صحيفة المثقف

الحرية في الفكر العربي المعاصر في مجال العلوم الإنسانية

adil amirإن الحرية مؤشر مهم في عملية الإبداع، وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فمبادئ الحرية في مجال الإبداع تختلف حسب نوع الإبداع المتطرق إليه، ولذلك نجد أن للحرية معانيَ كثيرة تساعد المبدع أن يلتزم بها (المبادئ) التزاما تجعله مبدعا حقيقيا لا مجرد شخص يمارس الحرية للهدم والتدمير. وبالتالي فالحرية ليست مطلقة بالمرة، بل هي مقننة مبنية على أسس ومبادئ وقيم متعارف عليها بين جميع الناس سواء على المستوى المحلي أو القطري أو الكوني

على الرغم من أن فكرة العقد الاجتماعي هي فكرة افتراضية أكثر مما هي فكرة واقعية، أو هي بتعبير دوركهايم “لا تربطها أية علاقة بالواقع”، فإنها قد لعبت دورا حاسما في التحول من النظرة الكنسية حول المجتمع والسلطة، وهي النظرة التي ترجع نشأة المجتمع إلى الأمر الإلهي، ومشروعية السلطة إلى الحق الإلهي، ومن النظرة الطبيعية التي ترجعهما معا إلى الطبيعة؛ إن إرجاع نشأة كل من المجتمع والسلطة إلى فعل تعاقد بين الناس معناه إرجاعهما إلى فعل بشري، أي إلى الإنسان من جهة وإلى الإرادة من جهة ثانية. وبذلك حلت إرادة الأفراد محل أية إرادة أخرى، وربما كانت إرادة الأفراد هي أساس وأصل الإرادة الجماعية نفسها. لقد كانت نظرية العقد الاجتماعي، في نظر المفكرين الذين بلوروها، منذورة لمناهضة نظرية الحق أو الأصل الإلهي الذي تدعمه الكنيسة. فبوفندورف Pufendorf ، وهو أحد أقطاب مدرسة الحق الطبيعي، يخصص أحد فصول كتابه “حق الطبيعة والناس” لدراسة “أصل وأسس السيادة”، وهو فصل مخصص بكامله لرفض نظرية الحق الإلهي المدعومة من طرف الكنيسة، والمعروضة في كتاب هورنيوس Hornius المعنون بـ (1664) De civitate . ونظرية الأصل الإلهي للسلطة المدنية، تمثل الموقف التقليدي للكنيسة الكاثوليكية تجاه المسألة السياسية، كما نجدها لدى تلامذة القديس أوغسطين(16). مثل سواريس Suarez وبوسويه Bossuet وآخرين. وهذه النظرية هي تطوير لقولة القديس بولس: كل قوة تأتي من الله”. ومن اللافت للنظر أن تيارات الإسلام السياسي المحافظ والأصولي لا ترفض التقدم المادي التقاني ومنتجاته بل تستهلك معظم هذه المنتجات، ولا ترفض النظام الرأسمالي العالمي بل لديها مشروعات خاصة رأسمالية، إنما تعادي القيم حتى الإيجابية منها والتي جاءت بها الليبرالية الفكرية والثقافية الغربية ومن أهمها قيم التعدد والتسامح والإنتاج والإبداع والتجديد المستمر. ذلك أن بعض قادة هذه التيارات في حين يأخذ بنظرة نفعية براجماتية استهلاكية للمنتجات المادية للتقدم الغربي وغير الغربي، فإنه يميل إلي رؤية انطباعية مستريبة غير فاحصة وغير دارسة لقيم الحداثة والتطور.

إلا أن النقاشات والتأويلات التي تعرضت لها هذه القولة ونظرية الحق الإلهي دفعت بها في مرحلة أولى في اتجاه التمييز بين السلطة العليا المستمدة من الله والسلطة الدنيا التي يمارسها البشر، مما يعني أن الله هو المصدر الأعلى للسلطة وأن دور الناس يقتصر على تعيين أولئك الذين سيمارسونها. فليس الله هو الذي يعين الحكام، لكن بمجرد أن يتم تعيين هؤلاء من طرف الناس عبر اتفاقات بينهم فإن الحكام يتلقون ويستمدون العون من الله على ممارسة سلطتهم. فأمر تعيين الحكام ونوع الحكومة وكيفية تسمية أولئك الذين سيحكمون كلها أمور تعود إلى اتفاق البشر فيما بينهم، وإن كانت السلطة القصوى في النهاية تعود إلى الله

أما في المرحلة الثانية فقد اتجهت نظرية العقد الاجتماعي إلى الاستقلال عن كل ارتباط لاهوتي، بل أصبحت، في النهاية، أداة لإضفاء طابع بشري، إرادي على نظام السلطة ومنشأ المجتمع.   لقد دخلت أمتنا العربية والإسلامية في دور من الجمود والتقليد، استمر فترة طويلة استغرقت تقريبا ثلاثة قرون أو يزيد، مال فيها العلماء إلى التكرار والتقليد والنقل عن أعلام المذهب ورجاله، فظهرت الشروح والحواشي والتعليقات، وقل التجديد والابتكار وشاعت المقولات التي تدعو للتواكل والاكتفاء بما قال السابقون، مثل مقولة أن باب الاجتهاد قد أغلق، ومقولة أن السابق لم يترك للاحق شيئا،     وقد بدأت حركة التجديد في الخطاب الديني نتيجة لإحساس داخلي حرك بعض نبهاء هذه الأمة، لمصير غامض يتهددها، فسعى لتجديد الخطاب الديني ورد الناس لأصول الإسلام ردا جميلا، وعادة ما يشير الباحثون لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية قبل نهاية القرن الثاني عشر الهجري، لكن في واقع الأمر فقد تزامنت مع حركة بن عبد الوهاب، وربما سبقتها كثير من الحركات الإسلامية، التي سعت إلى بعث وإحياء الخطاب الديني، ليزاول نشاطه من جديد في حياة الأمة الإسلامية     وربما تعود شهرة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كأول حركة تجديدية في الخطاب الديني الحديث، إلى أنها لاقت نجاحا شديدا حينما وجدت النفوذ السياسي والسلطان القوي الذي يحمي أفكارها ويدافع عنها، في مقاومة البدع والخرافات التي لحقت بالعقيدة الإسلامية آنذاك، حتى قيل أنه وجد من عبد الحجر أو الشجر في تلك البيئة .

ظهر في الواقع الإسلامي مشروعان متقابلان من حيث طريقة التغيير للواقع وأوليته في الإصلاح، أحدهما دعوى التغيير السلمي التي تبناها جودت سعيد وتلميذه خالص جلبي، والثانية: التغيير القتالي من خلال الجهاد في سبيل الله، وهناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين من حيث المنطلقات العقدية، والتأثير الواقعي في المجتمع.

فتيار اللاعنف ضعيف من حيث الوجود الواقعي، ومتأثر بالغاندية، ولديه منطلقات ماديه -في تقدير أهمية العمل - كان لها أثر في موقفه من الجهاد والقدر وغيرها من القضايا الشرعية، ومع تعظيمه لشأن العمل وأنه أساس النهضة والتغيير إلا أنه يعتمد على فكر مسالم إرجائي مناف للطبيعة البشرية.

أما التيار الجهادي فهو ذو منطلقات سلفية إيمانية صارمة، ولديه بحث تفصيلي للمسائل والقضايا الشرعية، وله حضور واسع في واقع الأمة، ولكن ترجع اشكاليته إلى بعض مظاهر الغلو في مسائل التكفير والحكم على الناس، وتطبيقات العمل الجهادي، والاضطراب في أولويات العمل الإسلامي.

وقد لعب رواد مدرسة الحق الطبيعي غروتيوس وبوفندورف دورا كبيرا في الفصل بين الحق الطبيعي واللاهوت. فقد بذلوا جهدا في فك الاشتباك بين المسألة السياسية والمسألة الدينية، محققين في تاريخ الفكر السياسي، ثورة حقيقية، بتخليص العلم السياسي من ارتباطه باللاهوت المسيحي، وكذا بتخليص الدولة من هيمنة ووصاية الكنيسة

فالحقوقي الهولندي غروتيوس هو الذي أقام الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون، الذي يأمله الناس من قيام المجتمع، كما قام بالبحث عن إمكانية دوام قواعد قانونية قائمة على العقل وبقائها حقيقية حتى في حالة غياب سند لاهوتي لها. وقد أدخل بوفندورف هذا التصور غير الديني للدولة إلى ساحة الفكر الألماني.

إن السلطة المدنية، بالنسبة لكل من غروتيوس وبوفندورف وأتباعهما من أصحاب مدرسة الحق الطبيعي، هي في النهاية مؤسسة إنسانية. ولا ضرورة للصعود إلى المرتبة الإلهية للعثور على أصل السلطة والمؤسسة السياسية، فجذرها وأصلها وأساسها يقوم في الاتفاقات التي يقيمها الناس بينهم “ويجب أن نشير -كما يقول غروتيوس- إلى أن الناس الأوائل الذين كونوا المجتمع المدني، لم يفعلوا ذلك نتيجة أمر إلهي، بل وجدوا أنفسهم مدفوعين لذلك عن طريق الخبرة التي شعروا فيها بضعف الأسر المنفصلة وبعدم قدرتها على أن تحمي ذاتها، بما يكفي، من عنف وسباب الآخرين. ومن ثمة تولدت السلطة المدنية التي دعاها القديس بطرس (St Pierre ) بسبب ذلك مؤسسة إنسانية؛ وذلك على الرغم من أنه، في مكان آخر، كان قد اعتبرها مؤسسة إلهية، لأن الله قد باركها كشيء يحقق مصالح البشر، الذين هم مؤسسو هذه السلطة. والحال أن الله عندما يصادق على قانون بشري فإنما يصادق عليه كقانون خاص بالبشر يوافق رغباتهم ويحقق مصالحهم” إلا أننا غامرنا بتعيين مجال محدد، وقمنا فيه بمحاولة في ترتيب عناصر لها علاقة مباشرة بموضوعة التأصيل، يتعلق الأمر بتفكيرنا فيما أسميناه شروط التأصيل التاريخية والمعرفية. ولم يكن هذا المخرج سهلا ولا متيسرا أيضا، وذلك بسبب رحابة واتساع الموضوع، فحقل الدراسات الإنسانية لا حدود له، بل إن علوما جديدة ومباحث جديدة ما تفتأ تنشأ وتتأسس مولِّدة معطيات ومبلورة إشكاليات جديدة، ولهذا لجأنا في هذه الورقة إلى انتقاء أمثلة واستدراج معطيات متعددة لا يجمعها إلا جامع التمثيل والإشارة الهادفة إلى ترتيب سياق في البرهنة والإثبات، بغض النظر عن نوعية العلم أو طبيعته، وبغض النظر أيضا عن زمن التمثيل ومناسبته. فقد كان بحثنا في التأصيل عموما مبررا كافيا يسمح بمقاربة الموضوع بما يفي بالغرض، حتى وإن جاء في صورة مبتسرة أحيانا،

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم