صحيفة المثقف

كيف يُساء فَهْم "السفر في الزمن"!

jawad albashiأنا لا أُقَلِّل من حجم الصعوبة التي يواجهها المرء، ولو كان على مستوى جيِّد من الثقافة الفيزيائية، في سعيه إلى فَهْم وتَمَثُّل كثيرٍ من المفاهيم والأفكار التي تَضَمَنَتْها "النسبية (الخاصة والعامة)" لآينشتاين؛ لكن، وعلى ما قال آينشتاين نفسه، ذات مرَّة، لا يحق للشخص أنْ يَزْعُم أنَّه فَهِمَ وتَمَثَّل نظرية فيزيائية (أو كوزمولوجية) معقَّدة إذا لم يستطع هو شَرْحَها وبَسْطَها لطفلٍ عمره ست سنوات.

سوء الفهم لفكرة "السَّفَر في (عَبْر) الزمن"، والتي هي من أهم الأفكار التي تَضَمَنَتْها "النسبية العامة"، على وجه الخصوص، نَقِف عليه في منشور فيزيائي عربي جاء فيه: إذا كان السفر عَبْر الزمن ممكناً، وإذا ما قرَّر شخص ما السفر إلى الماضي، عائداً إلى زمن هتلر، وقَتْلِه من أجل أنْ يَمْنَع نشوب الحرب العالمية الثانية، فإنَّه لن يستطيع لسبب منطقي، على الأقل؛ فهو لو استطاع السفر إلى الماضي، وقَتَل هتلر، ومَنَع، من ثمَّ، وقوع كارثة الحرب العالمية الثانية، لاختفى "السبب" الذي حَمَلَه على هذا السفر إلى الماضي.

كلاَّ، الأمر ليس هكذا؛ وهذا المثال يَصْلُح دليلاً على ما يمكن أنْ يفضي إليه سوء الفَهْم لفكرة "السفر في الزمن".

إنَّ "السفر في الزمن"، وإذا ما كان معناه "السفر إلى المستقبل (لا إلى الماضي)"، هو فكرة فيزيائية صحيحة، مُثْبَتة ومؤكَّدة في تجارب عملية عدة.

لقد اعتاد الإنسان (أو الذهن البشري) فكرة "السفر في المكان"؛ فالإنسان ينتقل من موضع (مكان) إلى موضع (مكان) في زمن يطول، أو يقصر، تَبِعاً لـ "سرعة سيره"، والتي تتحدَّد بـ "وسيلة انتقاله (مشياً أو ركضاً أو بركوب حصان أو سيَّارة..). في "السفر في المكان"، لا تتغيَّر "المسافة"، زيادةً أو نقصاناً؛ لكن "الزمن (الذي يستغرقه الانتقال)" يتغيَّر، زيادةً أو نقصاناً، بـ "الوسيلة المستعملة".

"السفر في (أو عَبْر) الزمن" هو مسألة مختلفة تماماً؛ إنَّه أوَّلاً، سفرٌ إلى المستقبل لا إلى الماضي؛ وهذا السفر هو النتاج الحتمي لـ "تمدُّد (أو تباطؤ، أو انحناء) الزمن". والزمن يتمدَّد إمَّا بـ "تسارع" الشخص، وصولاً إلى سيره في سرعة تُقارِب (لا تَعْدِل، ولا تتجاوز) سرعة الضوء، والتي هي 300 ألف كيلومتر في الثانية تقريباً، وإمَّا بخضوعه لجاذبية شديدة جدَّاً.

هذا الشخص، أو المراقِب، يظلُّ (أكان في تلك الحالة من السرعة أم في هذه الحالة من الجاذبية) يعيش ويتطوَّر وِفْقاً للزمن الخاص به، أيْ وِفْقاً لـ "الزمكان (Spacetime)" الخاص به.

لو كان هذا الشخص في مركبة فضائية تسارعت حتى قاربت سرعتها سرعة الضوء، وهي السرعة القصوى في الكون، فإنَّ الدقيقة الواحدة عنده تصبح تَعْدِل (مثلاً) آلاف السنين الأرضية؛ فلو نَظَرَ مراقِب أرضي إلى ساعة هذا المسافر لوَجَد أنَّ كل دقيقة في ساعته تَعْدِل زمناً أرضياً أطول بكثير (عدة ساعات أرضية أو عدة أيام أو عدة سنوات..). المسافِر نفسه لا يرى، ولا يُدْرِك، أي تغيُّر في الزمن لديه؛ فكل شيء عنده (في مركبته، في عالمه أو كونه الصغير هذا) يحدث كالمعتاد؛ فإنَّ قلبه ما زال ينبض نحو 70 نبضة في الدقيقة الواحدة، بحسب ساعته هو؛ وإنَّه يقطع المسافة نفسها (مشياً على قدميه) في مركبته في خمس دقائق، بحسب ساعته هو، أي كالمعتاد؛ وإنَّ إعداده لفنجان القهوة ظل يستغرق الوقت نفسه، وهو 10 دقائق مثلاً (بحسب ساعته هو). اختصاراً، لا شيء في داخل عالمه هذا يَدُلُّ على أنَّ الزمن لديه قد اعتراه أي تغيير؛ فكل شيء عنده يحدث كالمعتاد، ويستغرق حدوثه الزمن نفسه، وكأنَّه في بيته على الأرض.

والآن، أين "السفر إلى المستقبل"؟

إذا عاد هذا المسافر إلى كوكب الأرض، بعد رحلة استغرقت ذهاباً وإياباً سنة واحدة، مثلاً، بحسب ساعته هو، فسوف يتأكَّد أنَّ الأرض قد مَرَّ عليها 100 ألف سنة، مثلاً؛ وبهذا المعنى يكون قد سافر إلى المستقبل، زائراً كوكب الأرض بعد 100 ألف سنة (أرضية) من انطلاقه في رحلته الفضائية. لقد زاد عُمْرُه سنة واحدة فقط؛ أمَّا عُمْر كوكب الأرض فزاد 100 ألف سنة.

هل "يستطيع السفر إلى الماضي"؟

كلا، لا يستطيع، ولن يستطيع أبداً، ليس لسبب منطقي؛ وإنَّما لسبب فيزيائي صرف؛ فالزمن (أو "سهم الزمن") لا يعود (أو لا يرتد) إلى الوراء. وثمَّة آراء هي من نَسْج الخيال العلمي يقول إصحابها فيها إنَّ السير بسرعة تفوق سرعة الضوء يَنْقُل السائر إلى الماضي (إلى ماضي كوكب الأرض مثلاً). ونحن نعلم أنْ لا شيء في الكون يمكن أنْ يسير بسرعة تفوق سرعة الضوء.

وفي المنطق، نقول، أيضاً، إنَّه لا يستطيع؛ فتخيَّلوا أنَّ هذا الشخص قد سافر إلى الماضي، وزار أُمِّه قبل ولادتها له بشهرٍ مثلاً؛ ثمَّ ارتكب جريمة "قَتْل أُمِّه"؛ فكيف له (في المنطق) عندئذٍ أنْ يأتي إلى الحياة (ويسافر إلى الماضي)؟!

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم