صحيفة المثقف

من دفاتر نيتشه الفلسفية: الفلسفة والفيلسوف .. المفهوم وأية علاقة؟

mohamad bakohننطلق في هذه الدفاتر الفلسفية لنيتشه، من تصور أوّلي أساسي، مفاده أن فكر نيتشه الفلسفي، يستحسن الإنصات إليه أكثر من قراءته . وإن قرئ، ينبغي أن يقرأ به وفيه، وليس بفكر استباقي خارجي، أو استنادا إلى منظور منهجي واضح الملامح والمعالم .

لهذا، ففكر نيتشه المعّقد فلسفيا، لا يمكن تمثل منجزه الفلسفي القصدي، إلا بالابتعاد أولا عن قراءته القراءة الاختزالية الصارمة، أو الأحادية الجانب، وثانيا، باتخاذ مسافة معينة مع الفكر الايديولوجي الإسقاطي الموجه، وثالثا، بالتبني الفعلي للقراءة الفلسفية المنفتحة، على لغة المعرفة الشمولية، باعتبار أن نيتشه نفسه اعترف، في أكثر من موضع، في كتاباته الفلسفية العميقة، بأنه يكتب فلسفته بلغة الدم، وليس بالقلم . يعني أن الفلسفة هنا، غير الفلسفة بالمفهوم الأكاديمي الشائع والمألوف. القول الفلسفي هنا بمثابة كتابة إبداعية، يعبر من خلالها الفيلسوف عن ذاته، وعن فكره، وعلاقاته المختلفة، والمتوترة أحيانا بالعالم من حوله، حتى وإن كانت تعبيراته الذاتية المبدعة، هنا بلغة المفاهيم الفلسفية، انسجاما كليا مع الشكل الشعري الشذري .

 

1 – الفيلسوف الموحد، واختياره لموقع الوحدة والتوحد، كموقف انفصالي ومقاوِم، لتحرير ابداعه الفكري والفلسفي .

يقول نيتشه في هذا الصدد: " لكي يعيش الانسان وحيدا، عليه أن يكون حيوانا، أو إلها، قال أرسطو . تبقى حالة ثالثة، عليه أن يكون الاثنين معا .. فيلسوفا " 1 .

يتجاوز نيتشه هنا أرسطو، في مسألة مفهوم الإنسان ككائن حي . فإذا كان أرسطو قد حدد معنى الانسان المتوحّد، بالتعبيرين الفلسفيين المتناقضين: الحيوان والإله، باعتبار التعبير الأول (الحيوان = الطبيعة) يحيل على الاختيار الوجودي المحايِث للفرد البشري، بتعبير دولوز (الحسّي والغرائزي والأرضي)، في حين يحيل التعبير الفلسفي الثاني (الإله = الدين) على الاختيار الوجودي المفارِق، دائما بلغة دولوز (التجريدي والسماوي) . في المقابل، يضيف نيتشه القيمة الفلسفية لمعنى وحدة الانسان، وهي القيمة التي تجعل مفهوم الفيلسوف، في نظر نيتشه، يتخذ شكلا مركبا من البعد الحسّي الجسدي، الذي يعتبر بعدا أساسيا لتوازن الفرد الإنساني عند نيتشه، والبعد المثالي المتعالي الخيالي والجمالي، ثم البعد الفكري والعقلاني والتحليلي . هكذا، يتحقق المركّب المفهومي لمعنى وقيمة الفيلسوف، في سياق اختياره الفكري والطوعي، لموقف الوحدة والتوحد، كوقف فلسفي ووجودي، من أجل التفكير والابداع الفلسفيين . وبسبب رمزية هذا الموقف الوجودي القلق، لموقع الفيلسوف في حياة المجتمع، نعته نيتشه في نص آخر، بالموقف التراجيدي العميق، الذي لا يختلف كثيرا عن وضع حمار كاد " أن يهلك تحت ثقل لا يمكن حمله ولا الالقاء به ؟ تلك حالة الفيلسوف "2 . مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الاستعمال الرمزي عند نيتشه للفظة " الحمار "، لأنه هنا يستعملها كإحالة على الأصل الطبيعي للكائن الحي، قبل طابعه الثقافي المتطور، الذي تلاه لاحقا. بالإضافة إلى قيمة التحمل القصوى، التي تعني في حالة الفيلسوف، وضعه التراجيدي، رفقة أسئلته القلقة الوجودية المستمرة في حياته الخاصة، التي غالبا ما يشعر بها قصيرة، مقارنة مع باقي الموجودات الحية، والكائنات الطبيعية المحيطة به .

كما أن مفهوم الوحدة، كحالة هوية وجودية، في المجال الفلسفي، هي غير حالة العزلة، باعتبار أن الفيلسوف المتوحّد، حسب هايدغر، غالبا ما يكون دوما، في حاجة أكيدة إلى أن يتوحّد بنفسه وذاته، بعيدا عن عالم التشويش، من أجل طرح أسئلته الفكرية والفلسفية، والتحاور الفعلي مع جوهر الأشياء . يقول هايدغر في هذا الشأن " غالبا ما يندهش أهل المدينة، من انعزالي الطويل الرتيب، في الجبال مع الفلاحين، إلا أن هذا ليس انعزالا، وإنما هي الوحدة . ففي المدن الكبيرة، يستطيع المرء بسهولة أن يكون منعزلا، أكثر من أي مكان آخر، لكنه لا يستطيع أبدا أن يكون فيها وحيدا . ذلك أن للوحدة القدرة الأصلية على عدم عزلنا، بل إنها، على العكس من ذلك، ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها "3 .

إن هايدغر هنا، يتفق بلا شك مع الرؤية الفلسفية لنيتشه، فيما يخص حاجة الفيلسوف الضرورية، لعامل الوحدة، الذي يعتبر بمثابة حافز على التفكير والابداع، وليس العزلة، وذلك لتحقيق القفزة النوعية والمطلوبة، في التفكير الفلسفي المثمر والخلاق .  

 

2 – الفيلسوف التراجيدي، ونهاية جوهر الفلسفة

لعل الفيلسوف، هو الرجل المؤهل لقيادة عربة الفلسفة، إما قوية إلى الأمام، أو يعيدها ضعيفة إلى الوراء . لهذا، فلما انتقد نيتشه فلاسفة العصر اليوناني المتأخرين، بدءا بالتجربة الفلسفية السّقراطية، التي كانت بمثابة السمّ القاتل لجوهر الفلسفة، بمعناها النيتشوي، كفلسفة عمل وحياة، لا فلسفة نظر وخيال ووهم جميل، عاتبهم بكون فلسفتهم المرتبكة، كانت تفتقر لحكمة الفلاسفة الطبيعيين المنفتحين، على كل مظاهر الحياة والوجود من حولهم . يقول نيتشه في هذا المعنى " أما أن يرى الفيلسوف مشكلة في قيمة الحياة، فإن ذلك لمما يعد مأخذا عليه، ونقطة استفهام حول حكمته، بل انعدام حكمته أصلا . ماذا ؟ وكل هؤلاء الحكماء العظام، تراهم لم يكونوا منحطين فحسب، بل وليسوا حتى بحكماء"4 .

لعل نيتشه هنا يطرح السؤال حول مدى صلاحية ومصداقية الفلسفة الأخلاقية، بل مشروعية الفيلسوف الميتافيزيقي الجديد، كفيلسوف مهادِن وغير حكيم، بل الخاضع طوعا لسلطة قوى التوجه الأخلاقي والفضائل، الذي أسّسه شيخ الفلاسفة آنذاك سقراط، خروجا على التوجه الفلسفي التراجيدي الطبيعي، باصطلاح نيتشه، وسار على مذهبه الفلسفي فيما بعد، تلميذه النجيب أفلاطون .. والفلاسفة الآخرون.

 

3 – الفيلسوف الجينيالوجي، والتأسيس الحقيقي المأمول لفعل التفلسف

إن معنى الفيلسوف مرتبط هنا بقيمته الفكرية، ودوره الرمزي في مجتمعه . أي أنه إنسان يفكر لصالح الناس والانسانية، في وطنه الصغير والكبير، بالبحث طبعا في أصل الأشياء، وليس بتكريس سلطة المشرّع (كانط) . يقول جيل دولوز في هذا الصدد " إن الفيلسوف هو رجل جينيالوجي، وليس قاضي المحكمة على طريقة كانط " 5 .

يبقى أنه، سواء كان الفيلسوف موحدا، أو تراجيديا، أو جينيالوجيا، فالفلسفة تتلون بلون هذا الفيلسوف (المهادِن أو الثائر)، الذي من المفترض أنه يحيا فلسفته، قبل أن يكتبها على شكل أفكار وقضايا ومفاهيم فلسفية إبداعية .

 

 

 

 

................

1 – نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية – محمد الناجي، إفريقيا الشرق، فقرة 3، ص 7

2 – نفسه، فقرة 11، ص 8

3 – عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة أداة للحوار، توبقال للنشر، ص 10

4 – نيتشه، غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، ص 25

5 – GILLE DELEUZE . NIETZSCHE ET LA PHILSOPHIE . P 2  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم