صحيفة المثقف

الحبّ الموعود بين القلّة والكثرة أو بين الأمد والأبد .. قراءة في نصّ سأحبّك أكثر لمادونا عسكر

سأحبّك أكثر...

قالَ يا نجمتي الحبيبة

ماذا سنكون بعد سنين جارفة من الحبِّ؟

قلتُ لا أعرف،

لكنّني سأحبّكَ أكثر...

- سيذوب الشّعرُ

وتبهت الألوانُ

ويعظم المعنى ويخفت زيت القمرْ...

- عندئذٍ سيكون حبّي أكبر

وسأحبّكَ أكثر...

- سترتحل الطّيورُ

ويسكن الرّبيع، ويعبر إلى ضفاف وارفة الظّلالْ...

- وهل بعد عينيك ربيع يزهر، أم ظلال تبشّر الشّجرْ؟

له أن يبلغ خواتمه ولي أن أحبّكَ أكثر...

- للبحر ذراعان ترسمان خطوط الشّفقِ

وللبيادر عينان ترنوان إلى آخر سنبلة تزهو...

- لي ذراعان تمتدّان وسع الكونِ

وعينان تعاينان ما بعد السّماءْ

وسأحبّكَ أكثر...

- للأنبياء زمن يحلّ وينتهي

والإيمان يوماً سيبتهل بحلول المنتهى

والرّجاء سيغنّي سكنى الختامْ...

- لي محبّة من قلبكَ تنهل الهوى

وشوق غزير أنت وعده ونجواهْ...

سيكبر القمرْ

وتشيخ الشّمس ويسكت الأثيرْ...

سيندثر الوقت وينتحب الصّدى

وأنا... السّاكنة في سويداء قلبك الحبيبْ

سأكبرُ وأحبّكَ أكثر...

 

القراءة :

1) العنوان/العلامة..باب الخطاب.. مطلق الحبّ

سأحبك أكثر..

لا يمكن تبيّن كمال المعنى في هذا المقطع الخطابيّ /العنوان إلاّ بتنزيله ضمن السياق الوجدانيّ الرّوحيّ الفكريّ التّواصليّ الذي أنتج فيه..وهو سياق بوحيّ (déclaratif) حواريّ، يتفاعل فيه أكثر من صوت وأكثر من " وجهة نظر "..ولذلك يبدو لنا في حوار والصيغة الاعترافيّة / البوحيّة التّالية :

..."أحبّك.."

وهي صيغة جامعة بين بعد "إخباريّ" من طراز مخصوص يتعلّق بمخاطب هو المقصود بالعلم أو الخبر، وبعد تعبيريّ يرتدّ إلى الذّات البائحة ومدى حاجتها إلى هذا الضّرب من الأقوال "الخاصّة"..ولعلّ من أهمّ ما يميّز هذا القول زمانيّته، من حيث هو قول آنيّ يتزامن فيه التّلفّظ والمحتوى القضويّ المخبر به أو المعلن عنه، باعتباره حالا وجدانيّة تسم علاقة بين الذّات المعرّفة حبّا، والمخاطب موضوعا للحبّ ..فنكون أمام صيغتين بينها حوار مبين عن فارق أو فوارق، هي المقصودة بالإجلاء في النص/الخطاب..

فالأولى (أحبّك) وصفيّة بوحيّة آنيّة متعلقة بتحقّق الحال في الحال(الحاضر)..وهي أربعة عناصر مشكّلة لها :

أ (حاضر)حبّ (أنا)ك (أنت)

أمّا الثّانية (سأحبّك أكثر) فهي متجاوزة للآنيّة (زمن تلفّظ) لتكون وعدا بما هو راهن، ليكون في صورة أخرى (الكمّ..) فنكون أمام ستّة عناصر :

س (استقبال)أ(حاضر) حبّ (أنا)ك(أنت)

وبهذا تتشكّل المقولات التي ستتحرّك في الخطاب وتتفاعل في نطاق هذه الحواريّة البارزة والمبرزة لجملة من الثّنائيّات والأصوات والمراتب الزمانيّة والحاليّة والكمّيّة..

فالمتكلّمة تتماهى حبّا مفتوحا على ازدياد وصعود في سلّم الكمّ (أكثر) في المستقبل، وتتمايز عن حبّ مفتوح على انتقاص ونزول في سلّم الكمّ (أقلّ) في المستقبل..ليكون خطابها في الحبّ وخلافه أو ضدّه، وإن تسمّى باسمه والتبس به، فتنطلق من الحبّ قيمة مشتركة شائعة حالا ولفظا، وتبني أو تعيد بناء بناء القيمة ذاتها بما يجعلها قيمتها هي لا قيمة الآخرين..

ولعلّ هذا المدخل الكمّي التّقديريّ هو من المفاتيح الدلاليّة الجوهريّة للوصول إلى جوهر هذا الخطاب العشقيّ الخاصّ..فعلى محور الكمّ في اتّجاهيه: أقلّ وأكثر، يتحرّك الخطاب الشّعريّ الوجدانيّ ليردّ على حقيقة واقعة سائدة زمانيّة :

سأحبّك أقلّ...

وهذا "الحبّ أقلّ" ينطلق من حبّ أكثر، هو الذروة التي ما فوقها ذروة، وإن توهّم المتكلّم أنّه سيحبّ أكثر، فقالها، بيد أنّ الزّمان لا يحقّقها، فيرتدّ الحبّ ويتناقص ويذبل حتى يتلاشى ويضمحلّ ويؤول إلى اللّاحبّ أو إلى الكراهية، أي إلى ما ليس هو، وليس ضرورة ضدّه، أو هو منقلب إلى ضدّه..وخطاب الشّاعرة واقع في نطاق هذه المقولة الضدّيّة في بعديها الكمّي والوجدانيّ، ومتّجه وموجّه إلى المحور في بعده الإيجابيّ (+) التّصاعديّ، لتفهم الكثرة تكاثرا، أي كمّا (استعاريّا) مفتوحا على ازدياد لا حدّ له، لتكون الكثرة "لا قلّة" في جانب، و"لا كثرة" حين ينفصل الخطاب، وتنفصل الحال عن منطق الكمّ، ليكون الحبّ خارج التّقدير والموازنة والمقارنة..

وبين الأقلّ فالأقل، تناقصا حتّى الفناء (قيم العالم)، والأكثر فالأكثر (قيم المتكلمة في العالم وخارجه/خروجا منه وعليه..) يتجلّى هذا الخطاب/النّشيد في الوعد اليقيني بمطلق الحبّ نفيا للنسبيّ منه والبشريّ مقابل الإنسانيّ/الإلهيّ /الإنسان العاشق كما لم يعشق، ولا يمكن أن يعشق أحد، وإن بلغ في الحبّ مبلغا بدا عظيما..

 

2) انتشار الخطاب..من الأنا إلى كونيّة الحبّ

ينتشر خطاب التغنّي بمطلق الحبّ في ستّ مخاطبات، في بنية حواريّة يتناسب فيها الصوتان حضورا، ويتكاملان وظيفة (قول على قول أو رد على قول...) توضع القيمة موضوع التغنّي على محكّ التّجربة الزّمانيّة (الحبّ والزمان في المخاطبة الأولى..) فالتّجربة الإبداعيّة (الحبّ والفنّ في المخاطة الثانية..) فالتّجربة الوجوديّة (الحبّ والوجود في المخاطبة الثالثة..) فالتّجربة الكونيّة (الحبّ في الكون في المخاطبة الرابعة..) فالتّجربة الإيمانيّة (الحب والإيمان في المخاطبة الخامسة..) وينغلق الخطاب بوصل تجربة الحبّ بالأبديّة، نفيا لكلّ نسبيّة، وتحقّقا في مطلق الحبّ (في المخاطبة السّادسة..)...

 

3) حواريّة القيم .. نزوعا إلى المطلق

تواجه الشّاعرة في هذا الخطاب الوجدانيّ القيميّ الإيمانيّ نظاما للقيم محكوما بالزّمانيّة وقانون الصّيرورة و"استهلاك" العواطف وخضوعها لمنطق "التّجدّد" والسّعي المحموم للتّنوّع نشدانا لما يملأ النّفس، ويبدّد حيرة الحائر وخوفه :

 

ماذا سنكون بعد سنين جارفة من الحبِّ؟..

وفي منطق الزّمان والواقع سيكون الفناء والعدم، إلاّ أنّ صوت المتكلّمة يرتفع نقضا للعدميّة وانتصارا للحبّ سبيلا إلى الأبديّة، وتغلّبا على قوانين الحياة والواقع والمادّة والجسد...

وهكذا يكون الحوار حوار قيم و"وجهات نظر" بإزاء معضلات الوجود الإنسانيّ، وأكبرها ما تعلّق بالمعنى والمابعد :

وهل بعد عينيك ربيع يزهر، أم ظلال تبشّر الشّجرْ؟

...........................

وعينان تعاينان ما بعد السّماءْ...

والشّاعرة المتكلّمة، إذ تحاور المخاطب، تجيب عن سؤال الحيرة وسؤال المعنى وسؤال الغاية وسؤال المستقبل وسؤال الغيب..كلّ ذلك في سؤال الحبّ، بين النّسبيّ والمطلق، والعابر والدّائم، والزمنيّ والأبديّ، والمنحدر والصّاعد، والقليل والكثير، والفقير والغنيّ، والمنتهي أبدا والمبتدئ أبدا، والبشريّ والإلهيّ..لتكون صوت الحبّ /صوت الرّبّ يعلّم الإنسان كيف يحبّ وكيف يجد السّبيل إلى الحبّ الأكمل..

 

4) الحواريّة..بين الانفصال والاتّصال..

من أبرز وجوه تعدّد الأصوات في هذا النّصّ/الخطاب، قيامه على حواريّة صريحة مباشرة، يؤطّرها تلفّظا، صوت المتكلّمة/الشّاعرة حاكية ناقلة، وطرفا رئيسيّا في بناء هذا الكون العشقيّ الموعود..ولا يمكن وصف صوتها منفصلا عن صوت المخاطب، لأنّه يشاركها موقع المتكلّم بما تحكيه عنه، لتكون مخاطبة، في هذا التّبادل الكلاميّ المتعدّد الأبعاد..وفي هذا التّداول على الموقعين ما يعكس العلاقة المتغيّرة بينهما، فهو إذ يسأل ويصف ويستبق، يستفزّ ذهنها ووجدانها، فتجيب بما ينفي ما هو مدار الحيرة والخشية..ولذلك فهي المعلّمة المُعْلمة العليمة المطمئنّة إلى نظام قيمها وإلى القيمة المركزيّة فيها (الحبّ) وإلى قدرتها على الحبّ في الدّرجة المنتظرة أو المشروطة، لتكون في تمام العشق..أمّا المخاطب، فهو موضوع العشق، وطالب مطلق الحبّ، والمستفزّ لخطاب هذا الإطلاق..ولم لا نعدّ الصّوتين صوتا مقوليّا واحدا فيه هذا التّردّد بين النّزعة والنّزعة، وإن غلبت إحداهما.؟ ولم لا نعتبر الحواريّة أسلوبا فنّيّا لعرض المواقف ووجهات النّظر بشكل دراميّ أقرب إلى صدق الحقيقة الواقعة؟...خصوصا وأنّ في هذين الصّوتين (المخاطب أساسا)ما يتّسع للقيم العامّة/الجماعيّة، وهي تحاور القيم الفرديّة الخاصّة...

 

5) الاستقبال..اليقين..الأبد

هذا الخطاب مؤطّر زمانيّا بالحاضر زمانا للتّلفّظ، وبالمستقبل القريب والبعيد فالأبعد، حتّى منتهى البعد..ويمثّل هذا الزمن المفتوح غيبا للكشف وسرّا منغلقا مستعصيا تسافر إليه النّفوس لتراه، أو تطلب من يراه، فتتساءل وتسأل:

ماذا سنكون...؟

ويقترن هذا الاستفهام (المستقبليّ) في سلسلة "الأحداث" المستبقة، بيقين ووثوق ممّا سيحدث ولا ردّ له، لأنّه من المعارف خبرة وقياسا على الماضي، وكلّ حاضر ماض، وكل مستقبل ماض بالقوّة، وإن لم يحلّ..وهكذا يختزل الصّوت، صوت المخاطب، منطق الصّيرورة والانقضاء، فتتراكم الصّور "الاستعاريّة" المتضافرة تكثيفا لمعنى الفناء في الطبيعة والفنّ والتّاريخ والرّسالات :

سيذوب الشّعرُ

سترتحل الطّيورُ

سيبتهل بحلول المنتهى

والرّجاء سيغنّي سكنى الختامْ...

سيكبر القمرْ

سيندثر الوقت وينتحب الصّدى...

ومقابل هذه "السّين" العدميّة النّاظرة إلى وجوه الانقضاء والقلّة والفناء، تبرز"سين" مبشّرة بمطلق الحبّ، قيمة لاغية لكل القيم، حالّة محلّها، نافية قوانين الطبيعة والتاريخ والأشياء، في صيغة متواترة، عنوانا ولازمة، باعثة الشعور باليقين والحاجة إلى تجديد المفاهيم وتبنّي وجهة نظر عشقيّة شاملة، منقذة من ضلالات الزّمان، ومن تيه البحث عن المعنى :

وسأحبّكَ أكثر...

 

6) الذّات المتكلّمة..الإيمان بالحبّ..الحبّ الإيمانيّ..

تبرز الذّات المتكلّمة في تماه مطلق والمتلفّظة، صوتا جوهريّا بارزا من خلال حضور مهيمن لضمير المتكلّم (أنا) يصوغ خطاب الواثق المخبر عمّا وقع ويقع وسيقع، في نبرة بادئة بادية وكأنّها اللاّعلم :

لا أعرف...

وهذا عمل النّفي الوحيد في الخطاب، وهو نفي غير حقيقيّ ، لأنّه لا يتعلّق بجوهر الموضوع بل بصورته وهيأته، ف"الحبّ أكثر" أمر ثابت يقينيّ في المستقبل، لكنّ الذّات العاشقة لا تدركه فعلا، بل تؤمن به حالا حاصلة في المستقبل لا محالة..فينتفي اللاّعلم ليحلّ محلّه علم اليقين..وهو علم مأتاه كفاءة روحيّة عالية، وروح عاشقة وبالغة في العشق مقاما رفيعا متساميا عن آثار الزّمان وتقلّبات المزاج والهوى وما يطرأ على النّفس من النّزعات والنّزوات...

لذلك أتي الخطاب في صيغ إخباريّة محكومة بمنطق التّحقّق في المستقبل، ممّا يعكس رؤية استباقيّة يقينيّة، ليست النبوءة بقدر ما هي الإيمان العشقيّ أو العشق الإيمانيّ المنغرس في صميم الكيان انغراسا تكوينيّا متمكّنا...

 ولا معنى لهذا الخطاب من وجهة نظر المتكلّمة إلاّ من خلال منزلة المخاطب والعلاقة القائمة والقادمة بينها وبينه..فكلّ العمليّات الخطابيّة موجّهة إليه، مركّزة عليه..فهو المدشّن للحوار، والدّافع لحركته، والمتيح للمتكلّمة أن تبني وجهة نظرها القيميّة العشقيّة، وهو المقصود بالنّجوى والعشق..ولا يظهر إلا ضميرا مخاطبا أو متكلّما، ليس فيه من الملامح ما يتيح تحديد كيانه وهويّته..ونحتاج إلى خطاب المتكلّمة /الشّاعرة لنعلم أنّه المحبوب الأجدر بمطلق الحبّ، مجرّد هو من سمات البشريّة، أقرب إلى سمات الرّبوبيّة..وكلّ هذا من آثار الكفاءة الموسوعيّة والثّقافيّة والإيديولوجيّة للشّاعرة، تلك الكفاءة التي بلغت بها هذه المماهاة بين الله والحبّ...

ومن خلال كلّ ذلك هي قاصدة إخراجنا من حال النّقص والحاجة والفقر والضّحالة، إلى حال الكمال والامتلاء والغنى والمعنى..

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم