صحيفة المثقف

عبث الحرب وفضائعها في ديوان " قميص قدّته الحرب" للشاعر العراقي علي ابراهيم صافي

716-kahtanبقيت فكرة الحرب وما رافقها من نتائج كارثية على مستوى الفرد و المجتمع ملازمة للشاعر العراقي وخصوصا الاجيال التي عاشت ويلات وتفاصيل مريرة لاكثر من حرب واحدة منذ ثمانينات القرن الماضي. وقد هيمنت على مشاعر الشاعر وطبعت ذاكرته وانحفرت في تصوراته ورؤاه، ولهذا انعكست بقوة في قاموسه وثيماته الشعرية. ورغم محاولات العديد من الشعراء للعروج على موضوعات اخرى مغايرة، فانهم يعودون الى فكرتها او يبثون العديد من صورها وأوجاعها في قصائدهم. لا يشذّ ديوان الشاعر علي ابراهيم صافي   " قميص قدّته الحرب " الصادر عن دار الروسم في بغداد عام 2015 عن هذا الاتجاه. رغم ان الشاعر تمكن من تناول ثيمات اخرى تتعلق بالحب، الخيبة، حالة العجز، المنفى، العبث، الاكاذيب، النسيان ،افريقيا، الطفولة والذكريات، والوطن. وفي كل اشارة الى تلك الثيمات ثمة إحالة على وضع، حادثة ، فكرة او صورة تنهل بعضها مما هو يومي؛ حيث يواجه الانسان قدره في حالة موت او يعاين اوجاعه وخرابه في لحظة عجز عبثية لا تنفتح على افق ما، او في عودة الى صفاء العاشق في قصائد عن الحبيبة والعشق برغم ان الحرب حاضرة في كل ذلك. وفي هذه القصائد ينتقل الشاعر من العام الى الخاص ومن الخاص الى العام في موازنة بين الذاتي- النفسي والواقعي -اليومي. فقيمة الشعر او الشعر على رأي الشاعر الايطالي كوسيمودو تتحقق في قدرة الشاعر على " ان يكيّف العالم عبر حريته وحقيقته"1 وان يتعود عن الحديث عن : العالم الحقيقي بكلمات عامة" 2  

تضّمن الديوان 128 قصيدة او مقطعا شعريا، بدون عناوين ما، و لهذا يمكن النظر الى الديوان باعتباره نصا واحدا تتخلله رؤى متعددة تتمحور على فكرة الحرب. فهل ثيمة الحرب في نصوصه الشعرية هي التعبير المباشر لافكار الشاعر ومشاعره وتصوراته الجمالية عنها، أم انها مجرد قناع اراد التستر به لإضاءة ثيمات اخرى.

 

قسوة الصور الشعرية في متن النص:

716-kahtanحضور الحرب المباشر والمستتر حاضر في القصائد. إذ تتراكم الصور الشعرية القاسية وهي تصف لنا آلام ومعاناة الذين خاضوا الحرب او صرخاتهم المكتومة وهم يطلقونها عنوة في اللحظات الاخيرة باتجاه الموت. يحسّ من يقرأ القصائد بتلك الحيوات وهي تقف مطحونة في هزيمتها النفسية والانسانية، في حرب غير معنية بها، وباحداث صنعتها اقدار اخرى تحولت بفعلها الى هوامش بشرية مؤقتة في التاريخ. في عمق هذه الآلآم والدماء والرعب تسعى القصائد الى الحفاظ على التوازن بين التجربة النفسية والحياتية ، بين الصدمة الانسانية وبين عمق الاحداث وعبثيتها، وهي تلمس بشفافية وحسية عالية تلك التجارب في توحدها وانهياراتها و آمالها المسحوقة في مسعى لجعلها شاخصة في وعي القاريء ممانعة على النسيان:

" في العربة الاخيرة

على مقاعد الدرجة الثالثة

ينام جرحى صامتين

بينما

آلامهم تملأ العربة

بالضجيج"   ص.6

هنا نواجه عالمين ، عبر تهكم سوداوي، فالبشر الذين ساهموا في الحياة مقدمين حياتهم ثمنا لها، وقد عاد بعضهم جرحى، يحتلون عربة الدرجة الثالثة، ولم تعد لهم ذات الاهمية بالنسبة لها، حتى سهرهم الليالي الطويلة " لم يبق منه ، سوى جرح عميق على الكتف "ص.5. فالحرب تريد بشرا اصحاء اقوياء. إنهم ينامون الآن بصمت، رغم ان آلامهم كانت تصرخ دليلا على احتجاج مكتوم غير واع. هذه التضادات، التي تشي القصيدة، تعمّق فكرة العبث بحياة الانسان ووجوده وتحوّله الى مجرد اداة لا قيمة لها، وهو يُطحن في ماكنة الحرب، وهي حر ب مرعبة الى درجة ان الجنود لا يموتون من الرصاص بل من الخوف :

" لم تصبه رصاصة

الجندي الشاب

مات من الخوف " ص.10

لا يكتفي الشاعر بوصف آلام الاخرين وحالاتهم بل يذكر لنا كيف ان الحروب سلبته كلّ شيء بما فيه براءة طفولته؛ فالدخان والظلمة هي التي وسمت حياته:

" الحروب بدخانها

ملأت سماء طفولتي

لذا كبرت

ولم أتعرف الى نجمة واحدة" ص. 51

ويمكننا ان نعثر على هذه التضادات مبثوثة في كل نصوص الديوان تقريبا، ليس فقط فيما يتعلق بثيمة الحرب مباشرة، بل وايضا حين يلج موضوعات وجودية اخرى:

" اراقب غزالا اعمى

في دفتر صبية جميلة

ارسم شجرة ليحتمي خلفها

ينكسر القلم ويجرح الغزال " ص.7

الا ان الاستعارات من صور الحرب ومفرداتها ماثلة في هذا المقطع ايضا؛ كالمراقبة ، الاحتماء، الجرح..وتتكرر في مقاطع اخرى ، حيث الطعنات، الخنجر، رؤوس تتدحرج ..الخ. ص.17-18

وتنمو هذه التضادات حتى تتحول الى عبثية في مقطع آخر متجسدة في محاولة القبض على الحياة في بحثٍ مضنٍ عن اساسيات الوجوده والعيش :

" شبكة الصياد

منذ يوم امس

وهي ملقاة

في بركة فارغة

اليوم وهو يجمعها

لم يجد فيها غير احلام

لا تعيش خارج الماء" ص.13

الى درجة ان هذا العبث يوحي بنهاية مفزعة في نهاية مقطع آخر :

" كلّ شيء تهدم

جبال بعيدة تمدّ جذورها وسط بحار من الحبر

ما ان يجفّ الحبر حتى تنهار الصخور " ص.18

وهذا الانهيار الذي يتسببه خراب الحرب وتدميرها يتحول الى كوابيس يرافق الشاعر ويتسرب الى افكاره وتصوراته الشعرية فتتحول القصيدة- الزهرة الى شواهد قبور :

الاشباح تنام في القصائد،

كلما كتبت قصيدة

نبتت زهرة على شاهدة قبر" ص.21

او حين تتلبسه الحرب كجثة مخبأة في الرأس وتكاد ان تحوله الى قاتل ، ففي حرب كهذه لا يوجد بريء ..الكلّ متهم، فهي حرب ليست عادلة، انها علامة اتهام قائم رغم محاولات دفع التهمة بطرح اسئلة :" يا الهي ، انا لست بقاتل، ماذا افعل بهذه الجثة" ص.28

في تضادات الصور الشعرية يتسلل بعض التهكم ، وباستثناء الشاعر العراقي صلاح فائق الذي طبع التهكم السقراطي- الكيركوردي ( نسبة الى المفكر الدانماركي سورن كيرككورد) شعره، بحيث تحول الى سمة واضحة واساسية فيه ، فان قلّة نادرة من الشعراء الآخرين ، وعلى حد علمي، تمكنوا من استخدام التهكم والسخرية كادوات فنية مهمة تفيد في إضاءة الفكرة والاحاسيس وتعمق الصورة في القصيدة ، فقد فهموا التهكم أما على شكل شتيمة ،هجاء او تبرم، وهي حالات سلبية تشذّ عن الجمال الشعري وتضره، بينما التهكم السقراطي- الكيركوردي يلمس ما هو وجودي ونفسي في الانسان وعلاقاته وتحولاته، ويصبح في النهاية ايجابيا، بحثّه الانسان على الارادة والاختيار والفعل المصحوب بالرفض للظواهر التي تعادي وجوده. وقد نجح الشاعر علي ابراهيم صافي، الى حد ما، باستخدام التهكم في قصائده.

 

الاغتراب والاستهجان:

يرافق هذا التهكم ثمة لحظات اغتراب واستهجان، التي تسم نسيج العديد من القصائد. وهي لحظات تعمق فكرة الحياة اللصيقة بالحرب واجوائها، تتولد عن عبثية ناقمة ، تشي بجزع ما وضياع ووحشة ذاتية:

" ولدت مثل اي كلب ومن كلبة ابنة كلب

لم اتعلم منهما شيئا

حتى النباح تعلمته بجهود شخصية

لا اعرف من اية سلالة انا

رغم ان جميع من يشبهونني

يدّعون اننا خير سلالة

ننعم بحرية غير محدودة حتى ان بعضهم

يطلق علينا حسدا:

كلاب سائبة !" ص.24.

الا ان الاستطراد في نهاية القصيدة اضعف، برأيي، بنيتها الشعرية، فتحول النص الشعري الى مقاربة فكرية تعيد صياغة مفاهيم دينية بتقريرية واضحة، بحيث غلبت الحكاية على شعرية النص، وهو ذات الامر في مقطع آخر الذي جاء على صياغات تحمل صفة الاعلان.ص.29

تتسلل تفاصيل الحرب الى ايام الشاعر العادية ايضا؛ في المقهى، في أحاديثه في بيته، أو مع زميلته ص75، أو حتى وهو مع حبيبته وهي " تلمّ الرصاص الطائش، فما زال هناك متّسع من الحرب" ص.32، أو تلاحقه في المنفى، حين يلتقي جارته السويدية الممرضة، التي خاضت هي الاخرى حربا بشعة ايام النازيين ص.39-40. ولا تترك الحرب وآثارها المدمرة فسحة في حياته دون ان تجد لها تعبيرا ما. انه يرى، وهو يناجي حبيبته، في دعوتها لانتظاره بمثابة حرب، إذ ان خسارتها له تعني نهاية لحياته. أنها حرب اخرى، فحياته عبارة عن حروب متواصلة لا تنقطع:

" انتظريني..!

لم تبق أمامي

سوى حرب واحدة

أخسرها..

لأقفل باب

حياتي." ص.138

لكن الشاعر يذهب الى ابعد من وصف مشاعره الذاتية وردة فعله الخاصة على الحرب، فلا يكتفي بوصف حالة الاغتراب الذاتية التي يعاني بسبب اهوالها، بل يدقق ويغوص في حالة الجنود ومواضعهم وانشغالاتهم اليومية ، التي تتسم بالتهكم والمفارقة، حيث ينشغل الجندي، في واحدة من المقاطع، رغم هول الحرب وتسلط الموت والرعب اليومي، بتلك الاشياء الصغيرة التي تبدو تافهة للذين يعيشون حياة عادية، في محاولة منه للابقاء على جذوة أمل ممكنة في الوجود، والرغبة في ممارسة حياة عادية ، وهي واحدة من قصائد الديوان الممتعة جماليا. ص.30-31

 

لغة القصائد:

تكشف طبيعة اللغة المستخدمة في النص الشعري والطريقة التي يتناول بها الشاعر موضوعاته عن قدرته او عدمها في التعبير والتوصيل الجمالي والفكري للقصيدة. فالدلالات اللغوية هي انزياح " عن مدلولها الذي وضعت له ، والذي هو اساسا، اي هذا المدلول، الموجودات الطبيعية والمادية"، على حد تعبير الناقدة د.يمنى العيد(3)، ناهيك عن الانسانية. وهكذا نرى ان فكرة الموت التي تمثل علامة استفهام غير حيادية، واللغة التي جاءت في بعض الاحيان حادة، صادمة ومتهكمة بسودواوية واستهجان، تنسجم مع طبيعة الثيمات التي يشتغل عليها الشاعر في مقطع .ص.63، او كما في :

"في الخندق الطويل

المليء بالجثث، يمرّ الجندي

ضجرا

متململا

وهو يبعد

عن أنفه

ذبابة مزعجة" ص.82

وهي لغة تفوح منها رائحة الجثث، والقتلى واللاجدوى، محرضة عبر هذه الصياغات بنفس الوقت على عبثية الحرب وضياع الاحلام وانعدام المستقبل ولا عدالة الحياة. مع ذلك فقد تمكن الشاعر من الحفاظ في العديد من قصائد الديوان على لغة تعبيرية شفافة موحية، ببساطة الصياغات وعمقها في آن واحد :

" حين تتركين عطرك

على الرصيف

اترك انا قلبي

ليحرسه" ص.46

انها لغة تلتقط مما هو يومي ودارج، مع انها تلجأ احيانا الى استخدامات تنحو الى خلق صور و اشكال غرائبية في محاولة لكشف تناقضات المشهد الشعري وتعميق ابعاده، وعرض تفاصيله وحدّة موضوعاته. كما في ص.23، ص.28، ص.وتتسرب هذه الحدّة الى لغته حتى وهو يكتب عن الحب" أنتِ الجرح الذي ترك السكين- وغار في العمق .." ص.102

رغم انه يحاول مع ذلك ان يخفف من مشهد الموت حين تتحول القبور الى زهور لكثرة ما سقطت من دموع، ص.105. وحين يتغنى بحبيبته ص.106

لكن بعض القصائد، على قلّتها، وقعت في تعليمية مباشرة تحمل صفة الشعار " تصدأ الرصاصة، لكنها تظل قاتلة" ص.27، أو " الحرب: رحلة الرصاصة الى قلب الجندي" ص.67. او غلبها الاستطراد الذي اضعف التكثيف اللغوي الذي يتطلبه الشعر تجنبا للوقوع في السرد اللاشعري.ص.24 رغم ان الناقد رومان ياكوبسون يحذرنا من وضع مقاييس محددة للنظر الى القصيدة والاستخدامات الشعرية للشاعر ، او كما يكتب " لا تثقوا ايضا في الناقد الذي يستفز شاعرا ما باسم الاصالة وباسم ما هو طبيعي" (4)، لانها بنظره ستحد من مغامرة الشاعر للتجريب وطرق اشكالا تعبيرة شعرية مغايرة، لكنني ارى انها ملاحظات ضرورية عند اية قراءة نقدية متروك للشاعر نفسه تقديرها.

وفي الختام يمكن القول ان الشاعر علي ابراهيم صافي حقق في ديوانه الراهن ما هدف اليه في كتابة نصوص موحية بلغة معبّرة عن الحرب، لكنه بنفس الوقت، لم يتوقف عندها، بل استفاد من ثيماتها كقناع لعرض قضايا اخرى تخص الانسان ووجوده. واذا كان هذا هو عمله الشعري الاول، وهو ما يمكن ان نعزو اليه التكرار احيانا وضيق القاموس الشعري، فانه يمثل اضافة مهمة في الكتابة عن الحرب والقدرة على استخدامها كقناع للتعبير عن موضوعات وجودية اخرى.

 

................

هوامش:

كل ما نوهت اليه من ارقام الصفحات هو اشارة الى صفحات الديوان: علي ابراهيم الصافي: " قميص قدّته الحرب، بغداد : دار الروسم، 2015

1) Jack Beavan translation and introduction : Salvatore Quasimodo- complete Poems, Lobdon: Anvil Press Poetry, 1983, p. 18

2) Ibid, p.19

3) د.يمنى العيد، في القول الشعري، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1987، ص.11

4) رومان ياكبسون، قضايا الشعرية ( ترجمة محمد الولي ومبارك حنوز) ، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1988، ص.11

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم