صحيفة المثقف

الموتُ حياةٌ قراءة في ديوان "الموتى يقفزون من النافذة" للشاعر المصري فتحي عبد السميع

rasha ghanimالموت يرتبط ارتباطًا وثيقًا باكتشاف معنى الحياة؛ لأن إشكالية الفناء في الفكر المصري القديم تكمن في ثقافة الموت التي أوجدتها الثقافة المصرية التي تمثل أسلوب حياة، وفي ديوان "الموتى يقفزون من النافذة" للشاعر المصري فتحي عبد السميع نجد فى جدلية الموت خيطين متشابكين في آن واحد نسجهما الشاعر بحرفية متقنة، الخيط االأول، يحمله معنى الديوان الذي يمثل فورة من فورات البهجة والانبساط، وخفة الظل، كأن الموت أضحى غير مزعج لنا نستقبله بكل ارتياح، وندنو منه دون خوف، ونسرع إليه دون بطء، أما الخيط الثاني، فيجعلنا ندرك أن الموتَ حياةُ كل مهمشٍ يعيش على أرض هذا الوطن، فعندما نتأمل التيمة الدلالية لكل مفردة تدل على الموت من خلال الديوان نعي أن ثمة أشياء أخرى تُسرع في موتها قبل أوانه الفعلي، حيث تتراءى لنا من خلال النماذج الشعرية للديوان مهمة الذات الشاعرة التي تكشف عن خباياها من الخوف والقلق والضياع للهُوية التي أضحت مهترئة من جراء كل أدوات الموت التي يصنعها الآخرون، وقد أصبحنا نئن من واقع مأزوم يضمُ كلَ أساليب القسوة والإهمال، والاغتراب والتمزق، والتهميش، فالموت حياة لكل إنسان لا يتفاعل مع مجتمعه، ولا يشعر بمكانة فيه، فتتشابه لديه كل السبل والموت واحد.

ضم الديوان قصيدتين إحداهما جاءت في الإهداء، والأخرى في الختام بالإضافة إلى ست وعشرين قصيدة أخرى، وزعت على ستة عناوين رئيسية هي: طُعم لاصطياد الروح، ليلة في عروق أخرى، رفرفةُ العصافير، رموز في سلة الخضار، جنازةٌ هادئة، ، وكأي ميت"

يقول الشاعر من قصيدة عيد الحب:

في عيدِ الحُب / لم ألتقِ إلا بقاتلٍ / يَفُكُّ بندقيتَه / ويَغسلُها بالزيتِ والقَسوَة / يُطهِّرُ الفوَّهَةَ مِنَ الصرخات / والزنادَ مِن تَطَفُّلِ الندم / لا يَنسَى أبدا / فَراشةً غافلته في ليلةٍ كهذِه / ونامتْ في فِراشِ طَلقَة / كادَ يَخسَرُ صِيتَه / حين ضَغَطَ على الزِّنَادِ / فانْطَلَقتْ فَرَاشة / ابتَسَمَ القتيلُ / لرفرفةٍ قبًّلتْهُ في الظلام / وعَبَرَ الكَمينَ بقلبٍ سَليم.

الموت هنا حمل كل معاني القسوة في معاناة الإنسان الضعيف، من تجبر القوي الذي انعدمت لديه كل قيم الإنسانية، وعيد الحب الذي نعرفه يكون عيدا ملونا باللون الأحمر، لون الزهور التي نعهدها في مثل هذا اليوم، ولكنه أضحى عند القاتل استعدادا لضحية جديدة التي نجت من براثن بندقيته هذه المرة، بفضل فراشة نامت مكان طلقته، وبكل حب قبَّلت الضحية، وكأنها رحيمة به عوضا عن رحمة هذا الإنسان المتجبر على الأرض

يقول الشاعر: من قصيدة نُقَّارة في يد المجذوب.

فَمُكَ مَعَنَا / عيناكَ مَعَنَا / لكنَّكَ مع ساقِكَ المبتورةِ / وهي تَنامُ وحيدةً مع غُرَباءَ / جاءوا بكاملِ أعضائِهم / هل تَحسدُها لأنها سَبَقَتْكَ إلى رؤيةِ الملائكة ؟ / أَمْ تَخشى نداءَها على أشقَّائِها ؟ / ماذا سَتَفعَلُ الآنَ / بالفَرَاغِ الذي / بَتَروا ساقَكَ اليُمْنَى / وتَركوه يَنبضُ / مثلَ نقَّارةٍ في يَدِ المَجذوب؟.

يد الإهمال تطول كل شىء في مجتمع يشعر فيه المواطن بالفقر والخوف والقلق وعدم الاستقرار، مما يجعله كيانا مشتت الأوصال، مضطرب الفكر، شارد الذهن، والعقل، فهذا البرئ الذي بترت ساقه، هذا العضو الذي أضحى ذابلا لا يقوى على أي حركة بعد أن كان نابضا بالحياة وبالذكريات الجميلة، نجده يحمل كل معاني الألم والحزن من جراء القسوة التي طالته وكأنها مثلَ نقَّارةٍ في يَدِ المَجذوب، وبكل هذه الألفاظ المعبرة عن االأسى نجدها تحمل ومضة أمل جميلة عندما ينعم هذا العضو المبتور برؤية الملائكة دون الأعضاء الأخرى، وكأن الإنسان مهما واجه من صعوبات فعليه أن يحيا بالأمل.

من نص "الموتَى يقفِزون من النافذة"يقول الشاعر:

أريدُ أن أُحدِّثَ أصدقائي / عن شيخوخةٍ لا تَصنعُهَا السنوات / أريدُ أن أُحدِّثَهم عن وقْعِ أقدامٍ عسكريةٍ / أسمَعُهَا كلما انتهيتُ مِن ضحكةٍ / أوْ مِن ارتشافِ كوبٍ مِنَ الماء / أريدُ أن أحكي لأي مخلوق / عن موْتَى يقفِزونَ مِنَ النافذة / ويشبكونَ سواعِدَهم وسيقانَهم حوْلَ جسدي / لا شَكَّ أنهم استيقَظوا / بعْدَ أحلامٍ جميلةٍ / لم يَتذكَّروا مِنها سِوَى أكوابٍ مهشَّمَة / ومستشفيات / وسُرادقات.

في إطار حكائي يحمل سردا ثريا، يغلب عليه المشاهدة وكأننا أمام شاشة عرض سينمائي، لا ننتظر من الشاعر أن يحكي لنا مثلما كانت تحكي شهرزاد، واستلابها للب شهريار من زخم حكائي ممتع، ولكن حكاية الشاعر تسلب حواسنا كلها من جانب آخر، هو لب المأساة التي يحياها الأنسان المهمش في مجتمعه من خلال مرآة الذات، حين تتجادل مع نفسها، لنبصر تداعيات الموت في كل مكان، فهو يتوغل في كل شىء ليؤثر على الأحياء سواء بالسلب أو الإيجاب أو الامبالاة أو الانتظار وترقب الموت.فالمفارقة هنا بين الموت والحياة أحياها الشاعر بكل علائقها، ظهرت في تقنيات الصورة الحديثة التي لا تقف عند حد النمطية القديمة التي اتسمت بالتجزئ ولكنها تحمل صورا بلوحات كاملة تشع بالصوت والحركة كــ، موْتَى يقفِزونَ مِنَ النافذة / ويشبكونَ سواعِدَهم وسيقانَهم حوْلَ جسدي /

وصور كثيرة تجعل الأشياء هي التي ترصد الملامح الإنسانية وهذا عمق ما بعد الحداثة، لأنه يحيلنا إلى نص يحمل سمات ما بعد الحداثة، والتي تحمل معظم نصوص الديوان هذه السمة. كما تظهر بعض قصائد الديوان بعض ما تتسم به البيئة الصعيدية التي ينتسب إليها الشاعر والتي طبعت هذه القصائد بميسمها الخاص من عادات وتقاليد خاصة بطبيعتها كـ عادات وطقوس دفن الموتى، يقول في قصيدة معهم وراء النعش:

هلْ نَستَأْجِرُ غُرَباءَ / ليُسبِّلوا تحتَ نعْشِنا ؟

وأوضح الشاعر بهامش واحد في الديوان كله معنى / ليُسبِّلوا: التسبيل ـ تريد عبارة "سبيل الله يا فلان" أثناء تشييع جثمانه.

وقد استخدام الشاعر اللغة التي اقترنت الفصحى فيها مع العامية في قماشة شعرية متماسكة جمعت بين صورة الموت المهيبة وما توحيه من الجدِّ والتآزر وبين عبثية الحياة، نجد هذه المفارقة مثلا في قصيدة "قلة الأب" نجد فيها لغة مكثفة تليق بزخم الأحداث الموجودة فيها، في الوقت الذي يتأهب الأبناء لدفن أبيهم يتحاورون في قُلته وكيف يكون مصيرها بعد وفاته.

يقول الشاعر:قال الطبيبُ : لا فائدة / واربَتُ وجهيَ عن عيْنِ أبي / فاستقَرَّ على قلّةٍ فوْقَ المِنْضَدة / كيفَ سَنحتَفِظُ بِهَا بعْدَ وفاتِه ؟، ثم يفاجئنا الشاعر بقوله: قامَ مِن رقْدَتِهِ مُتَعافِيَا / اشترَى قُلَّةً جديدة / وغسَلَهَا بِلِيفَةٍ جديدة / تَرَكَهَا في الهواءِ ساعةً / ثم تَحَسَّسَ عُنُقَهَا الطويل.

فهذه هي الحياة بكل ما تحمله من مفارقات وبكل ما تكتنفه من عبث بكل الكائنات والأشياء التي حولنا . فجمع الشاعر بين قُلة بسيطة، وموت معقد، في رداء لغوي يجمع بين البساطة والعمق في آن واحد عزف فيه الشاعر سيمفونية الموت على أوتار هادئة غير صاخبة تميزت بها معظم قصائد الديوان.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم