صحيفة المثقف

شمسنا سوداء .. قراءة للوحة الصرخة للفنان رضا احمد

wejdan alkashabرضا أحمد فضل،33سنة، أُستاذ جامعي بكلية التربية الفنية بجامعة الأزهر / فرع مدينة نصر / مصر، تخرّج من الجامعة ذاتها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأول على دفعته، وحصل على شهادة دبلوم تكميلي من كلية التربية الفنية / جامعة حلوان / مصر، بتقدير امتياز، ولم تمثّل له هاتان الشهادتان اكتفاءً فاتجه إلى تعلُّم الخط ليحوز على شهادة الدبلوم في الخط العربي، ودفعه شغفه العلمي للتقدم للدراسات العليا للحصول على شهادة الماجستير / كلية التربية الفنية / جامعة الأزهر / مصر.

ولد معاقاً، فهو فاقد للساعد الأيمن والكفين، بالإضافة إلى إعاقة بالقدم اليمنى إلاّ إنّه لا يعرف الاستسلام، بل يمتلك إرادة عالية خلاّقة دفعته للتعلم والإبداع، بل إنّه أثبت تفوّقه في ممارسة الرياضة فهو بطل على مستوى الجمهورية بلعبة الكونغ فو، ويمارس لعبة تنس الطاولة وكرة القدم، وكذلك العديد من الرياضات الهوائية بالرغم من إعاقته، والتي تكاد تحرم كثيرين من التحكّم بأبسط أُمورهم الحياتية.

اشتراكه في المعارض التشكيلية والصالونات الثقافية ومثابرته منحته فرصاً مميزة لإظهار موهبته، وحصوله على مجموعة من الجوائز هي: شهادة تميّز من منظمة اليونيسيف، وميدالية بيت العرب من جامعة الدول العربية، والميدالية الذهبية بمهرجان الشباب العربي، وشهادة تميّز من وزارة الثقافة التونسية، وحصوله على المركز الأول بالصالون الفني الخاص، والمركز الأول بمسابقة {مصر الحاضر والمستقبل} برعاية الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، والمركز الأول في جمهورية مصر العربية بمسابقة الرسم الإبداعي، وجوائز عديدة بالتحدي والكاريكاتير، وكان له مراكز الوصيف بالعديد من المسابقات، من بينها: المسابقة القومية للفنون التشكيلية، ومسابقة أعياد الشرطة، والجائزة التشجيعية بمسابقة {مصر تتحدث عنه نفسها}، وكذلك المراكز باحتفالات انتصارات حرب أكتوبر المجيدة.

حصل على الكثير من التكريمات من الشخصيات البارزة، منهم الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، والأمير الوليد بن طلال، والرئيس المصري الأسبق حسنى مبارك وقرينته السيدة سوزان مبارك، ووزراء الشباب والرياضة، والعديد من المحافظين على مختلف العهود السابقة والحالية.

وعن أسلوبه الفني وما يفضل إيصاله للجمهور، يعلن: أُفضِّل فن التحبير بالأبيض والأسود بقلم الرابيدو أو فن {الغرافيك}، لأنّه يعطى ميزة رسم الظل، وهنا تكمن الصعوبة التي أحببتها، إلى جانب أنني أرسم بالزيت والاكريلك، ولا أُخفي أنَّ الدراسة الأكاديمية فتحت لي مجالات واسعة، وأعطتني فرصة للتنوع الفني، وأشار أيضاً إلى أنّه اشتغل في النحت بالطين الأسواني خلال الدراسة.

أمّا عن اشتغاله برسم الكاريكاتير فيعلن: كان هناك مسابقة للكاريكاتير، وأردت التقديم إليها، وعندما أخذت رأى فنان كاريكاتير شهير لم تعجبه الفكرة، لكني أصررت، وأخذت الأمر كتحدٍ شخصي لأُثبت له أنني أستطيع، وبالفعل دخلت مسابقات على مستوى الهواة والمحترفين في الكاريكاتير، وحصلت على جوائز.

يرى الفنان رضا أنَّ بعض ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر يمتلكون مواهب فنية، وينتجون أعمالاً فنية جيدة للغاية ينافسون بها الآخرين، لكنها تُظلم لعدم افساح المجال أمامها في المعارض التشكيلية، لذا فهو يأمل أن تتضمن معارض الفنانين الكبار أعمال بعض الفنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة أي تفعيل عملية التبنّي الفني لهم.

ويكشف الفنان رضا عن أنّه يستعد حالياً لأول معرض فني خاص به، لكنّ طموحه الفني لا يتوقف عند ذلك، ولذلك يعلن: لدي أهداف أخطوها خطوة خطوة، فأنا أتمنى أن أكون فناناً معروفاً ولي بصمتي الخاصة في الحركة الفنية والتشكيلية، خاصة وأنَّ الفن كل يوم فيه الجديد، كما أتمنى أن أقوم بإيصال إبداعات ذوي الاحتياجات الخاصة إلى العالم، وأن تكون أعمالنا معروفة ومعروضة للجميع.

من خلال تأملي في مجموعة من لوحاته لاحظتُ أنَّه يميل كثيراً إلى الرموز، وموقعتها في أكثر من لوحة، فيجلبها محمّلة بدلالات تواضعت عليها الذاكرة الجمعية ثمّ يبدأ اشتغاله الخاص بها ليمنحها ظهوراً مغايراً ودلالة مختبئة، تستدعي متلقيها، وتفتح له الأبواب ليعيد قراءة هذه الرموز تشكيلياً وواقعياً، وهذا ما دفع بي لاشتغال الرمز وحضوره في هذه اللوحة، عبر تبسيط لمفهوم الرمز ووظيفتيه، بعيداً عن تأرخة المدرسة الرمزية وتغيّرات طروحاتها حسب الفنانين الذين اعتمدوها في اشتغالهم الفني.

يشير أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية إلى أنّ الرمز علامة أو تعريف أو إشارة، خاتم، دمغة، شعار.

وظيفته إثارة بعض حالات الوعي لأنَّ الرموز – حسب لالاند – نوعان:

1) عقلية: وظيفتها إثارة الخيال والأفكار.

2) انفعالية: وظيفتها إثارة الانفعالات.

يؤشر حضور الرمز في اللوحة التشكيلية إثراءً لدلالاته التي ستنفتح على أبعاد جديدة، لأنَّ الرمز سيكون معنياً بالإشارة غير المباشرة إلى تلك الدلالات، ويربط بالتالي بينها وبين الخيال والأفكار والانفعال انطلاقاً من وظيفتيه العقلية والانفعالية معاً.

وبهذا تمنح اللوحة الفنية متلقيها فرصة النظر إلى الواقع العياني نظرة متغايرة تتسم بالتأمل والتفكير في معطياته التي تحاول اللوحة اعادة انتاجها من خلال عالمها المفترض.

إنَّ نظرة تاريخية سريعة إلى التراث الإنساني تكشف عن حضور فاعل للرمز _ قبل أن يُعرف بهذا الاسم تحديداً_ حيث كشفت رسومات الإنسان البدائي على جدران الكهوف التي اتخذها أماكناً لسكناه في فترة ما قبل التاريخ عن وجود علامات رمزية بدت وكأنّها تشير إلى رموز خاصة مثل الأشكال الإنسانية، والكفوف ناقصة الأصابع التي أوّلها بعض الباحثين بدلالات سحرية، ينضاف إلى ذلك رسومات الحيوانات مثل الثور والخنزير والوعل والماعز، واستمر حضور الرمز مع استمرارية تطوره الحياتي، وهذا ما نجده في أمثلة كثيرة تُظهر الرموز وحضورها في حضارتي وادي الرافدين وحضارة وادي النيل.

ونظراً لكون الفنان رضا مصري فسيكون تركيز هذا البحث على الرموز التي اشتغلها في لوحاته الثلاث لما وجدتُه من استلهام الفنان رضا لهذه الرموز من جهة، ولتوافقها دلالة مع الرموز التي استعملها أجداده وتخصيصاً الفنان الفرعوني.

اعتمد الفنان الفرعوني في تشكيل رموزه على معطيات واقعه العياني متخذاً من الأشكال الهندسية وتخصيصاً الشكل المثلث للهرم، وكذلك الدائرة والخطوط بأشكالها امثلة، كما اتخذ من النباتات مثل السنابل واللوتس وكثير غيرها رموزاً، أمّا الحيوانات فكانت كثيرة أيضاً، وأشهرها الثور {ابيس} والصقر {حورس}.

واستمرت الرموز في حضورها المتلازم مع المسيرة الحياتية الواقعية والتشكيلية للإنسان، لكنني لن أُتابع هذه المسيرة التي تحتاج لتوقف طويل بل سأُحاول تحليل لوحات الفنان رضا، والرموز التي زرعها في لوحاته لتؤدي دلالات أرادها.

تنوّعت تجربة الفنان رضا بين الاشتغال اللوني المتعدد وبين اعتماد الحبر، الذي يجد فيه تحدياً أكبر، ومن خلال متابعتي له وجدته شخصية متحدية، ترفض الهزيمة والانكسار، وتتخذ من التحدي الايجابي المثمر طريقة للعيش سواء أكان على مستوى واقعه العياني أم على مستوى تجربته التشكيلية.

بعد اطلاعي على لوحاته وتأمّل اشتغاله فيها اخترتُ لوحة {الصرخة} لتكون عيّنة لهذا البحث.

واللوحات الثلاث مشغولة بالحبر وبقلم الرابيدو وهو قلم فيه خزان صغير لتعبئة الحبر، وله عدة مقاسات، وخامتها هي ورق الكانسون الذي يفضله الفنان رضا للرسم عليه.

ولا بُدَّ لي من الإشارة هنا إلى أنّ أبحاث العلماء في الآثار الفرعونية اكتشفوا كتابات بالحبر على قماش الكتّان الذي كانت تُلّف به المومياوات الملكية، كما اكتشفوا أنّ هذا الحبر مصنوع من اوكسيد الحديد أو صمغ الخضراوات الذي يخلط بالماء.

لكنّ الحفيد يستعمل الآن ما يتوفر في الأسواق من أحبار، أشهرها الحبر الصيني الذي يُصنع من لحاء الأشجار وزيت الحبوب والصمغ العربي.

لوحة الصرخة هي اللوحة الأُولى التي سأُحاول تحليلها، وهي لوحة حبرية أنجزها الفنان رضا في عام 2005، بحجم 40/ 55 سم. يكشف تكوينها عن حضور عناصرها التي تشكّل رموزها في الوقت ذاته، وهي:

1) الرأس الانساني بوصفه رمزاً كليّاً أو رمزاً أساساً تلحقه رموز جزئية هي: العجلة الصناعية، والشريط الكتابي، والطوق الرأسي.

2) حمامة السلام رمزاً كليّاً، والغصن رمزاً جزئياً.

3) ميزان العدالة رمزاً كليّاً، والبيوت المصرية رمزاً جزئياً.

4) الشمس وأشعتها.

 81-ridhaahmadيتخذ الرأس الإنساني موقعته في الجهة اليمنى من اللوحة، مُشكِّلاً من رمزيته وسيلة للتمظهر في اللوحة، وهذا ما دعا الفنان رضا إلى غرس الجسد في الأرض مشيراً إلى أنَّ الجسد يرفض حالة القتل المفروضة عليه قسراً، وهذا الانبعاث من باطن الأرض إلى وجهها يمثِّل تحدّياً معلناً لمحاولات الإمحاء والإفناء التي تُفرض على الإنسان جبراً.

يُشكِّل الرأس الجزء الأكثر أهمية في الجسد الإنساني، وتخصيصاً أنّه يحوي الدماغ، ذلك المكوِّن الحيوي الذي يمتلك السلطة الكاملة على الجسد، من هنا كانت انطلاقة فكرة الفنان في تظهيره وتحميله رمزية الجسد بكامله، ولم يجد الفنان في هذا اكتفاءً للتعبير عن فكرته الرافضة بل اشتغل باتجاه تظهير رموز أُخرى أسميتها رموزاً جزئية لكونها تتموقع على الرأس، فبدت وكأنها الدماغ خارجاً من الجمجمة، ودليلي في هذه الرؤية أنّ هذه الرموز هي نتاجات العقل والدماغ المبدع، فالعجلة المُسننة رمز عرفته الذاكرة الجمعية في الواقع العياني العالمي يؤشر الانتاج الصناعي، لأنَّ هذا النوع من العجلات صُنع ليكون ناقلاً للحركة من جزء لآخر في المكائن الصناعية، وكلّما دارت العجلة أدّت رمزيتها إلى زيادة الانتاج الصناعي واستمراريته.

لكنّ المسح البصري الدقيق يكشف عن عجلة ناقصة الشكل وليست كاملة كما يجب أن تكون في الالات والمكائن الصناعية المنتجة، قد يرى المتلقي أنَّ حجم اللوحة وحجم الرأس لا يمنح الفنان مكاناً كافياً لتظهيرها كاملة، وربما يرى أنّ الرموز الأُخرى المتموضعة على الرأس لم تمنحها مكاناً أيضاً، لكن – بتصوري – ومن خلال مراسلاتي ومعرفتي بالفنان رضا أميلُ إلى افتراض مغاير عمّا سبق، يعلن عن قصدية الفنان الواعية تماماً لهذا التمظهر الناقص، ودليلي في هذا أنَّ التمظهر الكامل يؤشر استمرارية الفعل الانتاجي، أمّا التمظهر الناقص فإنّه يؤشر نقصاً انتاجياً بفعل توقف العجلة عن الدوران، وبهذه الرؤية تتسق قراءتي مع مقصدية الفنان والتي تؤشر توقف الانتاج قسرياً رغم وجود رغبة العمل عند الإنسان، ولكنّ رفض الإنسان لمحاولة دفنه حيّا، وانبعاث رأسه فقط من باطن الأرض يؤشر الرغبة التي بُعثت مع الرأس في العمل والمشاركة في تسيير عجلة الحياة أيضاً.

ويأخذ الشريط الكتابي تموقعه على الرأس أيضاً بوصفه رمزاً جزئياً هو الآخر، ولكنَّ تمظهره بهذا الطول والالتفاف يكشف عن كونه ورق من نوع محدد وليس الورق الكتابي المتعارف عليه حالياً، والذي لا يصل طوله لهذا الطول، وهذا ما دفعني إلى التساؤل عن نوعية الورق التي تتخذ هذا الطول، فوجدتُه في ورق البردي، حيث يشير الباحث بلين في كتابه {التاريخ الطبيعي} إلى أنَّ أول مَن صنع ورق البردي من نبات البردي هم المصريون القدماء، وتخصيصاً في دلتا النيل، وأنَّهم كانوا يحددون أطوالها حسب حاجتهم إليها، فإذا كانت المادة المراد كتابتها طويلة فإنّهم يلصقون القطع ببعضها، حيث وجدت بعض القطع التي يصل طولها إلى 40 متراً، وعُرفت باللفائف، وهذه اللفائف كانت موئل علوم الفراعنة وقصص ملوكهم، ورسائلهم، وحساباتهم، وأُنموذجات اللوحات التي أنجزوها على جدران معابدهم وأهرامهم، وغيرها كثير .. إذاً هي صورة مكتوبة تمثّل حياتهم في ذلك الوقت.

إذاً ما علاقة ورق البردي بالورق المرسوم في هذه اللوحة؟    

يمكنني توصيف علاقة الإنسان بالورق بكونها علاقة دائمية حيث استمر حضورها حضوراً متوازياً مع الوجود الإنساني، مؤدية الوظيفة ذاتها عبر الزمن وهي حفظ العلوم المعرفية والفنون التي أنتجها الإنسان، هذا من جهة الملازمة بين الإنسان والورق، ومن جهة أُخرى تؤشر اللوحة اعتماد الفنان رضا فضل على رموز تاريخية مثل الحمامة والميزان لتأدية دلالات اللوحة، وهذا ما أحالني إلى ورق البردي بوصفه رمزاً يؤشر حضور المعرفة سواء أكان الحضور تاريخياً أم معاصراً.

إذاً قتل الإنسان لا يكون قتلاً جسدياً فقط بل هو قتل معرفي أيضاً، ولهذا اعتمدها الفنان رضا مؤشراً رفضه للقتل المعرفي مثلما يرفض القتل الجسدي.

يمثّل الطوق على الرأس رمزاً جزئياً آخر يطوّق الرأس المرسوم في هذه اللوحة، والمخزون في الذاكرة الجمعية الإنسانية أنَّ الطوق رمز للبطولة والانتصار، عرفته البشرية منذ أقدم الأزمنة، حيث استعمل الإنسان أغصان وأوراق شجرة الغار لصنع اكاليل تطوّق رؤوس الابطال والمنتصرين لجمالها ورائحتها المتميزة، لكنَّ الطوق هنا ليس هو هذا الطوق الايجابي الذي يؤدي وظائف متعددة: تكريمية وجمالية وتمييزية، بل هو طوق يعلن خشونته وتكسّراته، فبدا وكأنّه يتضامن مع معاناة الرأس، ودليلي في هذا هو تعمّد الفنان رضا منحه هذا المظهر، وكذلك الدموع المتساقطة منه، إذاً اكتسب الطوق وظيفة مغايرة لوظائفه المذكورة ليشتغل باتجاه تأكيد الألم والمعاناة التي أراد الفنان كشفها وتأكيدها.  

إنَّ ما قدّمتُه من حديث عن الرموز يتيح لي فرصة للإجابة عن تساؤل يعلن عن حضوره: لماذا أظهر الفنان رضا الرأس بفم مفتوح وملامح وجهية غاضبة؟

يشكِّل الفم المفتوح دليلاً يتآزر مع النظرة الغاضبة والوجه المتوتر لتأدية فعل الصراخ، واللوحة تعلن عنونتها {الصرخة} رفضاً وتمرّداً ضد سلبية الواقع الذي يفتقد قيماً مثالية يحلم بها الفنان رضا، ويعلن بحثه عنها من خلال التشكيل الذي يحمل وظائفية واضحة الملامح تشتغل باتجاه كشف المستور من السلبيات، وتشير الطروحات النفسية إلى أنَّ الواقع السلبي الذي يعيش فيه الإنسان قد يدفعه إلى تبني حالة الدفاع بوصفها شكلاً من أشكال الرفض والمقاومة التي تشتغل باتجاه تغيير هذا الواقع من خلال اعلان تمرّده عليه، وهذا ما تعلنه الصرخة التي يطلقها الرأس.

يشير التاريخ في أدبياته إلى أنَّ الانسان اتخذ الحمامة وغصن الزيتون رمزاً للسلام منذ عهد النبي نوح {عليه السلام}، فعندما جاء الطوفان أفنى الله كل ما على الأرض من بشر، وغطّى الماء أعلى قمم الجبال، لذلك أرسل النبي نوح {عليه السلام} الغراب ليرى إذا كانت الأرض قد شربت الماء أم لا ؟ فلم يعد الغراب، فأرسل بعد ذلك الحمامة، فعادت ولم يكن برجلها شيء، فأرسلها مرة أُخرى بعد سبعة أيام، فعادت ورجلها مغطاة بالطين، وفى منقارها غصن زيتون، فعرف النبي نوح {عليه السلام} أنَّ الأرض قد شربت الماء، ففتح السفينة ليخرج مَن بها، ويعمِّر الأرض مرة أُخرى، فأصبحت الحمامة وغصن الزيتون رمزاً السلام.

من هنا كانت فكرة الفنان رضا في هذا الترميز الذي اتخذ الحمامة وغصن الزيتون رمزاً للسلام، ورغم أنَّ الحمامة بدت طائرة في الفضاء، وهي تفرد جناحيها، إلاَّ إنّها لا تطير عالياً، بل هي أقرب إلى الأرض لأنّها تحمل ميزان العدالة الذي استقّر على أرضية اللوحة.

إذاً السلام الذي رمّزت له الحمامة سلام مفقود، ودليلي في هذا أنّ الفنان حمّل ميزان العدالة بقدمي الحمامة، للتدليل على ترابطهما، هنا سيفرض سؤال حضوره:

إذا كان الميزان رمزاً للعدالة كما استقّر في الذاكرة الجمعية، فأصبح شعاراً للمحاكم في كل دول العالم، فلماذا اختار الفنان رضا الأسلاك الشائكة لربط كفيّه؟

تشكّل الأسلاك الشائكة مصدّات تحدد وتحيط بالمساحات أو الأماكن التي يُمنع الاقتراب منها جبرياً لأسباب عدّة، لكنّ اختيار الفنان لموقعتها في الميزان يؤشر قصدية واعية في الكشف عن فقدان الميزان لوظيفته الموكولة إليه رمزياً ألا وهي الاعلان عن حضور تفاعلي للعدالة، فالأسلاك الشائكة يمكن لها أن تجرح الجسد الذي يحاول اختراقها وليس منعه فقط، مما يؤشر نقصاً بل انقلاباً للرمز يعلن أنّ طلب العدالة أمر يقود إلى الأذى أو ربّما الموت، وهنا أيضاً سيطرح تساؤل نفسه : هل العدالة المقصودة عدالة سماوية أم أرضية {وضعية}؟

في محاولتي البحث عن اجابة افتراضية كان لا بُدّ لي من المسح البصري المدقق للوحة من جهة، ومسح للذاكرة من جهة ثانية للوصول إلى تحديد تفترضه مشهدية اللوحة ورموزها، وكانت نتيجة هذا المسح هي: العدالة الأرضية {الوضعية} هي التي قصدها الفنان، والدليل على هذا أنَّ الميزان يستقرُّ على أرضية اللوحة التي تشكّل مقابلاً للأرض التي انبعث منها الرأس، هذا أولاً.

والحمامة وإن تمظهرت بمظهر الطيران إلاّ إنّها تطير قريباً جداً من الأرض، وهي ابنة الهواء، وهذا ثانياً . أمّا الأمر الثالث فهو حضور الرموز الجزئية التي تستقرّ في كفتي الميزان، وهي البيوت المصرية المدنية والريفية، والتي تؤشر حضوراً أرضياً، فلا بيوت تهيم في الفضاء، لأنّ سمتها الأساس هي الالتصاق بالأرض، والبيوت رمز للإنسان، تحميه وتحقق له الراحة والخصوصية، والإنسان هو الآخر كائن أرضي، إذاً العدالة الأرضية مفقودة ولا وجود لها.

والرمز الأخير الذي سأتوقف عنده هو الشمس، قرص يضئ الأرض بنوره، فيعيش الإنسان والحيوان والنبات، هكذا نظر الإنسان إلى الشمس، وعرفت نظرته إليها تغيّرات عدّة، تغيرت مشاعره تجاهها تبعاً لتغيّر هذه النظرة، فعاش ما بين التساؤل والاعجاب بها، ودفعه انبهاره بها إلى عدّها الإله الذي يجب أن يُعبد، فعبدها وحاك من تمظهراتها حكاياه وأساطيره، لكنّ عبادتها بدأت بالتلاشي مع تقدُّم الإنسان معرفياً، حيث كشفت الدراسات الفلكية عن كينونة الشمس التي هي غازات مشتعلة وليست كتلة مادية صُلبة وملساء، لها نواة دائرية، ويحيط بها {التاج الشمسي} وهو هالة برّاقة تحيط بالشمس.

هذه هي الشمس في الواقع العياني والمعرفي، سأُحاول الآن أن أقرأ رؤية الفنان رضا في اشتغاله لرمز الشمس في لوحته {الصرخة}.

اتخذت الشمس موقعتها في الزاوية العليا اليُمنى من اللوحة، مما يؤشر وقوعها في البُعد الثالث {العمق}، وهذا ما يتفق مع موقعها في الواقع العياني، وتمظهرت بنواتها حيث أنَّ رمز الشمس الذي تواضعت عليه الذاكرة الجمعية هو دائرة مغلقة في وسطها نقطة، وهذه هي النواة والتاج الشمسي {الهالة التي تحيط بالنواة}، ثمَّ شعاع الشمس، لكنَّ الشعاع الشمسي تمظهر بالطريقة ذاتها التي رسمها بها الفنان الفرعوني، حيث كشفت التنقيبات الآثارية عن لوحات جدارية وقطع منحوتة تظهر فيها الشمس دائرة مغلقة، ترسل أشعتها بعيداً عنها، وهذا ما سيكشف عن معرفية تاريخية وعلمية أفاد منها الفنان في تظهير الشمس بوصفها مصدر إضاءة وحياة، وهنا أيضاً سيجد تساؤل طريقه إلى ذاكرتي: هل أدّت الشمس وظيفتها في هذه اللوحة بما يتفق مع وظيفتها في الواقع العياني؟

يؤشّر المسح البصري لرمز الشمس في هذه اللوحة عن تجرّدها عن أداء هذه الوظيفة، فشعاعها ينتشر بعيداً، ولم يشتغل بإضاءة اللوحة لأنَّ الفنان أراد أن يمنح متلقيه دلالة عميقةً تكشف له عن بؤس الواقع وموت العدالة، وحضور الألم، ومحاولة قتل إنسانية الإنسان عبر تعذيبه وحرمانه من معطيات كونية منحها الله سبحانه وتعالى له ليعيش حياةً افضل، وبهذا يكون الفنان قد اشتغل باتجاه إعادة تشكيل معطيات واقعه السلبي البائس، عبر استعمال الرمز ليؤدي وظيفتيه:

العقلية: التي اشتغلت باتجاه إثارة خيال الفنان وأفكاره في انتقاء رموزه وموضعتها وتمظهرها ودلالاتها، وهذا بالتالي سيؤدي إلى الاعلان عن الوظيفة الثانية للرمز التي تؤشر الانفعالات التي تثيرها رموز اللوحة، ولن نجد ما هو أروع من الصرخة {صرخة الألم والرفض والتمرّد} على عالم فقد وجهه الإنساني واستبدله بمسخ لا إنسانية فيه، وهذا بالتالي يفسّر اعتماد الفنان رضا على الحبر وليس الألوان المتعددة لتنفيذ هذه اللوحة، لأنّ الحبر بسواده هو الأكثر قدرة على كشف السواد الذي ينشر عتمته على حياة الإنسان في عالم لا يمتلك عدالة ولا سلاماً، وتنيره شمس هي أقرب إلى السواد منها إلى الإشراق.      

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم