صحيفة المثقف

العراق مهبط الإلهام الأول .. قراءة في التشكيلات السومرية

zouher sahebقدّم السومريون، هؤلاء المبدعون الأوائل في التاريخ، للبشرية كماً وكيفاً من المبدعات التشكيلية، تحتفظ بها متاحف العلم بكل فخر . وتقع منطقة الإبداع، في النشاط الذهني للفنان، في إحالة وتأويل الاعتقادي الفكري إلى بنائيات شكلية، وفق آليات إبداعية، يقودها الذهن واليد، تعقد نظاماً من العلائقية الجمالية، بين ما هو فكري وما هو مادي وصولاً لبناء وتأسيس شكلانية المدلولات .

أن العلائق البنائية في بنائية الشكل في التماثيل السومرية، بين الحسي والحدسي، والمعرفي والإبداعي . توجب التحول في منظومة التماثيل السومرية، نحو سيرورة تكثيف الخطاب التشكيلي بكل سياقاته، إلى نظم رمزية تتفق مع المفاهيم الضاغطة في تركيب الأشكال. والتي ربطت فيها ذهنية المبدع بين المادي والروحي، لتكوين وحدة أسلوبية، ترتفع فيها المدلولات فوق الظاهرات الطبيعية المنفردة . ذلك إن صلة التشبيه المادية المنظورة، قد أمكن الاستعاضة عنها بصلة روحية هي صلة الرمز، وهو ذلك الكيف، الذي يتصف بالوعي والإرادة قبل كل شيء . فتحول التمثال من صورة مماثلة لفيزيقية الأشياء، إلى بنية شكلية معبرة عنها، فأن فأسست الأشكال ذاتها بدلاً من صناعة التاريخية لها .

وبفعل البنية الماثيولوجية للحدث، أن بدت التماثيل وكأنها قادمة من كوكب أخر، فهناك قصدية واعية مستندة إلى الخيال والإرادة والوجدان، سعت إلى تحطيم المنظومة الأيقونية لأنظمة التماثيل الشكلية . بفعل التغلغل بما هو انفعالي، بغية كشف مشكلات الذات الإنسانية. وهنا يمكن رصد نوع من النزعة العاطفية حَلّت محل المذهب العقلاني، ترجع خطاب الذات المنفعلة على حساب الواقع، وفي ذلك من الجدل بين الحسي والحدسي لتجاوز معايير الصور المرئية . فالفنان هنا يؤدي على هواه لأعلى هوى النموذج، وصولاً للقيم الروحية في سعيها نحو اللامادية، بفعل تسامي الذات نحو المنال المطلق الحدسي .

600-zuhar

وبفعل انكماش التعبير على دائرة الحياة الداخلية التي تتجاهل العالم الخارجي، أن بدعت هذه التماثيل الإبداعية المُبجّلة . تبثُ خطاباً روحياً وصوفياً يتصل بأعمق مناطق الروح. فالمكان وتمثيلهُ هنا مغيب، ليس كما في الوجود المتعين، فهو فاقد لهويته الجغرافية والزمانية. ذلك أن الشخصيات مفرغة تماماً من وجودها المادي كأيقونة مُعاشه، ومرحّلة بفعل ضغوط البنية العميقة، إلى منطقة تتوسط الشعور واللاشعور . نوعاً من الصوفية عصفت بالمتعبد السومري، ليجتاز حالة البشري وصولاً إلى حضور مثالية الأبدية .

لقد كان يُشار إلى الأشكال برمزية مُقتضبة، ومثل هذه الأشكال التي تبدو هندسية الطابع (شكل مثلث يقوم على شكل مخروط) . هي نوع من الكشف الأول لبناية الشكل قبل عصر (سيزان) بأكثر من أربعة آلاف عام . فالشكل هنا مجرد انعكاس للعالم المحيط، بل هو نتاج روحي، إنه إبداع أضافه للوجود . وفي ذلك تكمن القدرة على الرقي على جميع الصور الفردية، وشتى أنواع التفاصيل والجزئيات . ومن هنا كان التحول في سمات الأشكال الفنية من الخصائص الجزئية إلى البناية الكلية، ومن الفردية إلى التعميم المطلق . فالعنصر الحاسم هنا، هو جوهر الشكل المُوحي بالموضوع المُمثَل، والذي يتميز بما هو جوهري وثابت . وهو اكثر سمواً مما يمكن أن يوجد في طبيعيةِ الفردية .

واظافة إلى التجريدية، تضع دون تخوف، نظم الأشكال للتماثيل السومرية بمقتربات الحداثة . فقد تم تجميع الأحجار الملونة البراقة في جوفي العينين، اللتين احتلتا نصف حجم الوجه تقريباً . ذلك نوع من التشفير بأهمية الشخصيات، والتي بدت تعمل في دراما الحدث خارج حضورها الواقعي . فقد امتصت ذهنية الفنان المبدعة، فكرة الموضوع امتصاصاً، وأعادت إخراجها وفق نظام الشكل التعبيري، والذي هو انعكاس لذات الفنان الحرة الكاشفة المؤولة . ذلك أن هيمنة حجم العينين وحركة اليدين على السمات الشكلية للتماثيل في تحري شكلانية المضمون. يكشف عن نوع من التشفير العلامي في ماهية الخطاب التشكيلي، يمكن تكثيفهُ بنوعٍ من الخطاب التداولي، بين شخصية الكاهن كدلاله رمزية، وعوالم القوى الماورائية . والتي لا يمكن بلوغ جمالها اللاهوتي، إلا بارتحال الفيزيائي وارتقائهِ منطقة المتيافيزيقيا . وهو ذلك المفهوم الذي يبغي تفريد العام ليبعد عن المفاهيم المثالية السامية . وهو مفهوم يخرج بالمادي إلى حيز مثالي رفيع، بقوة معتقد وقوة نهوض اجتماعي .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم