صحيفة المثقف

ولادة توازن إقليمي جديد!

jawad albashiعلى إيران الآن أنْ تتصرَّف، يمنياً وخليجياً، بما يَدْحَض وينفي ما يُثْبِته ويُعَلِّمنا إيَّاه التاريخ وهو أنَّ البشر لا يتعلَّمون من التاريخ شيئاً؛ فالعراق اليوم، أو العراق بما هو عليه اليوم، هو، بمعنى ما، العاقبة التي تَرَتَّبَت على وقوع صدام حسين في "الفَخِّ الكويتي"؛ وإنَّ طهران ما زال في وسعها أنْ تتصرَّف بما يَمْنَع يَراع التاريخ من أنْ يَخُطَّ السَّطْر الآتي: "لقد وَقَعَت طهران في فَخٍّ يمني أُعِدَّ لها في عناية".

"الحوثيون"، وبمعنى ما، كانوا، أو ارتضوا أنْ يكونوا، النسخة الإيرانية من "داعش"؛ فأُطْلِق العنان لـ "داعش الإيراني"، فتوسَّع، بمعونة كبيرة من أتباع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، وفي الجيش على وجه الخصوص، في بسط هيمنته على الأرض والمدن والسكَّان المنتمين إلى غير المذهب الذي ينتمي إليه الحوثيون؛ وكاد أنْ يستولي على عدن التي التجأ إليها الرئيس عبد ربه منصور هادي بعد سقوط العاصمة في قبضة الحوثيين، وأنْ يسيطر على مضيق باب المندب، الذي إنْ أغلقه أصاب مقتلاً من قناة السويس وميناء العقبة الأردني وميناء إيلات الإسرائيلي، ومن قسم كبير من التجارة الدولية، ومن التجارة النفطية على وجه الخصوص؛ وليس بالأمر الذي يمكن التَّغاضي عنه، خليجياً وإقليمياً ودولياً، أنْ تُحْكِم إيران قبضتها على مضيقي هرمز وباب المندب.

"العمل العسكري"، أكان إيرانياً عَبْر الحوثيين أم خليجياً وعربياً وإقليمياً.. في شكل "عاصفة الحزم"، هو نفسه "العمل السياسي"؛ لكن بـ "أداة مختلفة"، هي "الحرب"؛ وهذا "العمل السياسي" كان في كثيرٍ من محتواه جزءاً لا يتجزَّأ من التفاوض النووي الصَّعْب والشَّاق بين إيران والولايات المتحدة، والذي أوشك أنْ يَسْتَنْفِد مهلته؛ فطهران بلعبها الورقة الحوثية، وكما لعبتها قُبَيْل "عاصفة الحزم"، إنَّما أرادت توسيع حصَّة مكاسبها وأرباحها في "الاتفاقية النووية المرحلية (الإطارية)"، معتقدةً أنَّ الزمن اليمني والخليجي والعربي والإقليمي والدولي يعمل لمصلحتها؛ فـ "الخَبَر"، خَبَر "عاصفة الحزم"، وَقَع عليها وقوع صاعقةٍ من سماء صافية الأديم، ولم تكن هذه "الضربة الاستراتيجية (بمعنى ما)" في عِلْمِها أو تَوقُّعها؛ أمَّا إدارة الرئيس أوباما فاستبدَّ بها الخوف والقلق، وهي التي تُحاصِرها ضغوط نتنياهو والكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون؛ ولو لم تُضْرَب إيران بـ "عاصفة الحزم" لكان على الرئيس أوباما أنْ يُفاضِل بين أمْرَيْن أحلاهما مُرُّ: قبول "اتفاقية سيِّئة (لإدارته ولبلاده)" مع طهران، أو مواجهة عواقب وتبعات فشل وانهيار "المفاوضات النووية" معها.

لقد استشعرت إدارة الرئيس أوباما صعوبة موقفها التفاوضي النووي مع طهران بعد "الضَّرْبَة الإيرانية (الحوثية) الأخيرة"، فوَجَبَ الذي يَجِبُ، وهَبَّت، سريعاً، وعلى حين غرة، "عاصفة الحزم"، مُعْلِنَةً، بما مَثَّلَتْه وعَكَسَتْه وتَضَمَّنَتْه، ولادة تَكَتُّلٍ (تحالف، ائتلاف) مضاد، يُصارِع، ويُوازِن، ويكبح، ويردع، ويُغالِب، "القوَّة الإيرانية الإقليمية الصاعِدة المتنامية (نفوذاً وسطوةً)"؛ ولا ريب في أنَّ إيران، بوجهيها القومي والطائفي، وبنفوذها المتنامي في العراق وسورية ولبنان واليمن، وفي بعضٍ من دول مجلس التعاون الخليجي، وبهيمنتها، أو بسعيها إلى الهيمنة، على مواقع استراتيجية كمضيقيِّ هرمز وباب المندب، هي التي أَسَّست، موضوعياً، لهذا التكتل الجديد الخليجي العربي الإقليمي، والذي يمكن وصفه بأنَّ "النقيض الطائفي" لـ "التكتل الإيراني الإقليمي". و"تَثْليثاً" لهذه "الثنائية الإقليمية"، نَذْكُر ونتذكَّر "إسرائيل"؛ وكأنَّ "التَّوازن الإقليمي الجديد" على شكل "مُثَلَّث"، ضلعه الأوَّل "إسرائيل اليهودية"، وضلعه الثاني "تكتُّل إيران الفارسي الشيعي"، وضلعه الثالث هذا "التَّكتُّل السني (الخليجي العربي الإقليمي)"؛ وإذا كان "البرنامج النووي الإيراني" هو ما يُقْلِق إسرائيل (والولايات المتحدة) في المقام الأوَّل، فإنَّ "النفوذ الإقليمي الإيراني المتنامي" هو ما يُقْلِق القوى السنية، خليجياً وعربياً وإقليمياً.

وهذا التَّكتُّل الجديد، وإذا ما تبلور وتوطَّد وأنشأ له مؤسسات، يستمدُّ قوَّة لا يُسْتهان بها من "مصر الإقليمية الاستراتيجية"، و"السعودية النفطية الغنية"، و"قطر الغازيَّة والحيوية سياسياً وإعلامياً"، و"تركيا الأطلسية، ذات الأهمية الجيو ـ استراتيجية، والحدود الطويلة مع سورية الشمالية، وذات النفوذ القوي بين أكراد العراق وسورية"، و"باكستان النووية"، و"الأردن بأهميته الجيو ـ استراتيجية والتي يمكن أنْ تتأكَّد، على وجه الخصوص، في الأنبار العراقية، وجنوب سورية، والذي يشمل أيضاً حدود سورية مع إسرائيل، وبصفة كونه منطقة عازلة بين إسرائيل وإيران الإقليمية".

ضِمْن التحالف الإقليمي السني الذي وُلِدَ يمكن أنْ نرى:

• دوراً خاصاً للسعودية في اليمن (في سياق الصراع لدرء الخطر الإقليمي الإيراني).

• ودوراً خاصاً لمصر في ليبيا، وفي شرقها على وجه الخصوص. ودور خاص لها أيضاً في مضيق باب المندب (وربَّما يتسع الدور المصري ليشمل جنوب شرق السعودية).  

• ودوراً خاصاً للأردن في منطقة الأنبار العراقية، وفي جنوب سورية، وفي المنطقة الحدودية بين سورية وإسرائيل؛ فالأردن منطقة عازلة بين "إيران الإقليمية" وإسرائيل.

• ودوراً خاصاً لتركيا في شمال سورية، وفي منطقة الموصل العراقية، وفي تنظيم "الدور الكردي".

ومع احتدام "الحرب الباردة الجديدة" بين "روسيا بوتين" وبين الغرب، وفي مقدَّمه الولايات المتحدة، وإذا ما ما فشلت وانهارت المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، وإذا ما اشتد وعنف الصراع الجديد بين "التكتُّل الإيراني" و"التكتُّل الجديد المضاد (له)"، فإنَّ هذه "الثنائية في التَّوازن الإقليمي" يمكن أنْ "تُدّوَّل"؛ فتّذْهَب طهران إلى التحالف مع موسكو، ويذهب "التكتُّل الجديد المضاد" إلى توطيد تحالفه مع الولايات المتحدة وسائر الغرب.

والآن، على إيران أنْ تختار؛ فإمَّا أنْ تركب رأسها، وتتسلَّح بـ "الشمشونية"، وإمَّا أنْ تَقْبل "اتفاقية نووية"، فيها من القيود ما يُعْجِزها (ولو أرادت) عن تسخير "برنامجها النووي" لصنع قنبلة نووية في السنوات (أو في السنوات العشر) المقبلة، وفيها من البنود ما لا يسمح لها بالتَّخَلُّص من ضغوط "العقوبات" فوراً، وأنْ تَقْبَل، أيضاً، تقليصاً لدورها الإقليمي بما يبدِّد المخاوف الخليجية والعربية والإقليمية.

هذا الخيار، أو ذاك، يجب ألاَّ يجعلنا نضرب صفحاً عن خيار (إيراني) ثالث، يبدو الآن ضئيل الواقعية، ألا وهو أنْ تتغيَّر إيران بما يرضي إسرائيل والولايات المتحدة وسائر الغرب؛ وعندئذٍ، يحقُّ للقوى العربية السنية أنْ تَقْلَق، وأنْ تَقْلَق كثيراً، من احتمال وقوع "الأسوأ"، وهو "الانهيار القومي العربي" بما يعيد العرب إلى ما كانوا عليه أيام "المناذرة" و"الغساسنة".

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم