صحيفة المثقف

نقد النقد الأسلوبي

anwar ghaniلا ريب أنّ الادب انجاز انساني رفيع، افتتن به الانسان منذ قديم الازمان، وبدأ يتحرك نحو سره الكبيرة، واسباب الابهار والدهشة المتحققة به ، فكان النقد باشكاله المختلفة وطرقه المتعددة متصديا لذلك . وكثيرا ما كان يصيب نقاطا من الحقيقة حتى بالرؤية الانطباعية والذوقية العامة .

لقد اجاب النقد الادبي حتى في صوره البدائية عن تساؤلات مهمّة تخص الادب وجمالياته، وكان للبلاغة العربية وعلمي البديع والبيان بناءات شاهقة عملاقة في هذا الشأن، نجد غيرها عاجزا عن بلوغ تلك المباني . ورغم تطور الفهم الانساني للغة وعوالم الدلالة، الا انّ نظرية النقد بقيت غير مستقرة، حتى ظهر اتجاهان متطرفان حديثان : الاول ادبية النقد الادبي بان يكون النقد نصّا جماليا فوق النص مليء بالعبارات الشاعرية والفنية لا يقيم ولا يصف حتى وفي تسمية هذا الشكل نقدا اشكال عريض . والاتجاه الثانية تذويب النقد في علم اللغة، هذا العلم الذي يتفاخر البعض انّه اول من سبر غوره وواكتشف عوالمه الا انّ الكثيرين لا يعلمون انّ المشتغلين في علم اصول الفقه لديهم ابحاث دقيقة وعميقة في علم اللغة والدلالة والاشارات والتفريق بين مستوى الفكر والوضع للغة ومستوى الاستعمال والكلام يمتد الى مآت السنين . انّ في ابحاث الاصوليين المسلمين كمّا هائلا وعظيما من التحليل الدقيق جدا لمستويات القول والكلام واللغة يفوق كل تصوّر حتى تصورات الالسنيين انفسهم، فهناك بحث مطول جدا عن الوضع واقسام الوضع ونشأة اللغة وتصور الموضوع له، والاصول اللفظية التي لا نجد لها اثرا اصلا عند الالسنية المعاصرة والنقد المتكئ على علم اللعة .

انّ تعكّز النقد الحديث على علم اللغة الوصفي والالسنية الحديثة ارتكب خطأ فادحا حينما اختزل الظاهر الادبية في مفهومين ضيقين هما الخطاب والخرق، فما عاد الادب الا اعتداء على القاعدة اللغوية، واستعمال خارق للمعروف بين النوع، ووضعت تحت عنوان فضفاض اسمه الاسلوبية .

ان النقد الاسلوبي وان كان يحقّق وصفا جيدا لجانب مهم من عملية الابداع، الا انّه ينظر اليها من زاوية ضيقة بل وميتة، كما انّه يختزل العمل الابداعي في هذا الجانب غير متعرض، بل ولا فاهم لجوانب جمالية كثيرة وكبيرة في لغة الابداع واساليبه، بمعنى ان الاسلوبية لم تكن وفية لاسمها ايضا اذا اقتصرت على جانب من الاسلوب وادعت انها تدرس الاسلوب كله . ومع ان الاسلوبية تنقل النقد الادبي الى مكانه الصحيح بتخليصه من الابحاث الخارجية كالنفسية والاجتماعية، الا اننا نرى انّ تلك النقلة مهزوزة وغير واثقة لذلك نجد احيانا عودة الى الغرق في الابحاث الخارجية وخلط فضيع بين البحث الجمالي ومرتكزات الاسلوب ومبادئه العامة من ظروف واحوال نفسية وتاريخية واجتماعية .

لو جئنا الى تحليل عميق للنقد الاسلوبي فانا نجده وبوضح يهتم بالتوظيف الفني، ولانّه يرتكز على قواعد ومسائل علم اللغة العام والالسنية والتخاطب، فانه لا يستطيع ان يرى ذلك التوظيف الا من جهة الاسلوب الخارق للقاعدة، بينما الواقع ليس كذلك، جماليات اللغة غير محصورة باسلوب الخرق، بل احيانا يكون في توظيف راقي للمعهود والمعروف، وربما تكون تلك النتائج ناتجة عن تاثيرات الحداثة على النقد الاسلوبي .

التوظيف الفني الذي هو احد عوامل الابهار اوسع بكثير من اسلوبية النقد الاسلوبي كما ان المدقق يجد ان الاسلوبية ليست في واقعها تتبع حر لمظاهر الابداع الاسلوبية كلها وانما يختصر بحثه على جزء صغير من المظاهر الاسلوبية والتي يمكن تلمسها عن طريق علم الاشارات والعلامات والدلالة، واما غير ذلك من الاسلوبيات اللغوية فخارجة عن دائرة النقد الاسلوبي واداوته وهذه هي المعضلة والمشكلة الاهم التي توجه النقد الاسلوبي لذلك ظهرت دعوات الى التحرر من مستوى النص الى ما بعد النص، وفي الحقيقة هذه الحركة ايضا قاصرة لانّها محدودة في هذا الفضاء الضيق .

لا ريب انّ الابداع هو شيء من الفرادة والاسلوب الخاص، وتتبعه وتفسيره وقراءته تحتاج الى ادوات واسعة بسعة التجربة الانسانية، لذلك يجب ان ينتقل النقد الاسلوبي من الاسلوبية الالسنية السائدة الى الاسلوبية الانسانية الكبيرة وتوظيفات اللغة الواسعة المنبثقة واللصيقة بالتجربة الانسانية، في نقد جمالي يقدم تفسيرا واقعيا لظاهرة الابداع الادبي يميز بين فنية الفن واعناصر جماليتها ومظاهر الابداع الرسالية، في عنى وثراء واضح تقف الالسنية والاسلوبية بصورتها الحالية مدهوشة ومبهورة تجاه عظمته .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم