صحيفة المثقف

العلامة بحر العلوم سفير النجف للعالم وسفير العالم للنجف

abduljabar alrifaiرحم الله صديقي العلامة السيد محمد بحر العلوم؛ سفير النجف للعالم، وسفير العالم للنجف .. داعية العقلانية في زمن الجهل، والاعتدال في زمن التشدد، والوطنية في زمن الانتماء للطائفة والقبيلة، والعراق نصاباً في زمن طمس الهوية العراقية، والحياة في زمن الموت، والسلام في زمن الحرب، والتسامح في زمن الانغلاق، والعيش المشترك في زمن نفي الآخر، وتدين المحبة في زمن تدين الكراهية .. رحم الله العلامة السيد بحر العلوم؛ الروح المشرقة بالإيمان، القلب المشبع بمحبة الله والانسان والعالم، العقل المنفتح على المذاهب والفرق والثقافات والأديان المختلفة.

ينتمي السيد بحر العلوم الى جيل متميز لامع، ظهر في حوزة النجف قبل أكثر من نصف قرن، ضمّ نخبة من رجال الدين الأدباء المثقفين المستنيرين، مثل: السيد مصطفى جمال الدين، السيد محمد بحر العلوم، السيد محمد حسن الأمين، السيد هاني فحص..وغيرهم.

فضلا على تكوينها الحوزوي التراثي في المعارف الإسلامية وعلوم اللغة العربية؛ تواصلت هذه الجماعة مع الأدب الحديث، والكتب والدوريات الجديدة الصادرة في القاهرة وبيروت، وانفتحت على الصحف والمطبوعات العراقية في بغداد والنجف.

لم تقتصر على المطالعة فقط، بل اهتمت بنشر نصوص أدبية، ومقالات متنوعة في هذه المطبوعات، وفي مرحلة لاحقة تكثّف حضورها في نشراتها ودورياتها النجفية الخاصة، حين صدرت: البذرة، الأضواء، النجف، الايمان..وغيرها.كذلك انخرطت هذه الجماعة في فعاليات المنتديات الأدبية الثقافية النجفية، مثل: جمعية منتدى النشر، جمعية الرابطة الأدبية، جمعية التحرير الثقافي، أسرة الأدب اليقظ.. وغيرها.

استطاعت هذه الجماعة أن تبتكر لنفسها صورتها المنفردة، وبصمتها التي لا تنطبق إلاّ عليها، وصوتها الذي لا يكرّر أصوات سواها؛ ذلك أنها استطاعت في وقت مبكر أن تتخطى أسوار التراث، ولم تلبث غارقة في مداراته، مثلما هو الاتجاه السائد لدى معظم الدارسين في الحوزوة.

تكثفت مطالعات ونقاشات هذه الجماعة للنصوص المنشورة في مجلات: "الرسالة"، التي أصدرها أحمد حسن الزيات في القاهرة، و"الآداب" التي أصدرها سهيل ادريس في بيروت، و"الهلال"، التي أصدرها منذ القرن التاسع عشر جرجي زيدان في القاهرة، واستمر في إدارتها أبناؤه بعد وفاته..وهكذا.

لم تعبأ هذه الجماعة بأدبيات الجماعات الإسلامية وكراسات مؤسسيها ومنظريها، ولم تنبهر بكتابات: أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وتقي الدين النبهاني، كما انبهرت أنا في شبابي، وغيري من أبناء جيلنا؛ ممن جاء بعدهم. فسرقتنا أحلام ومُثُل وشعارات هذه الأدبيات الرومانسية، بنحو لبثنا فيها لا نرى ماهو خارج أسيجتها، ولا ندري شيئاً عن أي فكر أو معرفة أو أدب أو فن لا يقع بين جدرانها. ولم أتمكن من الإفلات منها، إلاّ بعد أن سرقتْ أجمل سنوات حياتي وأغناها، وأشدها حيوية وتدفقاً. كان كلُّ شئ فيها يتكرر، بالرغم من اختلاف اسماء المنشئين والمدونين لها. إنها نص واحد؛ بكلمات تتبادل مواضعها، وجمل يتغير تركيبها، وعبارات تعاد صياغتها.

كان لاعتدال مرجعية الامام السيد محسن الحكيم الأثرُ الكبير في تأمين غطاء للعلامة بحر العلوم وتيار الثقافة والأدب في حوزة النجف. كما إنهم كانوا محظوظين برعاية أبوية لأساتذة مبرزين، مثل: العلامة الشيخ محمد رضا المظفر، والعلامة السيد محمد تقي الحكيم .. وغيرهما. تميز هؤلاء الأساتذة بتكوينهم التراثي العميق، وثقافتهم الحديثة، وتطلعهم الى كل ما هو جديد في المعرفة البشرية، وحرصهم على إعادة بناء النظام التعليمي في الحوزة، وتدشين تجربتهم من خلال تأسيس منتدى النشر، وكلية الفقه، ورفد مقرراتها بالعلوم الإنسانية الحديثة، كعلم النفس، والاجتماع، والقانون، والفلسفة الغربية.. وغيرها. بموازاة تأليف كتب بديلة لدراسة المقدمات والسطوح في الحوزة، تحاكي الكتب الجامعية، في أسلوبها، ومنهج تأليفها، وتسلسل مباحثها منطقياً، وتخلصها من إبهام وغموض وتلغيز الكلمات والعبارات، المتفشي في بعض الكتب. الوضوح هو ما يطبع مؤلفات الشيخ محمد رضا المظفر: "المنطق، عقائد الإمامية، أصول الفقه.."، وهكذا الكتاب الجاد للسيد محمد تقي الحكيم: "الأصول العامة للفقه المقارن". لقد تمّ تدريس هذه الكتب الجديدة ابتداءً في كلية الفقه، ثم زحفت بالتدريج الى الحوزة، بعد انزياح بعض الكتب المتعارفة السابقة.

في هذا الفضاء الحوزوي والأكاديمي والأدبي والثقافي نشأ وتكوّن بحرُ العلوم. وواصل تكوينه الأكاديمي في الدراسات العليا؛ الماجستير في جامعة طهران، والدكتوراه في جامعة القاهرة. بعد أن تعرّض للملاحقة من نظام البعث.

منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي أقام السيد بحر العلوم في الكويت ثم لندن، ولبث في الأخيرة حتى سقط صدام حسين. اشتهر بمثابرته على العمل والإنجاز حيثما حلّ، وأين استقر، فلم يترك المطالعة والبحث، مهما كانت الظروف المحيطة به. ولم يهمل الكتابة والتأليف أينما مكث. ففي كل مرة ألتقيه، رحمه الله، أجده يتطلع بشغف الى كل ماهو جديد، فيبادرني على الدوام بسؤاله الذي أدمنته، وكنت أستعد لجوابه؛ ما الجديد لديك؟ لحظة أقدّم له كتاباً جديداً، أو العدد حديث الصدور من مجلة قضايا اسلامية معاصرة، يبتهج، ويهمّه التعرف الى مضمونه، ويعدني بمطالعته، وإبداء ملاحظاته.

لا يزهد بالإنتاج الفكري أو يهمله أو يتجاهله، مثلما هي عادة بعض الذين لا يدركون قيمة الفكر، وأثر المعرفة في بناء الانسان والأوطان. في زيارتي الأخيرة له في معهد العلمين - قبل بضعة أشهر - أدهشني شغفُه بالتعرف الى ما هو جديد من إنتاج ثقافي. بالرغم من مرضه، ووهن جسده، وشيخوخته، لكن عقله لم يكسل أو يخبو.

في أكثر من مرة اقترحت عليه تدوين مذكراته، كنت استحثه لئلا تغيبَ ذاكرةٌ مكتنزة بتاريخ جيل، وغيابُ ذاكرة كهذه يعني احتراق مكتبة وأرشيف وثائق غزير، ولأني أعرف أنه الحلقة الأخيرة من جيل حوزوي عصامي متميز، تغلب على الأسيجة، فعبر من الحوزة الى الناس، من الشيعة الى السنة، من المسلمين الى غير المسلمين، من النجف الى العالم.

بحر العلوم أحد أبرز ممثلي هذا الجيل، إذ أصبح رسول النجف للعالم، ورسول العالم الى النجف. وهو في كل ذلك يثري هويته، ويرسخ وطنيته، ويكرّس إيمانه، ويعمّق وعيه؛ عبر الإصغاء لصوت العصر، والانفتاح على آفاق رحبة في فهم الدين والحياة، وما ينبغي أن يكون عليه التدين المواكب للواقع ومستجداته السريعة الإيقاع والتغير.

استطاع المرحوم بحر العلوم بناء شبكة علاقات ثقة مع مختلف الشخصيات في الحوزة وخارجها، من؛ رجال دين، ومثقفين، وأكاديميين، وسياسيين، من العراقيين وغيرهم. لم يعطله مذهب أو دين أو موطن أو قومية أي شخص عن بناء علاقة معه. قلما وجدت إجماعاً على قبول شخصية عراقية، واحترام الجميع وثقتهم بها، كما وجدت في شخصية السيد بحر العلوم.

الوضوح والهدوء والدفء والحميمية تكلّل صوته وحديثه وإشاراته وعباراته وإيماءاته ونظراته، كنت أشعر حين أجلس معه كأني في مقام كائن بشري لا يعرف العنفُ اليه سبيلاً. إنه يفيض سلاماً ومحبة ورقة. تلك هي فرادة شخصيته وسموها الأخلاقي.

ظل واضحا في تعبيره عن شكل الدولة التي ينشدها في العراق، لا يتردد في إعلانه تبني النظام الديمقراطي الحديث. لا يتوارى خلف الكلمات، أو يختفي بين العبارات، أو يتحذلق في نحت مصطلحات، لا صلة لها بقواعد الاشتقاق في العربية أو غيرها من اللغات، مثلما يفعل البعض، ممن يلتبس خطابهم برطانتهم، فلا ندري ما الذي يريدون، وأي نموذج للسلطة في بلادنا ينشدون.

طالما شعرت بالحرج الأخلاقي في إلحاحه عليّ للتدريس في معهد العلمين، وهو المعهد الذي أنجز فيه أحد أحلام حياته القديمة، بتأهيل خبراء في علوم السياسة والقانون والإدارة.. ذلك أنه يدرك أن النهوض بتأسيس دولة حديثة في العراق، يتطلب خبرات مهنية تستوعب المعارف الجديدة في بناء وإدارة الدولة.. لفرط رغبته، ومعرفتي بوطنيته، ومصداقيته، وغيرته، وضميره اليقظ، وحبي واحترامي العميق له؛ تمنيت أن أعود لأتوطن النجف مستقبلاً؛ متفرغاً للتعاون معه في تأهيل تلامذة معهد العلمين، وإن كنت أحسب تحقيق مثل هذه الأماني بعيد المنال، ذلك أن غرقي بإدارة مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، وتحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة، والإشراف على تلامذتي وتوجيههم، يقعدني عن إنجاز الكثير من الأحلام والأماني.. متمنياً أن لا تكون خسارتي بفقدانه سبباً لانطفاء هذا الحلم وغيره غداً.. ثقتي بالله تعالى لا حدود لها، والود والحميمية مع ولده: "د. ابراهيم"، ومعرفتي بمواهبه وخبراته ومثابرته وإخلاصه، تدعوني للتفاؤل والثقة؛ بأن الضوء الذي انبعث قبل أكثر من نصف قرن من قلب وروح وعقل بحر العلوم الأب، سيتوهج ويسطع مجدداً من قلب وروح وعقل بحر العلوم الابن.  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم