صحيفة المثقف

من دفاتر نيتشه الفلسفية: مسألة الفلسفة والفيلسوف والتفلسف (2): الأنواع والوظائف

1mohamad bakoh – بؤس الفلسفة: المرض يتفلسف، مُوقعا نفسه كصوت صارخ لفيلسوف عدو للحياة .

الفلسفة هنا أداة للدعوة إلى الفضيلة والتحلي بالأخلاق، بحثا عن السعادة، والمثل العليا، في الزمن المفارِق، وليس هنا والآن، في الزمن المحايِث، بتعبير دولوز . فلا شك إذن، أن نيتشه عندما وجّه مطرقته النقدية الهدامة للفلسفة الأخلاقية، كان يعني بالدرجة الأولى، المؤسس الأصلي لهذه الفلسفة، شيخ الفلاسفة سقراط، وأفلاطون، في العهد الإغريقي المتأخر، بالإضافة إلى "عامل الفلسفة" كانط الذي عمّق جرح الفلسفة، باعتبارها نظر فكري تأملي، مع الحياة وليس ضدها . لهذا، كان نيتشه يعتبر نفسه دائما الصوت الفلسفي الصحي المضاد للتفلسفين : السقراطي والكانطي التابعين والمريضين، اللذين انحرفا جذريا بالوظيفة النقدية الطبيعية التأملية، والعملية الحقيقية للفلسفة، ليلقى بهذه الأخيرة الأنيقة والواضحة، إلى غياهب بيداء غموض الفلسفة الميتافيزيقية البئيسة، والمريضة والمعقدة، التي غيّبت التفلسف الفعلي، بل وأدته إلى ما لا نهاية، فوجدت الفلسفة نفسها، مع الفلاسفة اللاحقين في العصور الفلسفية الموالية، وعلى رأسهم هيغل، متورطة داخل متاهة غريبة لا حدود لها، جعلت جدل ماركس، وفريقه الفلسفي يعلن، في لحظة من لحظات حياته الفلسفية، موت الفلسفة، نتيجة تحوّل وظيفتها إلى أداة أيديولوجية، في أيدي جهات أخرى، أساءت إلى الفلسفة، بقدر ما أساءت إلى جوهر فعل التفلسف، وإلى حياة وجود الإنسان، ككائن طبيعي وثقافي بصفة عامة .. !!

من هنا، تساءل نيتشه حول الأسباب، التي دفعت الفيلسوف الأخلاقي، يختار الموقع الفكري والفلسفي الضعيف، لمّا اتخذ الفلسفة كأداة، وليس كهدف، لتأسيس تصوره الفلسفي التراجيدي للحياة . يعني الفيلسوف هنا يكون مع ما وراء الحياة الدنيا، ضدّ هذه الحياة الأرضية . يقول نيتشه : " ألا تتحول فلسفتنا هكذا إلى مأساة ؟ ألا تصير الحقيقة عدوة للحياة، للأفضل ؟ يبدو أن سؤالا ما يلح على لساننا، لكنه مع ذلك لا يريد أن يطرح نفسه : هل يمكن أن يستمر في الكذب ونحن نعلم ؟ ولو تطلب الأمر ذلك قطعا، ألا يكون الموت أفضل .. ؟ " 1 . إنها الأخلاق الفاضلة سبيلا لتحدي الموت، بدل سبيل التفلسف الوجودي، الذي اعتبر عند الفيلسوف الأخلاقي، خاصة أفلاطون، مجرد هرطقة وثرثرة لا نفع من ورائها.

 

2 – الفيلسوف النظري وغياب الحسّ التاريخي والواقعي لديه:

هو ذا صوت المرض يتفلسف، لنقل بداية المرض يتفلسف، حين يعرف الفيلسوف، وليس يعلم، عمق الحقيقة الفلسفية للحياة في الواقع، ويعجز عن البوح بها، كلما أحسّ بهمومها، وأدرك بهجتها دون القدرة على عيشها، أو لمسها بعقله الناظر الباحث والمتأمل، ليجد نفسه ضرورة في واقع الألم الممزوج بمتعة التفكير الفلسفي . غير أنه، ليس من الهيّن أن يبوح هذا الفيلسوف "المتألم"، واقعا، حسب نيتشه، بالحقيقة الفلسفية الأصلية، والخالصة في قوتها القديمة، كما مارسها فلاسفة الإغريق الطبيعيين مثلا، في الفترة ما قبل السقراطية، إن لم يتسلّح قدر المستطاع، بما يكفي من الحسّ التاريخي العملي، وبالنظر الفلسفي النقدي "المتأمل"، افتراضا، بعيدا عن منطق الانحباس المنفعل، داخل شرنقة أسئلة الذات الأخلاقية، والخوف الغريزي من حتمية النهاية الطبيعية . وبالتالي، تم اعتبار الحياة هنا، على هذه الأرض، وضعا "مشبوها" ومذنبا، يحتاج إلى تعليله، بتبرئته . يقول نيتشه في هذا الصدد : " ستسألونني عن كل ما يتعلق لدى الفلاسفة بالمزاح؟ إنه، مثلا، غياب الحس التاريخي لديهم، حقدهم على فكرة الصيرورة نفسها " 2 . أليس مفهوم الصيرورة، كمفهوم فلسفي، هو الواقع الحقيقي الذي فجّر ينبوع إلهام حكمة عمالقة الفلاسفة اليونانيين، كطاليس، وانكسمدريس، وهيرقليطس، وبارمنيدس .. إلخ، وأكسبهم، فعليا وضرورة، القوة العقلية، والقدرة النفسية والبدنية على مواجهة الاكراهات الطبيعية والبشرية، لمّا اكتشفوا يقينا هذا المبدأ الفلسفي، في واقع تجليات الحياة من حولهم؟؟

في المقابل، قذف نفس الاكتشاف ( مفهوم الصيرورة ) بالفلاسفة الأخلاقيين الفضلاء، إلى هوة الميتافيزيقا التي لا عمق لها .. ؟

 

3 – الفيلسوف العدمي: البحث في الأسئلة المعلقة في سقيفة الماورائية البعيدة عن الحياة:

كل من يرى أو يعتقد أنه لا جدوى من هذه الحياة، فهو إنسان عدمي . نعني الحياة على هذه الأرض . نستحضر هنا فلسفة شوبنهاور، التي كانت موضوع النقد اللاذع والساخر للنص الفلسفي النيتشوي، باعتبارها فلسفة عبثية وعدمية إلى أقصى حد . لأنها فلسفة اختارت لنفسها موقعا، فرض عليها أن تكون ضد الحياة، وعدوة للإنسانية . وهو نفس التوجه الفلسفي الذي سار عليه الموسيقار فاغنر، والشاعر غوثه . لهذا، كان لهما نصيبهم الوفير من هجوم ضربات نيتشه بمطرقته الفلسفية .

بالإضافة إلى أن أهم الوجهات الأخرى التي نالت حظها الأكبر، من ضربات مطرقة نيتشه النقدية والهدامة، هي الوجهة الدينية المسيحية، باعتبارها، من منظور نيتشه دائما، تفكير عدمي متخلف ومتشدد، لأنه يضمر كل العداء، والكره، والحقد الشديد، للحياة البشرية الأرضية . وبالتالي، ولهذا السبب، نظر إليها فيلسوفنا، في جميع كتاباته الفلسفية، وبجرأته المعهودة المميزة، كما لو كانت الوريث الشرعي للفلسفة النظرية، والعدمية الميتافيزيقية السقراطية المريضة . من هنا اعتبر نيتشه الفلسفة في عصره الحديث فلسفة مريضة، تحتاج إلى اللمسات الإشفائية للفيلسوف الطبيب الذي يجب أن يحمل، ليس جهاز التنصت والكشف التقليدي حول عنقه، بل مطرقة صلبة بين يديه القويتين، من قبيل مطرقة نيتشه نفسه. وهنا لا بد أن نؤكد على اعتبار النظر إلى فعل التفلسف، باعتباره علاج وشفاء للمجتمع الحديث، الذي هو حسب نيتشه مجتمع غارق في أمراضه وأعطابه وأوهامه، وليس لأي مجتمع كيفما كان، بالمطلق3 . لأن المجتمع الإغريقي وكذا الروماني، في الفترة ما قبل السقراطية، كان مجتمعا قويا وكله حيوية، ولم يكن في حاجة إلى الفيلسوف الطبيب، الذي لا جدوى من وجوده آنذاك، بقدر ما كان هذا المجتمع في حاجة ماسة إلى الفيلسوف الجينيالوجي والثائر الجريء المتأمل . وبالتالي، فنيتشه هنا، عندما مارس فعل التفلسف، مركزا على وظيفتها الطبية والعلاجية، والعلاج هنا يبدأ بهدم وتقويض أصنام الإرث الفكري السائد، والعقدي التقليدي المتخلف بطغيانه، إنما مارسه بالمعنى الفلسفي العميق، المرتبط بالدولة الحديثة، والإنسان الحديث في المجتمع الحديث الفاسد، أينما وجد ..، هذا المجتمع العليل والمحشو بكل أصناف التناقضات، كانت أوجهها البارزة الآلة والمال والاعلام، على حساب تبخيس أهل الفكر والنخبة المثقفة . لهذا كان نيتشه ينظر دوما إلى هذا المجتمع الحداثي الفاسد، ليس كمجتمع متقدم وقوي، كما يشاع ويطبل له، بل، على العكس، ينظر إليه باعتباره مجتمع مريض ومنحط، بل بكونه نتاج الدولة الفاسدة والمستبدة، التي هي " عنف منظم " 4، و "حيوان خبيث "5، يجب على الفيلسوف تجنبه، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا .

لكن، يبقى السؤال المطروح: لماذا ظهور هذه الفلسفة العدمية المنفعلة ..؟ ولماذا .. هذا الأفول السريع والمفاجئ للفلسفة الفاعلة والقوية، بصفتها فلسفة للتأمل الطبيعي في الوجود، وليست مرضا بشريا يتفلسف ؟ ومن يكون الفيلسوف العدمي في أصله ؟

يجيبنا نيتشه، موجزا هذا الأمر المفارق، بقوله، أنه هو الفيلسوف الموزّع بين زوايا بوصلة الوهم، والذي ضحى بالفلسفة والمعرفة الفلسفية، من أجل تحصيل الحياة الأخرى، أو أية فكرة لها علاقة بعدم هذه الحياة، التي يعيشها الإنسان كل يوم هنا والآن . إنه الفيلسوف النظري والعدمي المريض بالتفكير الاستغراقي " في التأمل، بصفته فيلسوفا ومتوحدا بالفطرة، فقد وجد مصلحته في الحياة بعيدا، على الهامش، وجدها في الصبر، وفي التأجيل، والتأخير، مثل مفكر جسور وجريء غالبا ما تراه في متاهات العقل، مثل طائر نبوئي ينظر إلى الوراء حين يحكي عن المستقبل، أول عدمي كامل في أوربا، ولكنه قد تجاوز العدمية "6 .

 

4 – الفيلسوف الثائر: التأسيس الفعلي لفلسفة المستقبل، فلسفة الحياة وإرادة القوة

لا مناص من تحقيق التفلسف الحقيقي، إلا بتجاوز الفلسفة التقليدية، بصفتها السقراطية، والكانطية، والهيغلية .. إلخ، أي باعتبارها فلسفة أخلاقية سلبية، حاكم بها الفيلسوف النظري " المتألم " حياة الانسان على هذه الأرض، بحثا عن متعة حياة موهومة : هي حياة السعادة في الزمن المطلق، بعيدا عن فعل الأحاسيس الطبيعية، والنظر التأملي في حياة واقع التاريخ، وبالتالي، فلا يمكن مواجهة هذا الفيلسوف النظري المنحط والمريض، الذي اغتال الفلسفة والتفلسف الفعليين، بتعمقه اللامحدود، والمتورّط في أسئلته الخاطئة المفارِقة، إلا " بالسخرية والازدراء، تلك الأهواء التي تنمو في اتجاه المستقبل، وفي اتجاه سعادة أخروية "7 .

من هنا، فنيتشه، وبعد استنفاذه التام لكل السبل التفكيرية والبحثية والحوارية، ضدّ أسس وأصول تلك الفلسفة المعادية للتفلسف الحي والانسان والحياة ذاتها، بتعريتها والكشف عن مستورها المتعفن، توصّل إلى حقيقة فلسفية راهن عليها، مفادها أو لنقل " ستكون خاتمتها النظرية هي فلسفة الهدم " 8 .

غير أننا، آخرا وليس أخيرا، نجد أنفسنا مجبرين لطرح السؤال المقلق، الذي سبق أن طرحه نيتشه نفسه، على غريمه المضاد : شيخ الفلاسفة سقراط، لكن نطرحه هنا بطريقة مقلوبة : إذا كان كل من سقراط، وكانط، وحتى هيغل وشوبنهاور، مثلا .. قد سقطوا جميعهم في فخ التفكير الفلسفي الميتافيزيقي، لانشغالهم الكلي والأساسي، بموضوع الفلسفة (الإنسان)، أكثر من انشغالهم بالفلسفة ذاتها، كمفاهيم فلسفية تخترق جسم كلية الحياة، بتعبير دولوز..، فهل نجح فيلسوف المستقبل وإرادة القوة، في الابتعاد من جانبه عن فخ الميتافيزيقا، كما أراد لمشروعه الفلسفي أن يكون، ونهجه في كتاباته الفلسفية الأولى ؟ طبعا، الجواب عن هذا السؤال لا بد أن يكون بالنفي . لأن نيتشه، بالفعل نجح في تقويض أسس الفلسفة الميتافيزيقا، التي يبقى روحها مشتركا بين جميع الفلاسفة الفضلاء والأخلاقيين، إلا أنه، بإبداعاته الفلسفية الكبرى الأخيرة، من خلال مفاهيم فلسفية خالدة، من قبيل : العود الأبدي، والإنسان الأعلى .. وهي المفاهيم التي دشّن بها تصوره الفكري الجديد لفلسفة المستقبل، يكون قد سقط بدوره، ربما دور أن يدري، في فخ جحيم الميتافيزيقا، الذي لا مفر منه، باعتبار الصوت الفكري والفلسفي العميق لزارادشت، الموجّه أساسا لعوالم طبيعية وبشرية مفارِقة، بحث من خلاله نيتشه عن ماهية جديدة للإنسان الحديث (المعاصر لنيتشه)، في علاقته الوجودية والفلسفية والعملية، بكل تجليات ومظاهر الحياة، بمعناها الظاهر والمتواري؟؟

 

.......................

1 – نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، ص 37

2 – نيتشه، أفول الأصنام، ص 23

3 – لحسن تفروت، نيتشه: الفيلسوف طبيب المجتمع، الحوار المتمدن، عدد 4715، 2015

4 – محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، ص 39

5 – محمد الشيخ، نفسه، ص 40

6 - نيتشه، إرادة القوة، ص 7 – 8

7 – نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، ص 37

8 – نيتشه، نفسه، ص 37

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم