صحيفة المثقف

الذي يترجل مرة في السنة

wejdan alkashabهكذا كان يغذي تأريخه بانفلاتاتٍ مطبوخة وتهذيبات لا تعرف لها تقاليد وقوانين، وهكذا وجدتْ نفسها تندفع إليه بقوة وسحر هذه التقاليد والقوانين، إذ لم تعُد تنتظر عاصفة علًّها تداهمه وتفجر بإثاراتها قوة أخرى تنسل إلى مقاصده ودروبه الملغومة عفناً أحياناً أو ربما بنفسجاً أو... دموعاً لم تسفح بعد / لتزيده غموضاً آخر وكتماناً أعند / البحر يعبُّ ملوحة وأعشاباً وقواقعاً وجنوناً /هذا قدره منذ تلك القرون... يتلاقح وعذوبة النهر ليظلَّ قائماً / تترصده حيتان تمتصُّ دماءً لم تعُد تتفجر بنقائها... ثُمَّ تهدر هذه الحيتان إلى الشاطئ، لتعلن استنكاراً متعفناً لانتحارٍ لم يعُد يهمّ أحدا... لا بل لم تعُد له قوَّة السحر تلك التي حكمت الكثيرين من حوله... وأثارت حفيظة البعيدين عنه...

شَدَّهُ القمح الذهبي الذي فضحته الشمس من كُوَّة تلك الستارة / آهٍ يا موسم السنابل الذي يظلُّ يتكدس هنا بتكاسل وأُلفة /ويتباعد هناك / يشدُّهُ هذا العالم الصقيل بتضاريسه اللامعة / آهٍ يا موسم القطاف والذاكرات التي تشحن نفسها بنفسها / لتشبّ وتشيخ ثانية / الذاكرة الصموت الوضّاءة تُعلِّقُ ترجلاته في مشجب حنوّها / أُمي / حوّاء أو ليليث لا فرق / يا أُولى النساء والعطايا / يا أُولى المرايا التي تخفَّى خلف لمعانها وظلامها / أهي المرأة أو المرآة التي تخفَّى خلفها وأخفى عندها الطفولة ورايات العنفوان كلّها؟ دسَّ في سجلاتها المحرّمات وتأريخ التأزّم الكبير الذي يسارر رائحة دمه... أو... ربَّما رائحة شكوك تهتف ولا تجيب... لتتحوَّل إلى دخان كثيف يطلقه فيضلل الافتراس والفريسة معاً / ذاك ترجّل آخر وسُنّة شاقة في الركوب...

هيّأ لها ترانيمه / رتَّب لها سلَّمها الموسيقي الذي لا يستند هو الآخر إلى قوانين معروفة / طقوس ونذور وأجراس تُعوِّل على بكائها غنائمه وأسراه وقتلاه بحروبهم الصغيرة والكبيرة – لا فرق –

غنائمه مدن ومراكب لا تشرد ولا تركن / تتفتت وتتشابك / تحيا انتظاراتها مُرَّة أو موحلة / أو تبدو له أحياناً ساحرة يعاندها الفشل / ينفجر نبع يومياته كلَّ صباح / مشاغل / مطالب / خطوات قصيرة يحاذيها أو يهرب منها / ديباجات يومية في الخبرة والمودَّة والخبث... تجوب أظفارها جبين كل صباح يأتي / تمارس انتظارات تحكمها الشمس والعرق والملل لتدفع إلى يومياتها تأريخاً من الوهم يسكب جنونه الذي يبدو مترجلاً مرَّة في السنة / يترجّل بعُدّته ذاتها وأحياناً بأقنعة لدفع الآخرين إلى قبوله عضواً في يومياتهم – السويّة والفاسدة معاً - بل قٌل مَن يهطل الآن باهتاً وغير مفهوم؟

أيُّها الغموض الذي دفعتَ إلينا هذه الأصبع التي تُجيد نبش نواياك وأسرارك...

بل قُل مَن يجازف الآن برحلة غير مفهومة مثل هذه؟

بل مَن يقطع خيوطه الحادة المشدودة إلى غرس جبّار يتدفق صاخباً إلى هذا الفراغ العجيب؟

ومَن سيمنحه سلاحاً بارقاً يشطر ليله المزدوج هذا إلى نهارين؟

السآماتُ.... تستيقظ دوماً تنهش وجوده بأظفارها اللامعة / تسكب جنونها على عزلاته التي تُعمِّق المسافة بين قامته والعالم / هذا العالم سقف وأرضية.... لا فضاء....

الجدران تحجز عينيه داخل قالبها القائم وتركن أثقالها على جفنيه / الزجاج / الخشب / المعدن / منضدة أو صحن أو دولاب / تقبع هنا وهناك قائمة بذاتها أو تستند إلى جدار ضجره القائم أبداً / تطفئ الأُلفة أنوارها وتتسرب كما يتسرَّب عقرب الساعة فيقذف بالزمن في كل اتجاه / بلا أُلفة / هذا العقرب الذي لا يثبت أبداً في نقطة واحدة / يحاصره ويدفع به إلى غضب يصرخ:

فاسد

فاسد

أفسدتك المجلات والكتب والدلال: فهل من مزيد؟

لن يهبط الضجر / لا... بل يهبط / يهبط متسكعاً في قيلولات طفولةٍ غابرةٍ تؤسس له الآن أحفاداً وجنوناً وأطماعاً قد لا تنتهي...

هل من مزيد؟

المزيد هذا كلّه... جدار من ماسٍ وقوس قُزح لا يهدأ ولا يكلُّ، والذي لا يترجَّل إلاَّ مرَّة في السنة يجلس عنده / يُرَّتب ألوانه ويحيك ارتجافات خافتة / يمنح الأُعطيات، ويدفع عنها الشيخوخة، وحين ركنتْ إليه تلك الأُعطية المنفلتة من تأريخها، كان لا بُدَّ له أن يعود مرَّة أُخرى إلى ترتيب وحياكة أشجار وبشر وحدود... وكلّها أُعطيات بلا أقنعة.....

 

د. وجدان الخشاب

العراق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم