّن فيها فناني الشمال، بل إن التكوين وصل إلى بعض الدول الأخرى باحتشام كهولاندا وانجلترا وألمانيا وكذلك روما وروسيا التي عملت أمريكا على صناعة فنانين ضد توجهها الفني واللائحة تطول...

هؤلاء الرواد تتلمذ على يدهم العديد من طلبة الفن وثم توجيههم من قبلهم باستكمال التكوين خارج الوطن، لأن الدراسة العليا ما زلنا إلى اليوم نفتقر لها (الماستر والدكتوراه)

وفي هذا الإطار يمكننا أن نصنف الفن التشكيلي إلى ثلاثة أصناف :

الأول منها : من ذهب للدراسة والتعريف بالثقافة والهوية المغربية وهو نموذج كرس للمحاكاة بالمعنى الأفلاطوني، صور البدو والبرابرة والحصان والفروسية البدوية، المرأة القروية ، سكان الجبال ....

وهو نموذج فولكلوري شكلا ومضمونا لم يرقى إلى مستوى الفن العالِمْ الذي ارتبط بتيارات واتجاهات فكرية وفلسفية .

أما النموذج الثاني : وهو نموذج استفاذ من التكوين الأجنبي وعمل على خلق فن تشكيلي وفق المقومات الغربية ظل يحاكي ويجسد تشكيليا مايروج في الساحة الفنية، محاولا مجاوزة الجيل الفولكوري -الذي ما زال إلى اليوم- وهذه المجاوزة نشأ عنها تكوين طلبة معاهد الفنون بالمغرب .

كما أن تطلعات هذا الجيل كانت تراهن على الرقي بالفن التشكيلي المغربي لكن للأسف من داخل المعاهد كان كرادلة الفن يدافعون عن الهوية والثقافة الوطنية وذلك مرده لفقر تكوينهم فقد رفضوا كل ما يرتبط بالتجديد إلا بعض الفئات القليلة منها بالإضافة إلى تدخل السياسة وهلم جر .

وقد تذكرت وأنا أكتب هذه المقالة معاناة الفنان الراحل محمد شبعة- ذو التكوين العالي في الفن بروما - مع كرادلة الفن وهو يدير معهد " الفنون الجميلة " بتطوان وكيف عمل هذا الرجل على تعبيد الطريق لفائدة طلابه نحو التكوين العالي قصد إفادة المغرب والنهوض بالفن

التشكيلي من خلال الإستعانة بخبرة أساتذة الفلسفة في تدريس فلسفة الفن وتاريخه بالإضافة إلى عدة أطر من الأساتذة الفنانين والأكاديمين .

فقد كان يلزم كل من أراد أن يحصل على دبلوم التخرج في "الفنون الجميلة " بحوثا نظرية فكرية وفلسفية وأخرى تطبيقية عملية سواء كان العمل لوحة أو نحثا ...

وذلك إيمانا منه أن طلاب الفن ينبغي عليهم في مستقبلهم الفني أن يحللوا ويناقشون قضايا الفن وكذلك ما ينتجون من أعمال، بغية الرقي بهم نحو العالمية والحداثة، لا أن يكونوا صناع فن لا يعرفون التعبير عنه أمام جمهور المتلقين .

أما الصنف الثالث فهو جيل اليوم من الفنانين الذين تبلورت في أذهانهم فكرة الحداثة ومفهوم الفن المعاصر عبر صعود الركب الحضاري نحو الرقي بالفنان التشكيلي المغربي نحو المفاضلة والإرتقاء نحو أفق الممكنات من خلال التكوين والبحث وإتباث أن الفن التشكيلي نتاج كوني مشترك ليس مغربيا ولا فرنسيا كما يدعي بعض وصاة الهوية والثقافة الوطنية .

والحقيقة أن هناك ثقافة واحدة وفن واحد، إيمانا منا بكونية الفن وإنسانيته فهو لا هوية له ولا وطن له . ويمكن القول بأن هذا الجيل الذي أدرجته ضمن الصنف الثالث هو الذي يحمل لواء الحداثة وما بعد الحداثة؛ فنانون يوجدون خارج الوطن وداخله يبدعون نحو توجهات حيرت الغرب، حصلوا على جوائز دولية وهم في هامش الثقافة المغربية للأسف وأخص هنا بالذكر الفنان محمد الرايس شفيرة الذي نال الميدالية الذهبية بالمعرض الدولي ببرشلونة عن لوحته " ضوء ولون وروح "

وهي لوحة تشكيلية تعالج مسألة مابعد حداثة الفن من خلال الأشكال الهندسة ذات التوجه الإفتراضي والتعبيري الفلسفي الإختلافي . والجديربالذكر أنه سليل الأسرة التشكيلية المغربية خريج معهد الفنون الجميلة بتطوان، استكمل دراسته العليا بفرنسا واسبانيا .

ونجد فنانين آخرين أمثال الفنانة ريم اللعبي التي أبدعت في فنها المستوحى من " جذمور " الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي عرف باهتمامه بفلسفة الإختلاف وباشتغاله مع المحلل النفساني والطبيب النفسي فيلكس غواتاري وخصوصا في آخر أعماله "ما الفلسفة؟ " حيث عرفها بكونها صناعة وخلق للمفاهيم، وعرف وظيفة العلم بخلق الوظائف والتخصصات، أما وظيفة الفن فهي منوطة بخلق الأفكار الجمالية .

عموما وتأسيسا على ما سبق فإن الفن التشكيلي المغربي إرتقى بفظل جهود الجيل الثالث والأخير رغم بعض دعاة وصاية الفن من طرف بعض متفننة الجيل القديم .

ومن الأهمية بمكان أن محاولات تجديد الفن التشكيلي مازالت قائمة رغم كل الصعوبات والعوائق وذلك بفضل المناهج الفلسفية التي ارتقت بالفن نحو الكونية، فلا سبيل للحديث عن فن مغربي أو فرنسي أو إسباني...أو عن ثقافة وطنية وغربية...

إن الثقافة شأن إنساني واحد والفن واحد لا ثاني له أو ثالث، إنه هبة من الله ومن طبيعته التي حيرت العلماء والمفكرين، فهو يكفي ذاته بذاته إننا بحاجة إلى إبستيمي فني حسب لغة ميشل فوكر، إنه إبستيمي Epistémé يؤَسَسُ بحصيلة العلوم والفنون التي راكمناها. كما أن دور الفنان ليس التقليد والنسخ، تلك المهمة التي تناط لموظف الحالة المدنية عندما يكتب تاريخ الإزدياد، بل إن وظيفة الفنان تتجه نحو الخلق والإبداع ونقد بنيات المجتمع بالتعبير عن المسكوت impensée عنه من داخل الثقافة وخارجها .

فنحن اليوم وللأسف ما زلنا لم نتجاوز بعد الإبستيمي الذي شيده الرواد المبدعون وأخص هناالفنان المبدع محمد شبعة بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، تلك الأفكار التي آمن بها وعمل على نشرها في صفوف طلابه وصدق الفيلسوف الألماني هيجل حينما قال :

" إن أسوأ فكرة خطرت بذهن الإنسان هي أحسن وأفضل من أعظم إنتاج للطبيعة، وذلك لأن الفكرة مهما كانت هي تجلّ للروح المطلق ( العقل ) والروح هي الأفضل دوما من الطبيعة ."

" la plus mauvaise idée qui traverse l'esprit d'un homme est meilleure et plus élevée que la plus grande production de la nature , et cela justement parce qu'elle participe de l'esprit et que le spirituel est supérieur au naturel ."

Hegel , Esthétique

فهل استطعنا اليوم أن ندرك روح الفن وطبيعته الخالدة ؟

 

(*) أستاذ وكاتب مغربي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم