صحيفة المثقف

حجر المجاز

جمال الديـن حريفي

نشر بتاريخ: 10 نيسان/أبريل 2015

نص مشترك

تونس / المغرب

حجر المجاز / جمال الدين حريفي/ ضلع المتغطرس نبيل

ضلع لمتغطرس نبيل:

هناك رجل ما، في زمن ما، في مكان ما! يتحين فرصة كي يعيش! ها هو يقامر بفتات الاحتمالات، يضرب حجرا بحجر عله يصنع من كسره مزلاجا يدحرجه إلى حيث الماء، و رغد الحياة.

جمال الدين حريفي:

أو يضرب حجرا بحجر عله يشعل نارا. أو، فقط، يفرك يديه ساخرا من ذكرياته، ومن العيش في مكان ما، وفي زمان ما، بلا رغبة في العيش.ساخرا من كل احتمالات العيش بلا حياة، في مكان بلا حياة.

وحده هو و الحجر، هناك. في مكان ما، وفي زمان ما.

حجرٌ يضرب رجلا برجل.

حجر أعمى وأصم .

يشتعل فيحرق المكان...

الرجل كان هناك شبه حي، يتحين الفرصة كي يعيش.

رجل يضرب كفا بكف وذراعا بذراع.

رجل يجمع أشلاءه الموزعة على أزمنة شتى، يجمع أشلاءه الموزعة على أمكنة شتى،، وينسى وهو يلتقط جثته، ينسى عينيه في مكان ما.

في مكان ما، هناك عينان تراقبان ما يفعله الرجل.

هما عيناه.

يضرب الرجل حجرا بحجر.

هذا حجر اليأس العظيم

هذا حجر الحلم.

هذا حجر الألم

هذا حجر الضجر.

والنار التي اشتعلت أكاد أراها تأكلني يقول الرجل.

لو كانت العينان تسمعان.

لكنهما عينان تنظران فقط.

تنظران ولا تبصران.

والرجل يسمع نفسه ولا يراها.

الرجل يسمع ما يقول الآن،

و يسمع ما قال في زمن ما،

في مكان ما

وهو يضرب حجرا بحجر.

ضلع لمتغطرس نبيل:

أو يضرب حجر بحجر عله يوقظ بقرقعة العطش نخوة الفراغ فتلمع من كفيه البروق و تزمجر في صدره الرعود لتمطر عيناه في نهاية الملحمة ماء أسود يجلو غمامة اليأس عن وجه اشتاق إشراقه البيد و اخضرار الحقول.! هكذا يضرب حجرا بحجر تناغما مع مد خطاه التي يخشى جزرها و عجزها! النار سارية في دمه و معضلته أعظم من طعنة الحياة في خاصرته!

جمال الدين حريفي:

معضلته أعظم، هو الطريد الشريد في صدره تدوي الرعود وشهيقه والزفير عواصف وخطوه الزلزال، فأين المفر و إلى أين المسير؟ وتحت خطاه قراه، تحت خطاه مدن وحواضر، تحت خطاه حضارات صارت طينا وعجينا فلعله إن شاء انحنى وسوى الطين إنسانا جديدا لكنه لا يريد،، يأس من الناس، يأس من مدن الناس، يأس من شمس الناس ومن نهاراتهم السوداء. يرفع الرجل يده ويقطف الغيمة الشاردة،

ثم يعصرها في فمه، ما أحلى هذا الدم، إنه دم السماء، فلماذا تصلح الأحجار إذن؟

انحنى الرجل، ثم ، نظر.

هاهنا الحجر،

هنا الحجرُ السيد، ها هنا يرقد

الرجل المسكون بالحجر.

ضلع لمتغطرس نبيل:

شاهد الدم..

"هنا يرقد الرجل المطعون بخنجر من نصل الحجر"!

هنا كتب آخر اعترافاته بدمه.

"لم أكن أعلم أن الحجر سينطق عني يوما، أو يبكي بدلا

عني! لم أكن أدري أن للحجر قلبا سيتألم لفراقي! لكنني كنت مخطئا، لقد وجدت في الحجر ملاذا ومأوى حيث بنى لي من نفسه بيتا و من احتكاكه نارا بددت رجفتي، و سيؤنس وحشتي بلحده بعد موتي! عوضني عما فقدته في أخي الإنسان!.. ذاك الحجر كان الرفيق! لقد آليت على نفسي أن أشطب وجه السماء لأجله قبل رحيلي، عزمت على زعزعة ثبوت المدار كي يصب الماء مباشرة في يدي! هكذا دَوَّن ملحمته في سبيل الحجر!

جمال الدين حريفي:

من أجل الحجر، جعلت الغيم يسح من كفي حتى يكون ملمس يدي هينا عليه، فيا كم تألم الحجر من يد البشر، يا كم بكى الحجر نارا حمراء وهو يضرب الحجرَ لكي يدفئ الناس،، ما أقسى الناس وما أطيب الحجر، الحجر الشاهد والحجر الشهيد، حجر الكهوف الذي أرخ لمرور الناس، حجر الطبقات السفلى حيث ترقد المستحثات، حجر المنحوتات القديمة، حجر الأوثان والأصنام، حجر الأنصاب،، حجر البيوت، حجر الرحى، حجر العمارات،،

حجر الصوان

حجر الرخام،

الأحجار الكريمة في عنق الجميلات.

حجر الانتفاضات الأولى

الحجر في يد الطفل الفلسطيني

أحجار السماء.

كلها كانت المكان والزمان الذي مر به الإنسان ُ

ما أقسى الناس وما أطيب الحجرَ.

قلب الحجر رحيم وصوته رخيمُ.

الحجر أغنية السماء ونشيدها العظيمُ.

على حجر كان الرجل يجلس ويراقب غروب الإنسانِ.

ما أجمل بحر الكلام عند الغروب.

الحجر أبقى من الإنسان.

فوق الحجر نفسه الذي وقف فوقه الربان والقرصانُ

على الحجر نفسه الذي جلس عليه العشاق والرفاقُ

يتأمل الرجل النقوش القديمة.

أغلالٌ

سهمٌ

قلبُ

عصفورةٍ مكسورة الجناحِ

الحروف الأولى لأسماء من مروا من هناكَ.

مساجينٌ ومحبونَ

مجانينٌ حفروا بالحجر على الحجر شيئا ما اعتقدوا بأنه يهم الموجَ

اعتقدوا بأن البحر سيتوقف ليقرأه ذات مدٍّ قبل أن يلحس بلسانه المروجَ.

لكن البحر مر ولم يتوقف.

والموجُ مسح أثر الأيدي على الحجرِ.

مسح الذكريات ومحا النقوشَ.

لم يبق غير بعض الأثر.

يأخذ الرجل مكانه فوق الحجر.

ويصغي لهدير الموج .

يقول الموج:

البحر أبقى

الماء أبقى

الصخر أبقى.

يمضي الناسُ ويبقى الحجرُ.

ضلع لمتغطرس نبيل:

"يمضي الناس و يبقى الحجر "

هكذا كانت الأودية تحدث جداولها كلما دعتها إلى أن تسكب ماء يغسل وجه الحصى و يصقل حراشف الصخر! هناك في أسفل منخفض للسيلان رأيت حجرا يصلي و حجرا يرقص على كتف ذاك الذي يصلي! رأيت الأنبياء يتيممون بحجر أملس إنه المطهر من كل دنس و رجس كيف له أن يذوي دون أن ينقش في جوفه ذاكرة الزمان والمكان!على ظهر ذاك الحجر رأيت ملاكا تتفيأ ظل الله!

جمال الدين حريفي:

على ظهر ذاك الحجر مر الغزاة إلى أحراش اللغة يدكون الحروف بسنابك خيل بلا لجام متروكة للريح تصهل مثلما تصهل الريح، تلك في صدري والأخرى في السماء،، خيل اللغة كالريح ليست تروضها الفرسان، ولا تسمع غير هدير وهزيم وزمزمة مدوية،،

على ظهر ذاك الحجر مسح الرهبان أيديهم وعلى ظهره رأى العرافون سفنا تمضي بلا شراع، سفنا تمضي بلا رياح ولا ملاح، سفنا تمضي بلا بحر. سفنا تمضي على ظهر الحجر، وعلى ظهر الحجر شحذ الجلاد سكينه والمحارب سيفه والقاتل خنجره،

حجر كان يصغي لثغاء الماء، كأن الماء خراف ترعى في أرض الله، وأرض الله لكل خلقه.

حجر يرتعش من عواء اللغة في صدر المكلومين،

حجر على ظهره يقف الإنسان.

ما أبهاك أيا حجر صمت، وما أبهاك أيا صبر الحجر. ويا ظهر الحجر، أنت أيا صدر الإنسان، لو تحمل بدل القلب حجرا لأحببت كل الخلق بقلب الحجر.

ما أبهاك أيا حجر.

تحمل الناس على ظهرك كل هذا الوقت ولا تتعب من كل هذا الصخب.

لا تتعب من حمل كل هؤلاء الماشين على ظهرك بلا سبب.

ضلع لمتغطرس نبيل:

الحجر حدبة أرض حملت لعنة أقدامنا منذ الخلق! على الحجر أن يبر برحمه (التراب) ويصل أجنحة السماء ولو بسلاسل من الصوان! يمر بها المشاؤون فيهمس لخطوهم "أن اقتفوا أثر الرجوع فإني إذا قدر لي المطر سأسافر إلى حيث أستقر على زند واد قصي"! .

جمال الدين حريفي:

سأسافر إلى حيث أستقر ،،

قال الحجر

سأسافر فالأسفار حلم البشر

وحلم الغرباء

وحلم العابرين

وحلم الحالمين بالمستقر

سأسافر إلى حيث أستقر

قال الحجر .

سيسافر الحجر هربا من الأرض الملساء والجلود الملساء.

حجر الأرض سيرحل بعيدا إلى ركن قصي من واد أو ساقية.

حجر الأرض سيرحل إلى ركن قصي في طرف العين كي يستحم بدمعة.

حجر الأرض سيستقر في محاجر العيون فتم مسكنه

تم

مسكنه

يا ليتنا نرى ما يراه الحجر.

يا ليت عيوننا من حجر

ويا ليت لنا حكمة الحجر.

يا ليتنا نرى الذين مروا، نرى الذين سيأتون، نرى مطر السماء، تشقنا نبتة الصبار إلى نصفين، تكسرنا زهرة الشوك، ترقد في ظلنا عقرب تحتفل بسمها البهي كلما لفحتها شمس الظهيرة. أو حية تحيطنا كالخلخال في قدم الجميلة أو كالعقد يحيط العنق، يا ليت شمس غربتنا تمسح بيدها الرحيمة على ظهرنا، يا ليتنا ونحن أيتام الطبيعة والتاريخ والروح، نصغي لحظة لنشيد الحجر.

يا ليتنا نسافر كما يسافر الحجر.

ثم عميقا عميقا في بحر النفس نستقر.

ضلع لمتغطرس نبيل:

"ليتنا نصغي لحظة لنشيد الحجر"!

ليتنا نرفع رأس الحجر حين يطرق صمتا و يستعفف عن الدمع كي لا يجيب بما يفضح عطشه! ترى ماذا ينشد الحجر آناء ليله و منتصف تجليه في التلال! كم من (إله) وقف على كفي حجر كي يغني للمدى و يطرب شجر الصفصاف فيتمايلا غنجا! و كم من نبي عرج على صهوة حجر إلى سماء مرقطة بنوتات لازوردية تروي سيرة طبيعة زرقاء ! فراشها أزرق و غطاؤها أزرق! هو الحجر من يكتم سر النسيم حين يغرم برحيق الورد، و يستر عري أرض فتحت صدرها للريح! هو من يسند ميلان الحقل و يمنعه من أن تندلق غلته في السباخ القريبة! الطبيعة وحدها تشكر فضل الحجر!

جمال الدين حريفي:

تشكر فضل الحجر،

ونشكر فضل الحجر.

نشكر صمته، فحين تعجزنا اللغة ويعجزنا المجاز، يسعفنا الحجر. هو سلطان البيان، يا ليت لساننا حجر يمتد كالسبيل للعابرين، يا ليت كل الخطى أثر للحروف على ظهر الحجر حتى نقرأ ما تسره الطبيعة لأحبتها وما تكتمه في صدرها ،،

هو الصامت البليغ أبدا، لا صوت يعلو في سماءٍ إلا كان صوت بلابله المغردة .

ها الحجر بلبل في قلبي

وها الحجر يغرد مفردا جناحين كطائر في سماء الله

ها الحجر يطير ليحط على كفي ولا أرمي به غير أحبتي .

من حجر كتبت كلماتي الأولى وأنا ألهو طاوي البطن والركبتين

معتكفا على الحصى أعدها واحدة واحدة

خمس حصيات أرفعها مثنى أو فرادى أو ثلاثا ثلاثا ثم أضم عليها قبضتي وأرميها كالنرد ،

من حجر تعلمت قراءة الحظ

وما سيكون

وما لا تقوله العيون

تعلمت الجنون الهادر كالشلال حين يرشني ماؤه فيعشي عيني وينعش الروح .

من حجر سطرت رسمي الأول على الجدران المائلة للسقوط