صحيفة المثقف

الزهد والتعفف في شخصية السيد الشهيد محمد باقر الصدر

abduljabar alrifaiما الذي تبقى في حياتنا وسلوكنا ومواقفنا وأخلاقياتنا من أخلاقيات وسلوك ومواقف السيد الشهيد محمد باقر الصدر؟!

ما أكثر الناطقين باسم الشهيد الصدر، وما أندر من يقتدي بتعففه وزهده وتواضعه وغيرته ووطنيته!!

فيما يلي نص مقتبس من كتابي: "منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الاسلامي"، الصادر قبل٢٠ عاماً تقريباً.

 

الزهد بالعناوين والألقاب:

نشأ الشهيد الصدر في بيئة تضج بالالقاب والعناوين، حتى ان القارئ أحياناً لا يدرك اسم مؤلف الكتاب إلاّ بعد قراءة نصف صفحة من الالقاب (وأطلق لقب علامة وامام وآية الله وحجة الاسلام على كل ذي جبة وعمة، بلا مراعاة النظير حتى اختلط الحابل بالنابل، وتدنس الطاهر النقي، ورخص العالم التقي) حسب تعبير الشيخ محمد جواد مغنية(1). غير ان الشهيد الصدر وضع حداً فاصلاً لهذه الفوضى، وصدرت مؤلفاته بتمامها في طبعتها الاولى التي طبعت باشرافه وعلى غلافها (محمد باقر الصدر) فقط من دون أي لقب أو عنوان يسبق الاسم، كما أوعز لأحد تلامذته الذي كان يتابع ترجمة وطباعة كتابه الاسس المنطقية للاستقراء في ايران ان يذكر اسمه (بدون رتوش وجمل انشائية .. ويقتصر على ذلك بدون القاب وانشاءات)(2).

وأشار الشيخ النعماني الى ان (السيد الشهيد حينما أكمل كتابه "الفتاوى الواضحة"، وأردنا ارسالهالى المطبعة كتبت على الدفتر منها عبارة : "تأليف سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر"، فلما رأى ذلك شطب عبارة: سماحة آية الله العظمى. وقال لي: لا حاجة الى ذلك قدمها الى الطبع بهذا الشكل) (3).

 

الزهد والتعفف في العيش:

روّض الشهيد الصدر نفسه على جشوبة العيش وخشونة الحياة، فظل يعيش حتى أيامه الاخيرة في دار صغيرة، تعود الى احدى الاسر التي كانت قاطنة في النجف، ورفض بشدة كل العروض التي قدمت له من قبل بعض مريديه بالتبرع بشراء دار. فقد حدثني الصديق الحاج كاظم عبدالحسين، وهو تاجر من أهالي الكويت، انه ذهب بنفسه الى الشهيد الصدر، وقال له: سيدي لي اليك حاجة أرجو أن تقضيها؟ فأجاب الشهيد الصدر: تفضل، قال المحسن: لدي أمنية أن اشتري لك داراً من أموالي الخاصة لا من الحقوق الشرعية، فتبسم الشهيد الصدر ثم قال: اشتر لكن بشرط ان تشتري لكل طالب علوم دينية في النجف لا يملك داراً وأنا أحد هؤلاء، يقول فقلت له: ان هذا الشرط غير مقدور(4). لم يؤثر فيه كل رجاء والتماس في ذلك فلم يستجب لعروض اخرى في هذا المضمار[5.

أما في ملبسه فقد كان يكتفي بالمقدار الضروري ولا يسعى لا رتداء الملابس الفاخرة، حتى ان بعض محبيه كان يهدي له أرقى أنواع الاقمشة والالبسة، فلايستخدم منها أية قطعة، ويعمد الى اهدائها للطلاب في النجف الاشرف، ممن يصعب عليهم مادياً شراء الملابس الجديدة، وقد ذكر الشيخ النعماني انه دخل معه احدى المرات الحمام فوجد بعض ملابسه الداخلية "الفانيلة" ممزقة، فاقترح عليه ان يبتاع له اخرى جديدة، فامتنع، وقال: هذه لايراها أحد، وكان يقتصر في طعامه أحياناً على الخبز والماء فقط، بل كان يبعث بالخبز الساخن الجديد لخادمه فيما يأكل هو الخبز البارد(6).

 

أقواله هي أفعاله:

اهتم الشهيد الصدر بتجسيد أقواله بأفعاله، فلم ينفصل سلوكه عن قناعاته واقواله مثلما ابتلي به بعض من ينبغي ان يكونوا في مقام القدوة والاسوة، من هنا حرص على ان يبقى نمط معيشته مماثلاً لعيش الطبقة الفقيرة، فمثلاً كان يمتنع عن شراء الفواكه لعائلته مطلقاً حتى يتمكن جميع الناس من شرائها، وكان يقول: (يجب علي وانا في هذا الموقع ـ يعني المرجعية ـ ان أكون في مستوى العيش بمستوى الطلبة الاعتيادي) (7).

أما الاموال الوفيرة التي تصل اليه كحقوق شرعية، فقد كان يبادر الى انفاقها في مصارفها الشرعية على المحتاجين، وتنبه الى تثقيف ابنائه على ان هذه الاموال ليست ملكاً شخصياً لهم، ولذا يجب ان يبتعدوا عن العبث بها. يقول بهذا الصدد: (اني فهّمت ابنتي مرام ان هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: ان لدى والدي الاموال الكثيرة ولكنها ليست له، ذلك لكي لا تتربى على توقع الصرف الكثير في البيت بل تتربى على القناعة وعدم النظر الى هذه الأموال كأملاك شخصية) (8). وعندما تحدث معه الشيخ النعماني في فترة الاحتجاز عن امكانية الفرار والخلاص من سطوة الجلادين أجابه قائلاً: (حتى لو أن السلطة فكّت الحجز فسوف أبقى جليس داري ، فليس منطقياً أن أدعو الناس الى مواجهة السلطة حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أو لهم سبقاً الى الشهادة في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال الشهيد المرحوم السيد قاسم شبر الذي جاوز التسعين من عمره)[9.

 

ايثاره وشفقته:

كان الشهيد الصدر يفيض عاطفة وشفقة ورقة على من حوله، ويرعاهم رعاية أبوية تختزن طاقة هائلة من الحنان والمودة، فمثلاً لما جرى اعتقاله في 17 رجب 1399هـ اعتقل معه الشيخ المجاهد طالب السنجري، ولما اندلعت التظاهرة الاحتجاجية العنيفة في ذلك اليوم في النجف الاشرف، تم الافراج عنه، بيد انه رفض العودة الى النجف من دون الافراج عن رفيقه الشيخ طالب السنجري، لكن مدير الأمن تمّنع لأول وهلة لأجل ان يثني الشهيد الصدر عن ذلك، إلاّ انه عندما لاحظ اصرار الشهيد الصدر على الافراج عن السنجري اضطر للافراج عنه، وقد عبر الشهيد الصدر عن هذه الحادثة قائلاً: (كنت مصمماً على البقاء في مديرية الامن مدى الحياة اذا لم تفرج السلطة عن مرافقي) (10).

وبلغت المشاعر الانسانية للشهيد الصدر ان يعطف على رجال الامن الذين كانوا مكلفين بفرض طوق وحشي على داره، اذ يذكر الشيخ النعماني انه سمعه في أحد أيام الاحتجاز يقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، فقال له: (هل حدث شيء ؟ فقال: كلا، بل كنت انظر الى هؤلاء ـ ويقصد قوات الامن ـ من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار. فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقون منزلكم ويعتقلون المؤمنين الاطهار من محبيكم وأنصاركم، هؤلاء الذين روعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟ فقال: ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب ان نعطف حتى على هؤلاء، ان هؤلاء انما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة اسلامية صالحة، ولم تتوافر لهم الاجواء المناسبة للتربية الايمانية، وكم من أمثال هؤلاء شـملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين) (11)

 

....................

(1) تجارب محمد جواد مغنية، اعداد: عبد الحسين مغنية، بيروت، دار الجواد، 1400هـ ـ 1980م، ص 290.

(2) قضايا اسلامية، مصدر سابق، ع3، ص 621ـ 622.

(3) النعماني، الشهيد الصدر، مصدر سابق، ص 72 ـ 73.

(4) الأخ الحاج كاظم عبد الحسين وجيه معروف وصاحب مشاريع خيرية عديدة.

(5) النعماني، الشهيد الصدر، مصدر سابق، ص 116 ـ 117.

(6) المصدر نفسه، ص 113 ـ 114.

(7) المصدر نفسه، ص 114 ـ 115.

(8) الحائري، مباحث الاصول، مصدر سابق، ص 49.

(9) النعماني، الشهيد الصدر، مصدر سابق، ص 104.

(10) المصدر نفسه، ص 134.

(11) المصدر نفسه، ص 104 ـ 105.ه

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم