صحيفة المثقف

ورم (2)

maamon zedan ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها، إنَّ كياننا كله - وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن - يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.

(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).

***

 

الأيام تمرُّ، تحشو الألم بالأسى، تُثِير زوابعَ وعواصف، تلفَح النفس وتقتَحِم العقل، تَضرِب حوافَّ الزمان، وتقرض نهايات المكان، مقبرة ذنابة، صورة تُرافِق خطواتي ووقْع أقدامي، وجوه أولادي تتغَلغَل في صخور الأرض، تشدُّ جذورها نحو أعماقي، تضرب عَذَباتِها نسمات الربيع الراحل من ذاكرتي، صداع يَتلُوه صداع، وإبر تزرق في وريدٍ تلو وريد، والدي كان يدْعو الله بدعاء خاص: "يا رب، لا تُمِتْني إلا وتراب الأرض على قدمي"، دعوة أعرِف الآن عمقها وسرَّها، ألمس وبعزم ناهض حركاتِ نفسه وهو يُردِّدها، الآن أنا أتقمَّص دور أبي، دون إرادة أو تخطيط، أدعو نفس الدعاء، ونفسي تُلامِس نفسًا ترقد في مقبرة ذنابة.

 

قبل شهرٍ من وفاته زارَني في السِّجن، لم يكن يملك القدرة على الوقوف، ظنَنت ذلك من فرط التأثُّر لمشهدي وأنا خلف الستار الحديدي، ربَّما أردت أن أظنَّ ذلك، كان الشحوب يغطِّي ملامحه الطيِّبة، حتى لَيَظُنُّ المرء بأنَّ الصفار الممتدَّ على قسماته جزءٌ من تكوينه، حدقت بتكوينه، بتفرُّس مستفز، أدركت كمَّ الألم المستبدِّ به، خاصَّة عندما أراح نفسه على كرسي من الخشب، لم يكن بإمكاني في تلك اللحظة، اكتشاف الموت الزاحف بأورِدَتِه وتقاسيمه، ربما كان الذُّهول المُسَيطِر على فراستي من أعظم نِعَمِ الله عليَّ؛ فأنا لا أستَطِيع ولو كتبت مليون مليون صفحة أن أصف للقارئ معنى والدي لخفْق رُوحِي ونبْض قلبي، معنى خطواته فوق الأرض، معنى بسمته التي برقت من جوف العدم، من غَياهِب الفَناء، يوم عدت وزوجتي وولدي من الأردن بعد خمسة أعوام مُتواصِلة من الغربة، لن أستَطِيع أن أَصِفَ لمسةَ يده وهي تمسَح جبهتي المحترقة سخونة يوم الْتهب ساعدي، ولن أستَطِيع ولو جمعت أبلَغَ أهل الأرض أن أصف حرارةَ دمعَتِه التي كانت تَسقُط فوق وجْنتي وأنا أختَلِس هنيهات من الزمن لأغفو خارج ألم الالتِهاب الذي كان يمزِّق قدرتي على التحمُّل.

 

مات أبي وأنا بين جدران السجن، دون أن أعلَم عن موته، رحَل وهو يَمُدُّ ضِياءَ العينَيْن نحو سجن نابلس المركزي، لكنَّ الضياء كان يَنكَسِر هناك، فوق جدران الموت الذي يُخفِي الأحياء بأمعائه، لكنه - وهذا الأهمُّ - غادَر وترابُ الأرض على قدميه كما دعا وتمنَّى، كان الموت صاعقًا لذاتي، وكان التراب الملاصق للقدمَيْن مانِع احتراقي بنبأ الموت ذاته.

 

يوم وصلني الخبر كنت ألمس الأشياء التي تتكوَّن في رحم الغيب بحدس قوي، خلقتْه العلاقة الموطَّدة بين رُوحي ورُوحه، بين مكوناتي التي يُدرِكها العقل، وبين مكوناته التي لا يستطيع العلم أن يخبرنا عنها شيئًا، كحب الوالدين الذي يبدو كدوري مُحاط بالنشوة حين يكون الفرح مُلاصِقًا لقسماتنا، وكدوري مذبوح، حين يكون الألم في محاولته للاقتِراب مِنَّا، المشاعر التي تتجدَّل كضَفائر غابة عذراء، أو كزوابع صحراويَّة تَتصاعَد بشكلٍ التفافي نحو بُؤرَة النقطة التي تمتدُّ نحو السماء كهالة سرية تُخفِي تكوينها الداخلي ليكون القادم من انهيارها أو انتشارها أشدَّ أنواع الغامض والمجهول، تلك المشاعر كانت تترَقرَق في ذاتي، تَنساب بأعماقي كلَّما شاهَدت وجهَه الأبيض المشرب بحمرة دماء تكاد تُعطِي الكون حالة التَّمام والكمال من الصَّفاء، تلك المشاعر تأصَّلت كجذورٍ من نور روحاني بأعماقي، حتى ظننت وظنَّ هو، واعتَقَد الناس أنِّي والد والدي، وأنَّه ابني المدلَّل، الذي أخافُ عليه من نسمة ربيع منتشية.

 

جاءني شاويش الغرفة بلال أبو زنط، جلس بجانبي على (البرش)، قال: "أنت رجل مؤمن بالله"، سقطت الدنيا، وانخسفت الرؤيا، اصطدمت الكواكب بالشموس، احتَرقَت البراكين، وانشقَّت الزلازل عن انهيارٍ في تكوينها، عرفتُ فورًا بأنَّ حدسي كان يَتآمَر على ذاتي، فانفَجرت الدُّموع، كفيضان عارِم، أَمسَك المجهول بحلقي، وسقطتُ مغشيًّا عليَّ.

 

التاسعة صباحًا قدت السيارة من منزلي إلى المشفى، حتى الموت يُمكِن التحايُل على سيطرته، على انتِشارِه بالدِّماغ كلازمة من لوازم الآن، لكن حين يأتي الموعد - موعد المشفى - تنمو هواجس الموت، تلاحق أوردة الدماغ، وتبدأ برسم صور مُبتَكَرة متناقضة، لكنَّها تتوحَّد بسوداويَّتها، ماذا لو كانت اللحظة الآن؟ إلى أيِّ اتِّجاه ستَنحَرف السيَّارة، اليمين أم اليسار، أم إلى الجزيرة الممتدَّة على جانب الشارع؟

 

أنا لا أُتقِن العوم، ولا أتمنَّى أن تنزلق السيَّارة نحو البحر الممتدِّ من لسان الجزيرة إلى الشارع، يكفي موت بورمٍ نابت في الدماغ، أمَّا أن يتحوَّل إلى موتَيْن: غرق وورم، فهذا أمرٌ لا يُمكِن التفكير به أو احتِماله، صديق طفولتي ماجد غانم مات غرقًا، وجَدُوه في برْكة ماء وحيدًا، كم من الآلام عانى؟ كم من الشهقات شهق وهو يضرب ويجدف أملاً في النجاة من أجل الحياة؟ لا أحد يدري، كان هناك وحيدًا، يمتدُّ فوق الألم كسحابة حبلى مثقلة بنوازع طفل يَعتَصِر الأمل، فيسحبه الموت رويدًا رويدًا نحو هاويته، بين الأمل وبين النهاية ظلَّ ماجد وحيدًا، إلاَّ من صورة الحياة التي اختَنقَتْ بمياه طفحت في الرئة الصغيرة.

 

بماذا فكَّر ماجد في تلك اللحظات؟ وكيف كانت تتكوَّن الرُّؤى في مخيلته ووجوده وهو ينزلق بألمٍ عارِم نحو النهاية؟ هل استَجمَع الماضي والحاضر؟ وهل تزاحَمت الصور بتَسارُعٍ مطَّرد مُتوالٍ لتسقط أمام ناظِرَيْه واضحةَ المعالم؟ لا أحد يعلم، وليس هناك مَن يستَطِيع أن يَصِلَ إلى تلك اللحظات الحُبلَى بتوتُّرات الموت والحياة في ذات اللحظة، ولكن ما يمكن الجزم به بصورة مطلقة أنَّ النجاة من الموت، من الغرق، من الهبوط إلى قعر النهاية - كانت قائمة بين عينيه كحقيقة، لكنَّها متوتِّرة مترجرجة، تَكاد تطفو إلى الثبات، لكنَّها ما تنفكُّ تهتزُّ مع اهتِزاز ملامسة الموت لمساماته المبتلَّة بالماء والموت والنهاية.

 

هي لحظة النهاية غير المتوقَّعة، الموصولة بشيء من البقاء، من الحياة، وهي أصعب اللحظات وأقساها، فأنا الآن أقف تلك اللحظة، وإن لم تكن بكامِل التشابُه مع الموت المنزلق إلى رئتَيْه وهو يَنزِل إلى أعماق البرْكة والنهاية، إلا إنها لحظةٌ من لحظات التوتُّر القاتل، التي تخضُّ العقل، وتَكتَسِح المشاعر، هي لحظة ربما أعرف فيها عدد اللحظات والآهات والأنَّات والآلام والأحزان المتبقِّية فوق وجودي على مساحة الكون والأرض، آه ما أقسى وأجفَّ تلك اللحظات!

 

المطر مُتواصِل، يسقط من السماء بغضبٍ موصول بغضب، مسَّاحات الزجاج تَكاد تَعجِز عن أداء مهمَّتها، وأنا بين ضَباب الرؤية وضَباب الموت والذكريات، أتلوَّى كأفعى مرهقة، لماذا وافقت أصلاً على الموعد؟ وما الذي يدفعني للتشبُّث بوجه طبيب أعلن قبل أشهر بأنَّ بقائي فوق الكون محدودٌ بزمنٍ ما؟ أهو البحث عن بقايا أمل؟ أم هو الإنسان العاجِز عن طيِّ صفحات الخوف المزروع باستِجداء قادم من مجهول المعجزة؟

 

على حافة سور مدرسة اللاجئين في مخيم طول كرم، وتحديدًا على الشارع الواصِل بين مدينتي طول كرم ونابلس، تقع صخرة تمرُّ من فوقها ماسورة مياه، تُظَلِّلها الأشجار المزروعة خلف السور وداخل مدرسة البنات، تلك الصخرة بيني وبينها علاقة وطيدة متينة، تَفُوق علاقتي مع البشر، فهي كانت ولا أعلم إن كان هناك مُتَّسع من العمر لتبقى محور أحلامي وتأمُّلاتي، حدثتُها كثيرًا، وحدثتْني كثيرًا، مَنحَتْنِي لحظات صفاء، ومنحتُها وجيب قلبي، قلت لها بأنها أفضل مجلس، قالت لي بأني أفضل جليس، قلت لها: إنها تعيش بأعطافي ووجودي، قالت بأني أعيش بمساماتها وجذورها.

 

تركتُها منذ زمنٍ بعيد، قرَّرت الانتِقال من عالم إلى عالم، بعيدًا عنها، وبعيدًا عن مقبرة ذنابة، ربما لو جاء الخبر بالموت وأنا هناك لما عانيت هذه المعاناة، سيظلُّ شبح القبر يَسكُن أعماقي، أعرف ذلك، وسأظلُّ أتنقَّل بصورةٍ مختلفة عن السابق بين الأماكن والأزمنة التي عرفت وأحببت، بطريقة تُثِير الفُضُول والدهشة، لكن بين مرارة الموت والالتِصاق بالمكان، سيكون هناك فاصل من عذوبة ونشوة، تقتَحِم الذات لتوزعها في لحظات على أرصفة السعادة، على هنيهات مسروقة من شبَح الموت الراصد كلَّ حركاتي وسكناتي.

 

نعم، سأغرق رغمًا عنِّي بذكريات تُثِير الحزن واللوعة والوجع؛ لكنَّه حزن الوفاء، ولوعة الود، ووجع الانتِماء للأرض، للأشياء، لِمَرابِع الطُّفولة، لمكان خطوات والدي، للحائِط المسكون بشهقات أمي، للجدران المحشوَّة برائحة إخوتي وأخواتي، للشوارع الخافقة بشمس آب اللاهبة، تلك الشمس التي كنَّا نستَخدِمها سِتارًا للسَّطوِ على البيارات، لليمون المعجون بأيدينا حتى نخفي رائحة الدخائن عن آبائنا، للزعتر المقطوف كتبريرٍ لغيابنا الطويل عن البيت، للمياه التي سكبناها على رؤوسنا فِرارًا من الشمس التي رفضت استِغلالنا لحرارتها من أجل ممارسة السطو.

 

الموت هناك له مذاقٌ آخَر، وإن يكن مذاق الشِّيح أو الحنظل، لكنَّه شيح الوطن، وحنظل الأرض التي تكوَّنت بيني وبين ذرَّاتها علاقة متميِّزة، تدخل في كلِّ ذرَّة من ذرَّات تكويني سوق الدواب "أبو العيلة"، الجالولي، ساحة المطار، النخل بأعجازه الخاوية، حارة الحمام، أم عمر، سروه العلوط، حمده المهلب، الحاجة خميسة أبو سالم، الدَّمالِخة، هنا خطوات والدي، وهنا آلام أمي، هنا شهقات أخي محمد الأخيرة، وهنا حمحمات الهنيهة الأخيرة من روح أختي سهيلة، هنا مطعم وكالة الغوث، وهنا كان يجلس والدي مع عيسى الحاجبي، وهنا كانت أمي تُجالِس أم عمر وبناتها العانسات، وهنا كان يرقد رأسي الصغير لأغفو وأنا ألتحف الفضاء الغارق بالشمس.

 

هنا وهنا كنت أكبر، وكانت الأشياء تكبر، فانعقدت بيني وبينها صداقة ميلاد وطفولة شباب، وأخيرًا فَصَمْتُ العروة التي بيننا بالهجرة فَصْمًا ربما إلى حدٍّ لا يُمكِن رتقُه، أو المباشرة برَتْقِه، تلك الشوارع والأرصفة، التي احتَضنَتْ خطوات أيامي وعمري الأولى، تلك الجدران وتلك الأشجار التي مارَست نوعًا من السحر لوصلي بمساماتها وأنفاسها، تلك البيوت التي تربَّعتُ فيها لأتَناوَل وجبةَ غداء مع زميل أو جار، وأولئك الأمَّهات اللواتي كُنَّ يدفقن الحنان في رحم الغَسَق المرسوم على جِباهنا، الأمَّهات اللواتي كُنَّ يحمِلن حلم العودة على قسمات التجاعيد التي رسمَتْها مَأساة التَّهجِير عن مرابع طفولتهنَّ وشبابهن وأحلامهن، هؤلاء كُنَّ رحيق الزمن الغائر بحزن سيُقِيم بفرحة كانت تستلُّها الطفولة من خَفايا قادم، كله موسوم بعذاب القهر والهجرة المُتَواصِلة.

 

بيوت الخلد الناعمة التراب، تأصَّلتْ بيني وبينها علاقة، أعواد القصب والذرة وقصب السكر التي جفَّت وتفتَّتَتْ وغارت بعمق الأرض والزمن، بيني وبينها حتى اليوم وشائجُ قادرة على رجِّ الكون والوجود، الزنبق والشومر كانَا يحدِّثاني حديث التناقض والتضاد، فهذا مرٌّ سامٌّ، وذاك برائحة عطرية فوَّاحة، وبمذاق حادٍّ رائع كمذاق الوطن كلَّما ابتَعدَتْ عنه، هناك للموت حقًّا مذاقٌ آخر، يَتَنامَى ويكبر مع عَواطِف الناس، عواطف الأرض، وأحاسيس الشجر والورد والحجر، مع رعشات الصيف أمام الشتاء، وانهِزام الشتاء أمام الصيف، للموت هناك تفاصيل لا تَتشابَه مع تفاصيل الكون، الموت هناك يعني الموت في رائحة الوطن وترابه وعتمة قبره، التي تُشَكِّل ضياءً وامتِدادًا للبقاء الموزَّع بين ذرَّات تراب سكنَت الأرض منذ ملايين السنين، وستَبقَى هناك إلى انتهاء الكون وزواله.

 

أرسيت السيارة في موقف المشفى، تأمَّلت الساعة، هناك مُتَّسَعٌ من الوقت لاحتِساء القهوة والتمتُّع ببعض الدخائن، فأنا لا أعرِف تمامًا مُدَّة الزمن المتبقية لي فوق هذا الوجود، ربما لا أعود للبيت اليوم، وربما أعود، كلُّ الأمور التي تُحِيط بالقادم مرهونة بشفاه الطبيب المختصِّ بالدماغ، كلها تقف على فاصل من زمن ليس ببعيد، نصف ساعة فقط، ستحدِّد كيف سأنظر للعالم من جديد، ربما أتوقف عن التدخين، طبيبي الخاص أخبرني بضرورة التوقُّف، لكنه كان قد أخبرني بعدها بأيَّام عن الورم، بيني وبين ذاتي أُصِبت بالدهشة، لماذا عليَّ التوقُّف عن التدخين؟ من أجل المحافظة على الرئة؟ الأمر مُتشابِك، التقى هذا مع ذاك: التدخين والورم، إذًا لنواصل الرحلة أنا والتدخين، فالموت قادم من هنا أو هناك، الحقيقة أنَّ التدخين لم يشكِّل خطرًا يدعو للقلق المباشر؛ لذلك أرجأت أمره إلى زمن غير محدَّد.

 

اشتريت كوبًا كبيرًا من القهوة، وأسرعت نحو المكان المخصَّص للتدخين، أشعلت الدخينة، قفز إلى ذهني شارع الصمت، الشارع الواقع خلف بيارة حنون، وعلى ذراع جبل آل صوان، فيه بعض البيوت التي تبدو شاردة من تفاصيل المخيم والمدينة، تلفُّه روائح مُؤجَّجة برحيق البرتقال والليمون، هناك أيضًا توجد صخرة أخرى، لا تحمل ملامح الصخرة الواقعة على طرف المخيم، حيث مدرسة اللاجئين؛ لكنها تعرفني، ليس معرفة الصديق للصديق، يكفي معرفة الزميل للزميل، في تكوينها شيءٌ من ملامحي، ربما تكون أحبَّتْني أكثر ممَّا أحببتها، هذا عائد لها.

 

الشارع يفصل بين تضريسين مختلفين، جهة الشرق بيارة حنون، تزدحم بالخضرة، بالتفجر، بالحياة، بزقزقة العصافير، وصداح العنادل، تختَلِط أغصان البرتقال بالليمون، بالبوملي والمندلينا، وتَتشابَك أغصان الكلمنتينا بأغصان دم الزغلول، تَتلاقَح الروائح بينها، تُرسِل عطرها بسخاءٍ يستقرُّ في الرُّوح والقلب، صوت مضخَّة المياه المتقطِّع يطرق السكون بروعة، تتسرَّب إلى الحلق برودةُ المياه الخارجة لتَوِّها من قاع الأرض، تندغم مع رَوائِح الأزهار والأشجار، تتغَلغَل الجنَّة بالأعماق الملوحة بالشمس، تندَفِع رائحة الظل المحمَّلة برائحة الأرض، تكتمل الحياة.

 

الجهة الغربية: تضاريس تتنقل من وعورة عادية إلى وعورة حادَّة، أشجار الزيتون مترامية بغير انتظام، خضرتها داكنة، أشجار اللوز والخوخ والدراق بكلِّ أنواعها عارية، تنتَظِر أوانها، رائحة الشمس وهي تضرب الأرض بغضبها تتنقَّل بين مسامات الجبل، ولهاث الحرارة يُحاوِل أن يصل لأغصان البيارة لكنَّه يهزم، في الأعلى وتحت الصخر تَرقُد الأفاعي وهي تتلوَّى لتوليف سمِّها، العقارب تبحث عن فريسة، والكلاب الضالَّة تُطارِد رزقها ببطون ضامرة.

 

شارع فقط يَفصِل بين موتٍ يسكن الجبل، وحياة تسكن البيارة، تمامًا كالوقت المتبقِّي ليدفع الطبيب بجملته التي قد تركز طعم الموت في الحلق، أو تركِّز طعم الحياة بالرُّوح، كوب القهوة والدخينة هما الفاصل بين الأمرين، فكلَّما نقص كوب القهوة، وكلَّما احترقت الدخينة، انحسرت المسافة بين رغبة الأمل، وبين واقع الحقيقة.

 

هناك حلٌّ آخر: أن أقذف بكلِّ شيء، وأعود إلى السيارة وأترك الأمر كما هو، لكن ربما القادم يلغي السابق، عليَّ أنَّ أصل للحظة الأخيرة في الانتظار.

 

ولماذا عليَّ أنْ أصل للحظة الأخيرة؟ الطبيب أخبرني بكلِّ شيء سابقًا، قرَّر ذلك بعد مجموعة من الصور الطبقيَّة، الطاقم الطبي كان يتحدَّث بعيدًا عنِّي، الأمر فيه اختِلاطٌ وشَكٌّ، أُعِيدت الكرَّة مرَّة أخرى، صُوَر جديدة، النتيجة تبقى معلَّقة لأيام، يجب مراجعة الطبيب الخاص لمعرفتها.

 

اليومَ الأمورُ تختلف، عليَّ مقابلة طبيب الدماغ في المشفى دون العودة إلى الطبيب الخاص، هذا أمرٌ يدعو للقلق، يُثِير تساؤلات كثيرة، والأيَّام التي كان عليَّ انتِظار نهايتها حتى الموعد، بدت مختلفة تمامًا، توزَّعت بين مجموعة من الأَحاسِيس والمشاعر، فيها خوف ورهبة، وفيها أمل ورجاء، تَداخَلت المشاعر بازدِحام مكثَّف، وتورَّطت الإحساسات ببؤر غارقة بالرجرجة.

 

رغم ثِقَلِ الأيام، أدركت - وببساطة - أنَّ الإنسان لا يملك كثيرًا من التجرِبة، خاصَّة تجربة الوصول إلى حافة الموت، ليكون الفاصل بينه وبينها ستارة خفيفة، تنتظر نسمة عابرة ليَتلاشَى الفاصل، ينهار فتتلاشى وتنهار عوالم ممتدَّة في الذاكرة الخصبة، وفي خفقات الرُّوح ووجيب القلب.

 

في تلك الأيَّام الفاصلة، تختَلِف الحياة من جذورها، تتلوَّن بألوان قاتمة رماديَّة، يأتي الماضي من بين ثنايا الزمن ليحتلَّ الحاضر والمستقبل بصورة مطلقة، ولا يأتي إلا بالأخطاء، بالآثام، ليشكِّل مع الهواجس التي تتمكَّن من الذات حاضرًا لا يمكنه الاتِّصال بالأيَّام القادِمة، يتوقَّف الزمن عند تلك اللحظة ويتجمَّد، يَتآلَف مع الليل والعتمة، لتَبقَى النفس ملوحة برمادٍ يخفي بأعماقه توقُّد الجمر واحمراره.

 

بوابة المشفى تحمل تَناقُضات هائلة، تمتدُّ إلى نَوازِع متفرِّعة مُتَفرِّقة، هناك على مقربة من المدِّ الخشبي المصقول أناس كثر، يحملون الدخائن والقهوة مثلي تمامًا، ربما هم على موعدٍ مع نفس الطبيب، وربما هم زُوَّارٌ لمرضى يقبعون تحت رحمة الإبرة أو الكشَّاف المتسلِّط في غرفة العمليَّات، وربما هم يَنتَظِرون خبرًا من غرفة الإنعاش، وربما هم ينتَظِرون وليدًا جديدًا سيشقُّ رَحِمَ الحياة من العدم.

 

ماذا لو كان مَن يقف مُلاصِقًا للجهة اليمنى منِّي، قد تلقَّى قبل دقائق خبرًا بخروج حياة من رحم هبط ارتفاعه، ومَن على الجهة اليسرى قد تلقى خبرًا بخروج روح من الحياة إلى الموت؟

 

كيف يمكنني لو عرفت حقيقة أنَّ مثل هذا الأمر قد حدث؟ كيف يُمكِنني بذات اللحظة الإحساس بالموت والحياة؟ بالعدم والوجود؟ بالتلاشي والانبِعاث؟ كيف يُمكِنني وأنا أطارد دبيب الموت بمساماتي أن أفصل حزني ولوعتي عمَّا يَعتَرِيني من مجهول غامض، لأُطارِد إحساسات الفرح واللوعة؟

 

على الطرف الآخَر شابٌّ وفتاة، تشتدُّ تقاسيم وجهيهما فرحًا، وبجانبهما رجلٌ تنقَبِض مساماته من شِدَّة الفَزَع والهول، أُحاوِل جاهِدًا الخروجَ من ذاتي لِمُلامَسة أفراح وآلام مترعة بالتناقض المُمعِن بالتخفِّي بالمجهول، فأجدني رغمًا عنِّي مُلاصِقًا لفكرة الموت الزاحف من قاعة المشفى إلى أعماقي، بطريقةٍ تذهل النفس وتحرجها.

 

كوب القهوة انتهى، الدخينة تلاشت، خطواتي نحو الطابق الثاني مضطربة، ماذا لو قال بأنَّ وجودك فوق الكون مجرَّد أيام؟ كيف سأنظر للعالم؟ بل كيف سأستَطِيع أن أنظر للعالم؟ ولماذا عليَّ أن أفكِّر بكلِّ ذلك؟ الموت سيأتي بطريقته ووقته، شئت ذلك أم لم أشأ، المشكلة لا تكمن بالموت ذاته؛ بل برهبتنا منه، بكراهيتنا المطلقة لتكوينه، لقدرته على هزم غرورنا وصلفنا وجبروتنا المنزوع من ذاكرته الخصبة، هو يقف وبشكل يومي على أبواب وجودنا، لكنَّنا نُهمِله هروبًا بالتمنِّي، بالنسيان، لكنَّه يظلُّ رغمَ كلِّ شيء يحدق بوجوهنا، يتأمَّلنا وهو يَجُوبُ مساحات الزمن لينقضَّ علينا مرَّة واحدة، فيهدم كلَّ ما فينا من نَوازِع وصلف وغرور.

 

جلست على الأريكة أنا والموت كصديقين قديمين، قلت له: حسنًا، فما يفصل بيني وبينك مجموعة من الأمتار، هي المكان، ومجموعة من اللحظات، هي الزمان، وما بين المكان والزمان يقف الإنسان، الذي سيغيِّر وبجملةٍ واحدة معالم الزمان والمكان.

 

محمد مأمون.

أجبت بنعم، صافحَني الطبيب بمودَّة شديدة، عرَّفني على نفسه، دخَلنا مكتَبَه، جلست حيث أشار لي، تنبَّه لتَصاعُد الحرارة من جوفي، تبسَّم، سحب كرسيَّه نحو المكتب حيث الحاسب، وأشار لي بيده لأقتَرِب، طلب مِنِّي متابعةَ مؤشر دقيق بيده.

 

قال: هذا هو دماغك، أترى هذا الامتِداد هنا، أجبت بإيماءة؛ لأنَّ الصوت اختفى تمامًا، وحين همَّ أن يُكمِل دخلتْ ممرِّضة بسرعةٍ واضطراب، خرَج وَراءَها مُسرِعًا وهو يعِدني بعودةٍ سريعة.

 

انسحبت من الغرفة حيث تركت الموت ينتظر، وجدته مكانه، تبسَّم ابتسامة المنتصِر، حدقت في ملامحه وتكوينه، كانت نشوة النصر تعلو ناصيته، وكأنَّه يشوي لحظاتي على جمرٍ قادم من قعر بركان، انقلبتُ نحو ذاتي، ما الذي يدعو الموت للقائي؟ للجلوس معي على ذات الأريكة؟ أهو التلذُّذ بعمق الأسى والخوف الرابِض بأعماقي؟ أنا لا أشكُّ مطلقًا بقدرته على متابعة الرجفة والخوف بذاتي؛ فهو يَملك قدرات لا تحدُّ ولا تُوصَف، لكنَّه اليوم يختَلِف عن الأيَّام السابقة، على جبينه تنتَصِب صور عديدة، لوحات من ماضٍ يَغُوص بلحظات كادَتْ الذاكرة أن تمحوَها من سجلاَّتها ورقائقها، سهول تغصُّ بالخضرة، أشجار هائلة البسوق، جداول وأنهار تتوزَّع بين ممرَّات وتعرُّجات تضجُّ وتزدَحِم بالخضرة المتفجِّرة من جذور الأرض، أطياف أناس رحلوا، وأطياف أناس وُلِدوا منذ سنوات وأيَّام، مزجٌ بين موتٍ يقود إلى فناء، وولادةٍ تنتظر وصول الفناء.

 

قلت: أوَتظنُّ بأنِّي أخشاك؟ ربما تكون الحياة قادرة على شدِّي نحوها، نحو ألقِها وبريقها، نحو لمعانها وتوهُّجها؛ لكنَّها أيضًا منحَتْنِي القدرة على التواصُل معك قبل الرَّحِيل، ربَّما أكون أنا الوحيد الذي واجَهَك على أريكةٍ مشتركة وهو يستعدُّ لمعرفة كم من الأيام تبقى من عمره، وهذا وحده انتصارٌ أحقِّقه عليك، على قدرتك المحشوَّة بالمجهول، وهذا بحدِّ ذاته امتيازٌ أستَطِيع أن أحشوه بلحظات ما تبقَّى من عمري من خفقات وأنَّات، من آهاتٍ وأحزانٍ، من رؤى تَكاد تخرق صخر الأرض الصلد الموصول جذرُه بجذرك.

 

أنا وأنت نقيضان مندمجان؛ أنت تسعى لسحبي نحو هُوَّتِك العميقة، وأنا أُحاوِل البَقاء بعيدًا عن تلك الهوَّة، هذا الاختِلاف يجمَعه الاندِماج؛ اندِماج موتي مع حسرتك على فقدان متعة بَقائِي مرهونًا بلحظات توتُّرك التي ترسم قسمات الانشِداه والدهشة على مَلامِحي، عندها عليك أن تبحَث عن قادِمٍ جديد، يَحمِل تلك التوتُّرات وذاك الانشداه.

 

قال: أنت جزءٌ يسيرٌ دقيقٌ، أدقُّ من رأس الإبرة، وجودُك لم يكن يومًا جزءًا من تكويني؛ بل عدمك هو كلُّ تكويني، وحين كنت آتي كلَّ صباحٍ ومساءٍ لأطل على وجهِك، كنت أرصد اللحظات والثواني، بل كنت أرصد الهنيهات كي أضمَّك لتكويني، لذاتي، والفرق بيني وبينك أنَّك تفكر بالبقاء والفناء في ذات اللحظة، أمَّا أنا فإنِّي أفكِّر فقط في لحظة الفناء الموصولة بناصيتك المغرقة بالقتوم الآن، بالعبوس، ولو أردت الآن أن أفتَح إحساساتك، مشاعرك، تكوينات نفسك، هموم فؤادك - لاستَطعت أن أريك ذاتك بصورةٍ أنقى وأصفى ممَّا كنت تراها طوال عمرك.

 

انظر إلى هذه الزاوية من المشاعر، هنا تَرقُد ذكريات والِدِك، نظراته، عطفه، حنانه، قدرته على منحك وجبات قلبه وربيع عمره، وفي الزاوية المقابلة يطفو على جدول الأمومة كلُّ ما في أمِّك من نبلٍ ورحمة ووفاء، وهناك مشاعر إخوتك وأخواتك، تمتدُّ من جذر القلب إلى جذر الفؤاد، هنا تَرقُد وأنت طفل بسيط غضٌّ طري وناعم، وهنا فاصِل الامتِداد بين براءة طفولتك وبداية تفتُّح أنانيتك، وهنا صورة شابٍّ لم يفكِّر للحظةٍ بالموت، لم يخشاه، هنا صورتي عندما اقتربت منك يوم تَناثَرت أوردة ساعدك، أتدري؟ أنا أعلم أكثر منك أنَّك استطعت أن ترصد وجودي أكثر من مرَّة، فأنت تنبَّأت بتناثُر المعصم حين كتبت قصَّتك ضجيج الصمت، كنت قد لمست بشعورٍ غريب بأنَّ المعصم سيمزق، لكنَّك رغمَ ذلك لم تُدرِك عمق النُّبوءة حتى الآن، لماذا؟

 

قلت: ربما تستَطِيع أن تُذهِلني، تنقلني من عالم إلى عالم، ربما أيضًا أنَّني لم ألحَظ أبدًا التوافُق بين النُّبوءة وبين الواقع، لكنَّني كإنسانٍ استطعت رغمَ قلَّة إمكاناتي وإبداعاتي في التواصُل مع المجهول، أن أرسم لحظةً من لحظات عمري قبلَ سنواتٍ طويلة من حدوثها، قبلَ أعوامٍ ممتدَّة بخاصرتك المتوقدة للنيل مِنِّي، والأهمُّ من هذا كله أنَّني في تلك اللحظة لم أكن أفكِّر فيك كشخصيَّة رئيسة في تكويني، في وجودي، في عمقي؛ لذلك لم أضَع صورتك بتلك النبوءة باهتِمامٍ تستَدعِيه اللحظة أو تستَحضِره لحظات الارتِعاش والخوف منك، أنت تعلَم تمامًا أنَّني التقيتُك أكثر من مرَّة، يوم كانت البندقيَّة مغروسةً برأسي بعد أن سحبت الأقسام، يوم فلَت رِباط السرَّة، ويوم وقعت في عرض المتوسط، عرفتك أيضًا يوم تَناوَلت بيدي جثث الموتى والقتلى في المخيم، وعرفتك أكثر ما عرفتُك يومَ سحبت روح أمِّي من بيننا بعنفٍ لم أتصوَّره ولم أتخيَّله؛ بل لم أتصوَّر وأتخيَّل أنَّك تملك من قسوة اللحظات الأخيرة مثل ما ملكتَ يومها.

 

يومَها أدركتُ كم القسوة والغلظة التي تكتَنِف لحظات المغادرة، لحظات الصِّراع المرِّ بينك وبينها، وأنت تشدُّ النِّهايات نحو الانسِدال الأخير، وهي تشدُّ اللحظات الأخيرة المتبقية؛ كي تحظى بنظرة وداع لوجوهنا المملوءة بالحزن والأسى والعجز، كُنَّا نحن نرقب المعركة الأخيرة، ووجه يختَزِن أعتى وأدهى لحظات الوَداع المستحيلة، يومَها كنت تقف بكلِّ ما فيك من قوَّة مجهولة وعزم غامض لتمسك بعيونها في حالة الانغِلاق، بدت الجفون وهي تُحاوِل مصارعة جبروتك، وكأنَّها غضب المحيطات والبراكين والزلازل، وبلحظة، لحظة لا تكاد توجد في حِساب الزمن، سحبتها نحو هاويتك، نحن النهاية التي لا نعلم عنها شيئًا.

 

وقَفنا نَبكِي، تفجَّرت الدموع كعواصف قمعيَّة، تسحب كلَّ مكونات وجودها بأعماقها الراحلة، تهاوينا نحو بؤرة العجز القاتل المستبد، بحثنا عنك هنا وهناك، كنت قد تلاشيت، رحلت، وربما كنت موجودًا تُراقِب انفعالاتنا، حسراتنا، صرخاتنا، آلامنا، تمزُّقنا، تشظِّينا، لكنَّك لم تُصدِر همسةً أو أنَّةً، ترَكتَنا نَنعِي الحزن والحنان، الرحمة والرأفة، ترَكتَنا أيتامًا دون أمٍّ يخفق قلبُها لوجودنا فوقَ الكون في مِساحات الزمن، يومَها عرفتك جيدًا، أدركتُ حجم قوَّتك وسطوتك، لكنَّني تمنَّيْت لو كنت تستَطِيع أن تتحدَّث، أن تخيِّرني بين البقاء آلاف السنين فوق الأرض، وبين أن تمتدَّ لحظات أمي فوق الوجود ساعات؛ بل هنيهات الوَداع الأخير، لكنت عرفت مدَى ما أملك لحظتها من قوَّة تستطيع أن تَسِير نحو هاويتك دون خوفٍ أو وجل؛ بل بكلِّ الرضا والحبور، ولعلمت يومها بأنَّ هناك لحظات تُساوِي في وجودها عمرًا يمتدُّ آلاف آلافِ السنين.

 

قال: أنت تملك أن تعيش اللحظات الحاضرة، عليك أن تعرف أنَّ المسافة التي تفصلني عنك أمتار قليلة، لكن مساحة الزمن تَتضاءَل، تنحَسِر، كلُّ الأشياء تقف على وجود الطبيب، ربما لا يكون هناك مُتَّسع لوصول الطبيب، أدرك لحظاتك التي قد تكون اللحظات الأخيرة في استرجاع الماضي، اختزاله، يوم سحبت الأقسام، وكنت أنت تحت رحمة إصبع يرقد فوق الزناد، استطعت أن تلم الزمن، تختَصِره ككائنٍ حيٍّ، كشيءٍ ملموس، رأيتك وأنت تضع إصبعك في بؤرة الزمن، تُمسِكه، كنت أقف هناك لأسحبك، لكنَّها اللحظة الأخرى التي رفع فيها الإصبع عن الزناد، في هذه اللحظة غادرتك، وأنا أعلم بأنَّنا على موعدٍ قد يطول، لكنَّنا على موعد، وهأنا وأنت نلتَقِي مرَّة إثر مرَّة، نتفحَّص وجوه بعضِنا، نمحِّص صدورنا، لكنَّ الفارِق الوحيد أنَّك تملك ما يمكنه أن يجعلك تَخشاني، أمَّا أنا فلا أملك ما يجعلني حتى أفكِّر بخشية أو عدم خشية منك، نحن نقيضان نقف على حافتي التناقض والتضاد؛ البقاء والزوال، الفناء والوجود.

 

حركة الناس في المشفى غير عادية، سريعة مضطربة، تتخلَّلها شهقات وتنهدات، هناك أمر يستَدعِي الاهتمام بلحظة حرجة، لم أحدِّد الغرفة؛ بسبب الحائط المقابل الذي يفصل الجناح الآخَر عن الجناح الذي أنا فيه، وفجأة خرجت امرأة في ربيع العمر، تَكاد تُنافِس الجمال، لكنها ممسوحة الملامح بحزنٍ قاتم، شفتاها ترتَعِشان، وصدرها يعلو ويَهبِط، عيناها كابيتان مرهقتان، تكاد تسقط على الأرض، ومن حولها مجموعةٌ من الناس، يبكون بصمت حارق، يتأوَّهون فتلمس النيران المُتصاعِدة، كل الأشياء، كل الأمور، تتجمَّع، تتلاصق، وفجأة، سمعتهم ينعون للمرأة ابنَها، يُواسُوها بدموعٍ وكلمات، لكنَّها كانت خارج العالم، خارج الوجود، نظراتها تقتَحِم كياني، وكأنَّني مُشارِكٌ بموت ابنها.

 

تذكَّرت الموت، التفتُّ إليه، لم يكن موجودًا، اختَفَى، تبخَّر، تلاشى، لكنَّ المرأة ما زالت تحدق بمكان جلوسه، ترى هل شاهدتْه؟ هل عرفتْ بأنَّه كان هنا؟

 

الموت كان مُلاصِقًا لي، تحدثنا، تحاورنا، ترى أكان هنا بانتِظاري؟ أم كان هنا من أجل الفتى الذي رحَل؟ مُعادَلة مُعقَّدة، مُرِيبة، تدفعك للشك في كلِّ الأشياء، بكلِّ التفاصيل، الصغيرة والكبيرة، لكنَّك لن تصل إلى لحظة الحسم والاقتِناع؛ بل لن تَصِلَ إلى لحظة الاطمئنان والهدوء ولو هنيهات.

 

فكَّرت كثيرًا في مغادرة المكان، أن أرمي كلَّ التفاصيل من خلفي؛ علَّني أشعر ولو للحظة بقدرتي على الانفِصال من براثن المجهول، براثن المستقبل، لكنَّني اكتَشفت بأنَّني كإنسان أعجز عن ترك لحظة ستكشف شيئًا من المستقبل، من المجهول.

 

هل كنت حقًّا صادقًا عندما أخبرت الموت بأنَّني مستعدٌّ للتنازُل عن عمري من أجل أن أمنَح أمي لحظة الوداع الأخير؟

 

كنت مستغرقًا بهلوسات كثيرة، اقتحامات الموت بدأت تهزُّ ذاكرتي، تثقلها، تنوءُ بها، صور الأهل، مَن فارقوا، مَن لمسوا الموت بأيديهم، بأناملهم، بروحهم المخضلة بالغيب المطلق، أخي قاسم، باسم، محمد، أخواتي: صفاء، خالدية، سهيلة، ميسون، أبي، أمي، الجيران، الشهداء، صور تَتزاحَم، تُحاوِل أن تشقَّ لنفسها طريقًا نحو فؤادي وقلبي، أشعر بانهيارِ الزمن، بانهيارِ اللحظات الدافقة برَحِمِ الوجود، الموت كان هنا، لمس روحًا كانت قريبة مِنِّي على بعد يسير، واختفى، هل سيعود، أو أنه ترَك المكان للحظات زمن قادمة، ما زالت في سرِّ المستغلق من المجهول؟

 

لمس الطبيب كتفي، انتَفَضت كصاعقة مجروحة، مثلومة ومعذَّبة، فُوجِئ الطبيب من ردِّ فعل غير متوقَّع، بين الدهشة والاستِهجان بَدَتْ بسمة تكاد تختَنِق، تلوَّت ولابت قبل انطِباعها على الملامح، بأدبٍ شديد اعتَذَر عمَّا حصل، وطلَب منِّي أن أتَّبعه لذات الغرفة.

 

تَبِعتُه كحطامٍ مُهشَّم، تلفَّت بشكلٍ مفاجئ نحو الموت، خفتُ أن يكون قد عاد، لكنَّه ما زال متبخرًا، دخلت، جلست على نفس المقعد، ونظراتي مسمَّرة نحو شاشة الحاسب، فمُ الطبيب ما زال مغلقًا، تطلَّع نحوي، ماذا رأى؟ طلل مُتقادِم، تَحُوطُه أشعار الندْب والبكاء على فراق الحبيبة، انتشلني من ذهولي، أمسَك المؤشِّر: هذا دماغك، أترى هذا الامتِداد هنا؟ أجبت بانحناءة من رأسي، تبسَّم ابتسامة غريبة، تسلَّلت إلى سويداء حدسي مباشرة، أكملَ: كنَّا نظنُّ أن هذا الامتداد نوعٌ من الورم، كأنَّ الصور تخدعنا كثيرًا، وهذا نادرًا ما يحدث، لكنَّنا استطعنا أن نصل للحقيقة، هذا تخثُّر دموي إثر انزلاقة أو ضربة من الطفولة، راقَبناه فترةً من الزمن، لكن ليس هناك أيُّ تمدُّد، الحالة ثابتة، ببساطة هذا لا يشكِّل أيَّ خطرٍ على الإطلاق، تمامًا كحبَّة الخال التي على وجنتك اليسرى.

 

أدار كرسيَّه، ابتَسَم ابتسامة عريضة، نحن بشَر، نُخطِئ ونُصِيب، ونحن من كلِّ قلوبنا نعتَذِر عن الخطأ السابق لتصوُّرنا.

 

صافحتُه وخرجت، كنتُ أحسُّ بملامحي وهي تتبدَّل، الانقِباضات السابقة بدَأَتْ ترتَخِي، نهضت الأطلال من مكانها تضجُّ بالحياة، بالتدفق، كانت الفرحة أكبر من مساحة عقلي ونفسي، لكنَّها مبهمة، فيها شيءٌ غريب غير معهود، الانتقال من ساحة الموت، من مخالب توقُّعه، إلى ساحة الحياة والبقاء، شكَّلت مزيجًا غريبًا، فيه قوَّة، متانة، تشكل رعشات يمتَزِج فيها الألم بالفرح امتِزاج الصاعقة المشلولة عن إحداث تغيير، لكنَّها الحياة، رونقها وألقها، هو الذي دفعني للتحديق مكان جلوس الموت.

 

المكان فارغ، ترى هل سنلتَقِي أنا والموت مرَّة أخرى، قبل اللقاء الأخير والحتمي؟

 

مأمون أحمد زيدان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم