صحيفة المثقف

صلاح فائق: الشاعر الذي يحرضنا على التحديق في تفاصيل الكون

أود اولا ان اقدم جزيل شكري وامتناني للاصدقاء المشرفين على هذه الندوة ، ومنهم الشاعر محمد حربي، والشاعر والمترجم محمد عيد ابراهيم والشاعرة مها شهبة .. لاتاحة هذه الفرصة لي للقاء بكم وبالجمهور الحاضر حول الشاعر الحاضر بيننا رغم عدم حضوره في الامسية صلاح فائق.

ميزة هذه الامسية انها لامؤسساتية. انها تحمل خفقات قلوب افراد واحاسيس من يقف خلفها وحماسهم للاستشراف على الآخر خارج الشلليلية الثقافية ، اي انها تسعى لترسيخ تقاليد ثقافية تنتمي الى الابداع وحده.

مداخلتي ستكون مكثفة وقصيرة جدا لكي لا تفقد الامسية بهجتها الشعرية. وتقوم هذه المداخلة على الاشارة الى اربع سمات يتصف بها شعر صلاح فائق. وهذه السمات هي :

- المفاجأة

- المفارقة أو المشاكسه، كما يحب الشاعر ان يسميها كذلك بنفسه

-الاحتجاج واخيرا

- التكرار، وهو تكرار بالمفهوم الكيرككوردي، نسبة الى المفكر الدانماركي الوجودي سورن كيرككورد، اي بمعنى الاستعادات التي تحيلنا على الحاضر، رغم انشغالها بتفاصيل االماضي .

صلاح فائق شاعر لا يحتاج الى تعريف، فهو شاعر غزير الانتاج وهو انتاج بقي مواصلا اصالته الابداعية ، منوّعا عليها، مثريا خفاياها. ولهذا فان شعره يحتاج الى بحث اعمق وتدقيق اكبر في اللغة، البناء الشعري، الصورة الشعرية، الاستعارات الفكرية والادبية، الرمز، ثم التركيبة اللغوية الداخلية للمعنى الشعري في قصائده.

تعتبر المفاجأة واحدة من الركائز الاساسية في قصائده، وهي مفاجأة لا تنبع ، كما يعتقد البعض من انشغاله السريالي بالتركيب اللغوي، الذي يرتكن على على ما هو غرائبي، بسبب ان قصائده متخمة بحيوانات غرقى، نساء عاريات في لحظات غريبة، كلب اضاع عظمته، ملوك هاربين، "محيط ماؤه قليل" ، شتائم طويلة ، زلازل، فيضان مباغت وغيرها من عشرات الصور والالتقاطات الشعرية. فهذه الالتقاطات التي تحمل سمة المفاجأة ما هي الا اختيارات وافعال انسانية راهنة، تغترف من وعاء اليومي المسّربل بمزيج من المتخيّل والواقعي، من الولادة والموت، خراب الاشياء او ديمومتها، من هزائم الانسان وانتصاراته . وهذا يكشف لنا و يساعدنا كقرّاء ومتلقين على ان نقف لحظة لنحدق لا في العالم من حولنا وفي صيرورة الاشياء التي يتناولها في قصائده بل وايضا في دواخلنا لاكتشاف المتضادات، او ما يسميه كيرككورد المفارقة - المشاكسه، وهذه هي السمة الثانية التي يتميز بها شعره. وهي مفارقة ومشاكسه ديالكتيكية غير طاردة او نافية للآخر، بل تعيش معه ، انها المتقابلات الحياتية التي نعيش صراعاتها الدائمة والتي يقوم عليها وجودنا باكمله. وتكمن قدرة صلاح فائق على جمع كلّ هذا الكم الهائل من التفاصيل الصغيرة اللامرئية احيانا في قصائده، حسب رأيي، هو انشغاله الصارم بمعاينة الاشياء ، حد الوله والافتتان بها..فالشاعر الحقيقي المبدع، هو الذي يرتعش لموت فراشة، او انكسار مساعي نملة في كفاحها اليومي، او عويل امرأة ، او خيبة طفل، او تحطم باخرة، حيث نجده ونعثر عليه صاحيا في كل هذه التصورات والصياغات الشعرية. الا ن انشغالاته الشعرية هذه لا تكتفي بما هو عادي ، مقبول ، بل تتجاوز المألوف و ترمي الى ابعد من ذلك؛ اثارة السؤال، وهو سؤال مفتوح قابل للتأويل المستمر، المشرّع على احتمالات عديدة. كما ان الشاعر لا يكتب ، على الرغم من الانشغال باليومي، بدافع ايديولوجي ، او تحت يافطات او شعارات ترفعها حكومات او مؤسسات. انه شعر نبت و ترعرع خارج المؤسسة وبالضد منها باشكالها الثلاثة ، الحزبية والحكومية والشعبية، او كما كتب الشاعر يوم 25.02.2015 على صفحته في الفيسبوك في توضيح على بعض الاسئلة المتعلقة بالسبب في انصرافه عن التعليق على الاحداث السياسية كما يلي ؛

" ساعمل على الكشف عن الشعري في الحياة اليومية، وقيمه ، وفي حياتي المتنوعة والغنية ، لانها بدأت من السومريين، مرورا بأيامنا، والى الافق"

انه يكتب اوجاعه، احلامه الضائعة وكلّ مايقلقه في تفرده ووحدته. او كما يكتب في احد نصوصه:

" فحياتي منعزلة،

وهناك أحجار ثقيلة تسكن روحي

:انها ضباع هاربة من كتاب مقدس

أو كاميليات مذعورة من غقتراب سور"

ولهذا يتسلل شعره، رغم عمق تصوراته وافكاره وغرائبيتها، الى قلوبنا ، لان قصائده تحدق ايضا في نزيفنا المفتوح على مداه، وتؤشر بسبابة غاضبة الى خرائبنا ، خراب الانسان ، فزعه وهزائمه ، ولكن ايضا الى سعاداته وافراحه القليلة . انه يحرضنا عبر الغضب المتهكم باستمرار ، كما في واحدة من قصائده الاخيرة :

" هذا العالم يستحق شتائم طويلة

بدل أن نملأ جيوبنا بالتوت

برسائل ممزقة

أو نصفع عميانا في أزقة "

وهذه هي السمة الثالثة في شعره، اعني الاحتجاج. إذ لا تخلو قصيدة من قصائده من هذا الاحتجاج ، من ومضة غضب ساطعة واحيانا بصورة مموهة، ضد كلّ ما يخدش جمال الانسان وروحه والاشياء في الطبيعة، لكنه مع ذلك احتجاج وغضب غير متبرم او كاره بل واع، يحرث في ابعاد ما هو شعري وجمالي، فالسمة الاحتجاجية عند صلاح فائق ، تنبع من مهة الشعر ذاته التي تهدف الى تحفيز طاقة التخيّل والاحساس بالوجود، أنه ليس أداة تخدير او أنشغال مؤقت بما هو عرضي، بل " لسرد مشاكل الوجود المطلق" كما يقول هو.

اما فيما يتعلق بالسمة الاخيرة ، واعني بها التكرار، فهي لا تتعلق بالتشابه ، او المعنى الشائع ، اي ترديد ميكانيكي للاشياء والصور والمعاني، بل بمعنى فلسفي وجودي اعمق، يأخذ من الماضي ولا يقف عنده لإضاءة احداث الحاضر الراهن وافاقه ، ونجد هذا بصورة جلية في قصائده حين يتحدث عن مدينته كركوك، أمه، ابيه، اصدقائه القدامى ، المقاهي التي مرّ بها اوالمدن التي تركت جرحا في الذاكرة وغيرها وغيرها في صور ولغة شعرية ، تبدو في الظاهر مكررة، لكنها تحمل معان جديدة وتنفتح على اسئلة ذات آفاق اخرى متنوعة وموضوعات وآلام وافراح وحسرات لبشر نعرفهم او نعتقد اننا التقينا بهم.

وختاما اقول: إن شعر صلاح فائق يمثل حالة انتصار، انتصار للمثقف الذي يقف مع جمال الانسان ونقائه وامله الممكن في حياة افضل. وكل قصيدة يكتبها تمنحنا بنفس الوقت متعة جمالية وشعورية جديدة.

المشكلة الوحيدة انه لم يترك لنا شيئا لكي نكتبه..رغم انه يحثنا على الكتابة باصرار لكي لا نموت.. وشكرا لكم.    

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم